ترجمة وتحرير: نون بوست
على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، نُقل عشرات السوريين الذين كانوا يعيشون في الأردن بمركبات عسكرية عبر الصحراء القاحلة والعديد من نقاط التفتيش الأمنية، وأُلقي بهم في منطقة خالية من الناس تسيطر عليها الولايات المتحدة على طول الحدود الأردنية السورية.
كانت وجهتهم النهائية هي الركبان، وهو مخيم غير رسمي للاجئين يقع داخل المنطقة التي تُشرف عليها الولايات المتحدة. يشتهر مخيم الركبان بأوضاعه الإنسانية المأساوية والحصار المطبق المفروض عليه، والنزاع بين الأردن وروسيا وسوريا والولايات المتحدة بشأن الطرف المسؤول عن آلاف المدنيين الذين يعيشون داخله.
في هذا الشأن، يقول علاء الحسّان، البالغ من العمر 30 سنة، وهو عامل بناء سوري طلب التحدث تحت اسم مستعار حفاظا على سلامته: “يبدو الأمر وكأنني قد اختفيت من الوجود”. يضيف الحسّان أنه تم ترحيله من جنوب الأردن إلى الركبان في أيلول/ سبتمبر.
وفي بيان عبر البريد الإلكتروني صدر هذا الشهر، أكدت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن الأردن نقل منذ تموز/ يوليو 36 سوريا إلى الركبان، بينهم 12 فردا وقع ترحيلهم “لأسباب أمنية” مع بعض أفراد عائلاتهم. ووقعت عملية الترحيل الأخيرة التي وثقتها المفوضية يوم 6 تشرين الأول/ أكتوبر، وشملت لاجئين اثنين.
وفقا للحسّان، لم يقع إعلامه بأي سبب محدد لنقله ولم يُمنح أي حقوق في اتخاذ أي إجراءات قانونية. الآن، أثناء تواجده في الركبان، ينام على أرضية كوخ فارغ يملكه شخص آخر. نفدت الإمدادات في المخيم، ومثل كثيرين، لا يملك الحسّان مصدر دخل منتظم.
في الواقع، وفقا لمنظمة العفو الدولية، فإن الوضع سيء للغاية لدرجة أن بعض اللاجئين المرحّلين اختاروا العودة إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة في سوريا، حيث يواجهون خطر الاضطهاد والسجن والموت. وقد تضاءل عدد السكان في مخيم الركبان في السنوات الأخيرة، من حوالي 45 ألف سنة 2018، إلى ما بين 10 آلاف و12 ألف حاليا. لكن هذا لا يجعل الأمور أسهل بالنسبة لأولئك الذين يتم ترحيلهم إلى هناك.
وقالت ماري فوريستير، الباحثة والمستشارة في شؤون حقوق اللاجئين والمهاجرين في منظمة العفو الدولية، عبر الهاتف في أيلول/ سبتمبر الماضي: “إنه خيار مستحيل”. وبحسب فوريستير، فإن حالات الترحيل تشكل انتهاكا واضحا للقانون الدولي لحقوق الإنسان من جانب الحكومة الأردنية، لا سيما تلك التي تحظر الإعادة القسرية وإرسال اللاجئين وطالبي اللجوء إلى دول يتعرضون فيها لخطر الاضطهاد.
يرتكز الحضور العسكري الأمريكي في هذه المنطقة الاستراتيجية عند المثلث الحدودي بين الأردن وسوريا والعراق
وأضافت فوريستير:” أخبرني أحدهم أنه يُفضل الموت هنا في الركبان، حيث لا يستطيع السكان الحصول على ما يكفي من الطعام والمياه، بدلا من المخاطرة بحياته والعودة إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية”.
يمكن أن تُعزى الأوضاع المتدهورة في الركبان جزئيا إلى الصراع المحتدم للسيطرة على الشريط الحدودي الذي يبلغ طوله 34 ميلا، ويقع ضمنه المخيم.
في الواقع، يرتكز الحضور العسكري الأمريكي في هذه المنطقة الاستراتيجية عند المثلث الحدودي بين الأردن وسوريا والعراق، على قاعدة التنف العسكرية التي تضم جنودا أمريكيين ومجموعات من المقاتلين السوريين الموالين للولايات المتحدة، وتقع على بعد 15 ميلا من المخيم.
