ترجمة وتحرير: نون بوست
تقف امرأة على خشبة المسرح في مركز الصاوي الثقافي بالقاهرة، في قاعة تعج بجمهور متنوع من جميع الفئات العمرية، ثم تمسك بمكبر الصوت وعيناها مغلقتان وهي تترنح وتبدأ بتأدية أغنية نانسي سيناترا المستوحاة من أغنية مجموعة “سوني آند شير” سنة 1966 بعنوان “بانغ بانغ” ( ماي بيبي شات مي داون).
كنت في السادسة وكان في الخامسة
ركبنا الأحصنة المصنوعة من الخشب
إرتدى الأسود وأنا ارتديت الأبيض
كان دائما يفوز بالقتال
بانغ بانغ، لقد أطلق عليّ النار
فجأة تظهر امرأة أخرى على خشبة المسرح، تترنح بعنف وتبدأ في الغناء على أنغام الأغنية نفسها. لكن كلمات أغنيتها مختلفة تمامًا عن كلمات الأغنية الأصلية، كما كانت تنطقها بلكنة إنجليزية صارمة.
لقد قتلني حبيبي
لقد طعنني في ظهري
لماذا يا حبيبي…
ثم تحولت بعد ذلك إلى اللغة المصرية العامية، مع إضافة بعض الكلمات الإنجليزية.
ما الذي نستطيع قوله؟
لقد كان الرجل الخارق بالنسبة لي، الوحيد الخارق في كل شيء
ليس هناك أي شيء خارق مثله
من يمكنه أن يصدق أن حبيبي طعنني في ظهري
لماذا يا حبيبي؟
ترافق ضحكات الجمهور المتعالية حركات المرأة المترنحة وسقوطها على خشبة.
صورة من حفل الذكرى الخامسة لتأسيس فرقة بهججة الذي أحييته الشهر الماضي في القاهرة.
المطربتان، سمر جلال، البالغة من العمر 31 سنة، ووئام عصام، البالغة من العمر 30 سنة، هما عضوتان في فرقة بهججة، وهي فرقة متكونة من خمس نساء تعيد إحياء المونولوج الموسيقي الكوميدي التقليدي في مصر، وهو شكل من أشكال الكوميديا والقصص الهزلية الغنائية المستوحاة من الحياة اليومية. وقد أصبح هذا الفن الذي ازدهر في مصر في منتصف التسعينات، يظهر أساسا في الأفلام التلفزيونية الكلاسيكية التي يعاد بثها على القنوات المصرية.
في الواقع، تعدّ عروض فرقة بهججة مزيجا من المونولوجات الموسيقية الكلاسيكية والقطع الحديثة التي تتضمن كلمات وموسيقى جديدة. يُذكر أن بعض كلمات عروضهم كتبها شعراء مصريون شباب ومؤسس فرقة بهججة ومنتج الموسيقى أيمن حلمي.
وقد صرّح حلمي لموقع “ميدل إيست آي”: “لقد أسست الفرقة لتقديم شيء جديد، نقدم عروضا مضحكة، وفي الوقت ذاته نقدا اجتماعيا مقبولا”.
تشكلت فرقة بهججة سنة 2015 بعد أن نشر حلمي رسالة على صفحته على فيسبوك يدعو فيها المغنيات والممثلات الكوميديات للقدوم من أجل القيام بتجارب الأداء لمرة واحدة. تقدمت 40 امرأة لاجتياز تجارب الأداء، ولكن تم اختيار خمسة فقط.
كان المشروع الأول عبارة عن تقديم عرض لمرة واحدة، لذلك، قمن بالاستعداد والتحضير للعرض على امتداد شهرين. وأوضح حلمي أن مستقبل الفرقة كان يعتمد على نجاح العرض الأول.
وأضاف حلمي: “في البداية، لم أكن متأكدا مما إذا كان الجمهور سيتقبل فرقة مونولوج تتكون حصرا من النساء. لكنني اندهشت عندما اجتذب الحدث الناس من جميع الأعمار. لم أتخيل ذلك القدر من النجاح. لقد أثبت لي العرض أن الناس حريصون على مشاعدة هذا النوع من الفن”.
إثر ذلك، قام حلمي بتوظيف العديد من العازفين الذكور على آلات مثل العود والأورغ والأكورديون والطبلة (الطبول الشرقية) والكمان والبانجو والكاجون.
في الواقع، تعكس بهججة، التي تعني الفرح باللهجة المصرية، هدف الفرقة التي تسعى لمساعدة الناس على النظر إلى الجانب المشرق، كما هو الحال في أغنيتهم “الاكتئاب ممنوع”، حيث يحثون مستمعيهم على عدم التفكير في أي شيء سلبي، بما في ذلك السياسة:
” كله يزغزغ كله”
وآخر نكته يقول له
ممنوع الكلام ع البلاوي
“ممنوع”
من جهتها، تقول شروق الشريف، وهي عضوة في الفرقة وتبلغ من العمر 26 سنة، متخرجة من المعهد العالي للموسيقى في القاهرة، وتعزف أحياناً على المزمار في بعض أغنيات الفرقة، إن “مونولوجات اليوم تختلف عن المونولوجات الكلاسيكية من حيث المواضيع والأساليب. وبالنسبة لفرقة بهججة، فنحن نركز على المواضيع المتعلقة بالمرأة، على غرار العنوسة والتسوق والعمل والعلاقات مع الرجال وألاعيبهم”.
وقالت لموقع “ميدل إيست آي”: “وجدت ما كنت أبحث عنه من خلال الانضمام إلى فرقة بهججة، التي تدمج الموهبتين اللتين أحبهما: الغناء والتمثيل”.
ازدهار المونولوج الموسيقي
ظهرت المونولوجات الموسيقية الكوميدية في مصر مع ظهور المسرح في مطلع القرن العشرين. وقد أدرك فنانو المونولوج الأوائل الحاجة إلى إدخال عنصر الكوميديا إلى المسرح والدراما.
وقد أصبح هذا الفن شائعا على نطاق واسع في الثلاثينات، وذلك تزامنا مع ازدهار البث الإذاعي المصري. ولكن تطلب الأمر تطوير السينما في الأربعينات حتى بدأ هذا الفن في الظهور في شكل جديد، وبدأت عروض المونولوج الموسيقية في الظهور في الأفلام الشعبية.
في هذا الشأن، تقول المطربة ومقدمة البرامج الإذاعية والتلفزيونية زهراء رامي، التي قدمت سلسلة إذاعية عن تاريخ المونولوج الموسيقي في وقت سابق من هذه السنة: “يتميز كل مونولوج بأسلوبه الخاص. وقد كان لكل منهم أصوات جميلة ساعدتهم في أن يصبحوا مشهورين من خلال الغناء، ولكنهم اختاروا فن المونولوج كمحور أساسي”.
وكان من بين الرواد عمر الجيزاوي (1917-1983)، وهو فنان مونولوج مشهور ولد في مدينة أسيوط بصعيد مصر. اشتهر الجيزاوي بلعب دور الصعيدي، وهو رجل من صعيد مصر يرتدي ثوبا تقليديًا فضفاضا. ويعتبر محمود شكوكو (1912-1985) فنان مشهورا آخر تطرق في مونولوجاته إلى مشاكل الطبقة العاملة، ومنها أسعار المواصلات العامة الباهظة وارتفاع أسعار اللحوم.
من سنة 1955 إلى 1959، قام الممثل الشهير وفنان المونولوج إسماعيل ياسين ببطولة العديد من الأفلام التي تحمل اسمه العنوان، منها “إسماعيل ياسين في الطيران”، و”إسماعيل ياسين في الجيش” و”إسماعيل ياسين في البوليس”، وتتضمن عددًا من المونولوجات الشهيرة.
تقول زهراء رامي: “هذا الفن غني، حيث يتضمن تجسيدا للشخصيات، كما أنه يعالج مجموعة واسعة من المواضيع، بالإضافة إلى التمثيل والكوميديا. وتضيف: “المونولوجي هو الوحيد القادر على إضحاك الناس في سياق موضوع درامي”.
20 جنيه لله
ترتبط المواضيع التي تتناولها فرقة بهججة بالقضايا الاجتماعية الحالية. من خلال طابع كوميدي، تتطرق الفرقة لمواضيع السياسة والحب. اشتق اسم إحدى مسرحياتهم من اسم الخاطبة “طنط دوسا”، التي جعلت المغنية “تكره أيام الخميس، عندما قدمت لزيارتها وتحدثت معها عن عريس جديد”:
لا ، طنط دوسا، مش عايزاك تشوفيني
عايزاك تحسي بيا شويه وترحميني
هي بيعة وشروة و إلا حسبة مقاولة
ووفقًا لما قاله حلمي، فإن أغانيهم غالبًا ما تستند إلى اقتراحات يقدمها أعضاء الفرقة بأنفسهم: “وئام عصام [التي أدت دور المخمور في العرض] اقترحت أغنية بانغ بانغ ومزج القليل من الدراما والمرح معا. ويؤكد حلمي أنهم يفكرون بشكل جماعي لخلق مواضيع العروض.
تقول وئام عصام التي اعتادت الغناء في العروض المسرحية بالجامعة: “أشعر أن المونولوج الموسيقي يحتاج إلى مواكبة التطورات دائما ومعالجة القضايا الاجتماعية وجذب المزيد من جيل الشباب للاستماع إلينا. يمكننا أن نجعل كلمات الأغاني أكثر حداثة، لكن يمكننا فعل ذلك بالموسيقى أيضا”.