على خلفيّة هجوم شنه تنظيم الدولة سنة 2016، أغلق الأردن حدوده وعرقل وصول المساعدات الإنسانية إلى المخيم. ومنعت الحكومة السورية والقوات المتحالفة مع روسيا باستمرار دخول المساعدات إلى المنطقة في محاولة لإجبار قوات التحالف على الخروج، بينما لم تتخذ الولايات المتحدة، التي تسيطر نظريا على المنطقة، أي إجراءات تقريبا فيما يتعلق بمدّ سكان المخيم بالمساعدات الإنسانية.
وتقول سارة كيالي، الباحثة السورية في هيومن رايتس ووتش، والتي توثق انتهاكات حقوق الإنسان في المنطقة، في مكالمة عبر الهاتف في أيلول/سبتمبر: “إن هذا الوضع عبارة عن صورة مصغرة للصراع السوري، حيث يعبّر الجميع عن تعاطفهم مع المدنيين، لكن لا أحد يتحمل مسؤولية إنقاذ هؤلاء الأشخاص”.
خلال الشهر الماضي، روى شهاب شكري، وهو ممرض يعيش في الركبان منذ سنة 2016، بعض القصص عن أولئك الذين يسكنون في المخيم، من بينهم طفل يبلغ من العمر سنة واحدة توفي بعد أن عاني لأسبوعين من الإسهال المتواصل، وعائلات تجهز الخبز على نار وقودها الحفاضات المستعملة والأحذية القديمة، إلى جانب نساء حوامل يُجبرن على السفر إلى الأراضي السورية الواقعة تحت سيطرة الحكومة للخضوع لعمليات ولادة قيصرية.
في غضون شهر واحد خلال السنة الماضية، توفي ثمانية أطفال دون سن الخامسة في المخيم بسبب انخفاض درجات الحرارة وعدم توفّر الرعاية الطبية الكافية في فصل الشتاء. ويقول شكري: “أصبح الوضع كما لو أننا نعيش في العصور الوسطى. وعلى الرغم من أن الغذاء والرعاية الصحيّة والتعليم تعدّ من الضروريات، يبقى الناس هنا في الركبان محرومين من كل ذلك”.
هناك الكثير من النقاشات بشأن الأوضاع في مخيم الركبان، ومن بينها ما يتعلق بمسؤولية الولايات المتحدة عن تقديم المساعدة لسكان المخيم، وهو ما يثير الكثير من الجدل.
الولايات المتحدة مطالبة بمساعدة اللاجئين وفق ما تنص عليه اتفاقية جنيف
عندما سُئل المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، جيمس جيفري، عن رأيه بخصوص هذه المسألة خلال مقابلة صحفية السنة الماضية، قال إن “الجيش سئم من أن يطلب منه المسؤولون في الحكومة الأمريكية القيام بمهام مدنية”.
وفي مناسبة أخرى، قال جيفري للجمهور في منتدى أسبن الأمني سنة 2019 إن توفير الطعام للمدنيين في الركبان قد يعطي انطباعا أن التواجد الأمريكي سيتواصل في المنطقة، وهو أمر لا تستطيع الولايات المتحدة الالتزام به.
اعترض روبرت فورد، الذي شغل منصب سفير الولايات المتحدة في سوريا من سنة 2011 إلى 2014، على أسلوب تفكير جيفري، مشيرا إلى الالتزامات القانونية والأخلاقية تجاه اللاجئين الذين يعيشون في منطقة تسيطر عليها الولايات المتحدة منذ أربع سنوات، وستظلّ كذلك في المستقبل القريب.
وصرح فورد مؤخرا أن قرار الولايات المتحدة بمغادرة المنطقة قريبا، “قد يكون قرارا صائبا، وقد لا يكون كذلك.. لقد دافعت شخصيا عن قرار الخروج من سوريا، ولكن طالما أننا متواجدون هناك، لدينا واجب تجاههم”.
في تحليل قانوني للوضع، استشهد فورد وكارولين أوكونور، وهما خريجا كلية الحقوق بجامعة ييل، ومتخصصان في قضايا اللاجئين والنازحين، بالمادة 55 من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تنص على أن القوى المحتلة في النزاعات المسلحة الدولية ملزمة بتوفير الغذاء والإمدادات الطبية للسكان في حال كانت الموارد في المناطق التي يسيطرون عليها غير كافية.
حسب فورد وأوكونور، فإن الولايات المتحدة مطالبة بمساعدة اللاجئين وفق ما تنص عليه اتفاقية جنيف، فهي في نزاع مسلح دولي مع سوريا (وفقا لحكم اللجنة الدولية للصليب الأحمر سنة 2017)، كما يمكن اعتبارها قوة احتلال (حيث عرّف هذا المصطلح في اتفاقية لاهاي لسنة 1907 ودليل قانون الحرب التابع لوزارة الدفاع)، بالإضافة إلى أن الموارد في الركبان ضئيلة بشكل واضح.
وأضاف فورد: “يتعين على صانعي السياسة الأمريكيين أن يدركوا أنه في حال اتخذوا قرارا يتعلق بإرسال الجيش الأمريكي إلى مكان معين للقيام بأي مهمة سياسية أو عسكرية أو أمنية، فإنهم يتحملون بذلك جزءا من المسؤولية”. وتابع قائلا: “إنه لأمر مدهش بالنسبة لي أن الأمريكيين يرفضون قبول هذه الفكرة”.
ويتفق محمد درباس رئيس المجلس المحلي لمخيم الركبان، وأحد سكان المخيم منذ خمس سنوات، مع هذا الرأي. ويقول درباس في هذا الشأن: “في الواقع، لا تنطلي حججهم على طفل صغير”. ويضيف: “هذه وصمة عار لكل القوات المتحالفة وكل أمة تدعي أنها صديقة للشعب السوري”.
يمكن للولايات المتحدة أن تمارس ضغطا أكبر على السلطات الأردنية لإنهاء عمليات الترحيل
يشعر آخرون في الركبان، مثل عماد غالي، الناشط الإعلامي البالغ من العمر 28 سنة، والذي يضطلع بمهمة نشر أخبار المخيم إلى العالم الخارجي، بالامتنان للحماية الأمنية التي توفرها الولايات المتحدة، لكنه يود لو يقع تزويد المخيم بالمزيد من المساعدات الإنسانية.
يقول غالي: “بصراحة دون وجودهم، كنا سنكون بلاشك أهدافًا سهلة”. ويضيف: “لكننا نطلب منهم أن ينظروا إلينا بعيون الرحمة ويقدموا لنا المساعدة، فقط بالقدر الذي تتطلبه مسؤوليتهم”.
على الرغم من أن الولايات المتحدة أكدت في أكثر من مناسبة أن المهمة الأساسية للقوات المتمركزة في التنف هي درء التهديدات الأمنية الإقليمية – وهو ما يبررون به ترددهم في تقديم المساعدة إلى سكان الركبان حتى اللحظة الراهنة – لا يوجد أي دليل على أن القوات الأمريكية اتخذت إجراءات لمنع عمليات الترحيل التي تقوم بها السلطات الأردنية.
وزعمت مصادر متعددة في الركبان، بما في ذلك محمد درباس، أن القوات الأمريكية كانت على علم بعمليات الترحيل الأردنية التي بدأت في يوليو/تموز، واستمرت طيلة الأشهر التالية.
في شأن ذي صلة، أوضح هاردين لانغ، نائب رئيس منظمة اللاجئين الدولية خلال مقابلة في أكتوبر/تشرين الأول قائلا: “إذا بذلت الولايات المتحدة جهودًا حقيقية لإيصال المزيد من المساعدات الإنسانية إلى المخيم من خلال وجودهم في التنف، فأنا متأكد من أنهم سيكونون في وضعية تمكنهم من العمل مع الحكومة الأردنية لوضع حد لعمليات الترحيل”.
وأوضح لانغ، الخبير في السياسة الخارجية والأمن القومي، والذي أشرف على دراسات حول الجهود العسكرية في تحقيق الاستقرار، أنه من خلال الاضطلاع بدور أكثر نشاطًا في معالجة أزمة الركبان الإنسانية، يمكن للولايات المتحدة أن تمارس ضغطا أكبر على السلطات الأردنية لإنهاء عمليات الترحيل.
في الوقت الحالي، يواجه أولئك الذين تمّ ترحيلهم إلى الركبان خيارات صعبة: البقاء في المخيم والموت جوعا، أو الرحيل والمخاطرة بحياتهم داخل سوريا.
خوفا من التجنيد الإجباري في سوريا، قرر الحسّان، عامل البناء الذي تمّ ترحيله إلى الركبان في شهر أيلول/سبتمبر، البقاء في المخيم. وإلى جانب بقية سكان المخيم، يستعد الحسّان للبرد القارس في فصل الشتاء، ويحسب أيامه في انتظار نفاد المؤونة.
المصدر: فورين بوليسي