وتقول رغدة جلال إن أحد الأشياء التي تحبها في الأداء هو قدرتها على التفاعل مع الجمهور. في إحدى أغاني الفرقة، وهي إعادة لأغنية كلاسيكية للمطربة الشعبية خضرة محمد خضر صدرت في خمسينات القرن الماضي، بعنوان “لا والنبي يا عبده”، تؤدي جلال العرض بزي تقليدي.
في الأغنية، تختار أحد أفراد الجمهور وتخاطبه بشكل مباشر وكأنه “عبده”، وتقول:
طلعت فوق السطوح أشتكي الهواء منك
وأقلو علي جرى وإلي حصل منك
تهجر وتشمت حسادي والناس تتصاعب على حالي
ولسا ياما حيجرالي
لا، لا، والنبي يا عبده
في بعض الأحيان، يتفاعل الجمهور تماما مع الأغنية. في نهاية أغنيتهم “20 جنيه لله”، حيث يتظاهر أعضاء الفرقة بأنهم عمال يشكون من غياب الحقوق في مكان العمل، تقول جلال إنه من الطبيعي أن يقوم الجمهور “بإعطائنا بعض الشوكولاتة أو الزهور أو حتى 20 جنيها حقيقيا!”.
في الواقع، يُعتبر الشكل العام للعرض مفتاح هذا الشكل الفني المسرحي، وفرقة بهججة تعرف ذلك جيدا. وقع الإستعانة بالمديرة الفنية رحاب ريحان في وقت مبكر لإدارة كل شيء، من الأزياء وإضاءة المسرح إلى الديكور. في هذا الصدد، تقول ريحان لموقع ميدل إيست آي: “إن الصورة مهمة لهذا النوع من الفن. بسبب اسم الفرقة [الدال على البهجة]، يجب أن تكون الألوان قوية ومشرقة”.
قدمت فرقة بهججة عروضا في القاهرة والإسكندرية.
تعمل بهججة على تنسيق الأزياء والديكور لكل عرض بما يتناسب مع المكان. في هذا السياق، قالت ريحان: “قبل كل حفلة، أزور المكان وأرى التحسينات التي يمكنني إجراؤها لجعلها تتناسب مع الفرقة. على سبيل المثال، إذا كان المكان قاعة مغلقة والمسرح أسود اللون، أختار الملابس ذات الألوان الزاهية والفاقعة، كما أنني أخلط بين الملابس الشعبية والحديثة وأضيف عناصر إضاءة تعكس الفن الشعبي، مثل الأضواء الملونة أو الخيامية (قماش مزخرف). إنه الفن المصري، أي فننا الخاص، لذا يجب أن تعكس الصور المرئية هذه الحقيقة”.
أيامنا الجميلة
بحلول أوائل القرن الحادي والعشرين، تلاشى أسلوب المونولوج الكوميدي عمليا، ليتحوّل في النهاية إلى نوع من أنواع الكوميديا الارتجالية، خاليا في الغالب من النقد السياسي والثقافي الذي كان يُعرف به سابقا.
حاولت مجموعة من الفرق، بما في ذلك الفرقة التي كانت زهراء رامي عضوة فيها، الحفاظ على المونولوج الكوميدي بطريقة ما. تتكوّن فرقة “أيامنا الحلوة” من قرابة 20 مغنيا يؤدون أغنيات قديمة ظهرت في الأفلام الكلاسيكية والمسلسلات التلفزيونية، بما في ذلك بعض المونولوجات.
زهراء رامي تغني مع فرقة أيامنا الحلوة في برنامج حواري مصري بعنوان صاحبة السعادة.
على الرغم من أن زهراء رامي تقول إنها “فخورة بأنها مؤدّية مسرحيّة”، إلا أنها تركت الفرقة سنة 2018 لتشكيل فرقتها الخاصة “ميكسر”، حيث تقوم هي بالغناء بينما يرافقها موسيقيون رجال. ستقيم “ميكسر” حفلها الأول في 30 تشرين الأول/أكتوبر، وستشمل عروضهم مزيجا من الأغاني والمونولوجات الهزلية. قامت زهراء رامي كذلك بالغناء خلال احتفالات الذكرى الخامسة لتأسيس بهججة.
مثل بهججة، تحرص زهراء رامي على إحياء الفن التقليدي، وتوعية الناس بأنه أكثر من مجرد عرض كوميدي مضحك. تقول زهراء رامي: “أريد أن أساعد الناس على تعلّم الفرق بين هذا الفن المتجذر ورواية النكت، وأن أشجع المزيد من النساء الموهوبات في الغناء والتمثيل على الانخراط في هذا الفنّ. آمل أن ينتشر هذا الأسلوب لأننا نحتاج إلى هذا النوع من الفن لمساعدتنا على الخروج من روتيننا اليومي، كما أننا بحاجة إلى الضحك”.
المصدر: ميدل إيست آي