قال موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، إن طريقة تعامل منصات التواصل الاجتماعي، مع القضية الفلسطينية، ليست محايدة، وتشكل “نذير شؤم” للفلسطينيين.
ولفت الموقع في تقرير ترجمته “عربي21″، إلى أن الاختلاف الصارخ في التعامل مع الحقوق الرقمية للإسرائيليين والفلسطينيين، يشير إلى مصير الطرف الأخير في عالم “الأونلاين”، والذي يكسب فيه أصحاب القوة والنفوذ مزيدا من السيطرة والتحكم وما ينبغي أن نفكر به وما يتقرر مسحه تماما.
وفي ما يأتي النص الكامل للتقرير:
فيسبوك وغوغل وتويتر ليست منصات محايدة، بل إنها تتحكم في الميدان الرقمي العام وتسخره لمساعدة الأقوياء – ويمكن أن يلغوا أيّا منا بين عشية وضحاها..
هناك شعور متنام بعدم الارتياح لأن القرارات التي تتخذها مؤسسات السوشال ميديا قد يكون لها أثر مدمر على حياتنا. فهذه المنصات، ورغم أنها تتمتع باحتكار فعلي للميدان الافتراضي العام، فإنها لطالما تجنبت أي تدقيق فيها ناهيك عن المساءلة والمحاسبة.
في فيلم وثائقي بثته شبكة نيتفليكس بعنوان “المعضلة الاجتماعية” يحذر مدراء سابقون في سيليكون فالي (وادي السليكون) من مستقبل شنيع. فقد جمعت غوغل وفيسبوك وتويتر كميات هائلة من البيانات عنا بحيث بات بإمكانها التخمين أفضل والتلاعب بغرائزنا. وها هي منتجاتها تنفذ بالتدريج إلى أدمغتنا لكي تحولنا إلى مدمنين أمام الشاشات وأكثر قابلية للتطويع لصالح المعلنين. والنتيجة هي أننا وبينما نزداد عزلة في غرف خفية من الصدى الأيديولوجي يتفاقم الاستقطاب الاجتماعي والسياسي من حولنا ونخطو سريعاً نحو حافة الفوضى العارمة.
وكما لو أن هذه المؤسسات التكنولوجية تود تذكيرنا بما لديها من قبضة تحكمها بشدة متزايدة على حياتنا، فقد قرر كل من فيسبوك وتويتر هذا الشهر، وبشكل علني، التدخل في أكثر الانتخابات الأمريكية إثارة للجدل في التاريخ، حين حذفا قصة كان يمكن أن تضر بفرص جو بايدن، المرشح الديمقراطي الذي ينافس الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب.
أفاقت الجماهير الغربية متأخرة جداً لترى السلطة غير الديمقراطية التي تمارسها مواقع السوشال ميديا عليهم
ونظراً لأن نصف الأمريكيين يحصلون على أخبارهم من فيسبوك بشكل رئيسي، فلم يكن عسيراً تفسير التداعيات المحتملة لمثل هذا القرار على حياتنا السياسية. فمن خلال سد الطريق على أي نقاش بشأن ما يقال إنه فساد واستغلال للنفوذ مارسه ابن بايدن، هنتر، مستغلاً اسم والده، تكون منصات السوشال ميديا تلك قد تقمصت شخصية المحكم السلطوي الذي يقرر ما الذي يسمح لنا أن نقوله وأن نعرفه.
احتكار دور الحاجب
أفاقت الجماهير الغربية متأخرة جداً لترى السلطة غير الديمقراطية التي تمارسها مواقع السوشال ميديا عليهم. ولكن إذا أردنا أن نعرف إلى أين يقود ذلك في نهاية المطاف، فلا يوجد حالة للدراسة والتأمل أفضل من الطرق المختلفة جداً التي يتعامل بها عمالقة التكنولوجيا مع الإسرائيليين مقارنة بالفلسطينيين.
تمثل طريقة التعامل مع الفلسطينيين أونلاين إنذاراً بأن من الحماقة فعلاً أن نعتبر هذه المؤسسات ذات الانتشار العالمي منصات محايدة سياسياً، وأن قراراتها تقوم على اعتبارات تجارية بحتة. ومن يظن ذلك فإنه ضحية سوء فهم مضاعف لدورها.
غدت مؤسسات السوشال ميديا الآن شبكات اتصال احتكارية فعلاً – أشبه ما تكون بشبكات الكهرباء والمياه، أو شبكات الهاتف قبل ربع قرن مضى. ولذلك لم تعد قراراتها شأناً خاصاً، وإنما تحمل عواقب اجتماعية واقتصادية وسياسية مهولة. ولعل هذا جزء من السبب الذي دفع وزارة العدل الأمريكية الأسبوع الماضي إلى رفع قضية في المحكمة ضد غوغل بتهمة التصرف كما لو كان “محتكراً لدور الحاجب في الإنترنت”.
ليس لدى غوغل ولا فيسبوك ولا تويتر حق أكبر في أن تقرر بشكل تعسفي من وماذا يسمح له بالتواجد على مواقعهم أكبر مما كان لدى شركات الهاتف ذات يوم من حق في أن تقرر ما إذا كان زبون معين سيسمح له بامتلاك خط هاتف. ولكن على النقيض من شركة الهاتف، تتحكم مؤسسات السوشال ميديا ليس فقط بوسائل الاتصال ولكن أيضاً بالمحتوى. فهم من يقرر، كما ثبت من قصة هنتر بايدن، ما إذا كان من حق الزبائن المشاركة في النقاشات العامة المهمة حول من يتصدى لقيادتهم وإدارة شؤونهم.
يشبه القرار الذي اتخذ بشأن قصة هنتر بايدن أن تقوم شركة الهاتف في الزمن القديم ليس فقط بالتنصت على المحادثة بل وأيضاً أن تقدم على قطع الخط إذا لم يعجبها الموقف السياسي للزبون المتحدث.
وفي الحقيقة فإن الوضع أسوأ من ذلك. فمواقع السوشال ميديا الآن توصل الأخبار إلى قطاع كبير من السكان، وتدخلها بمقص الرقيب لمنع قصة ما من الوصول إليهم يشبه أن تقوم شركة الكهرباء بقطع التيار عن بيوت الناس جميعاً طوال فترة بث برنامج تلفزيوني معين لضمان ألا يتمكن أحد من مشاهدته.
الرقابة خلسة
عمالقة التكنولوجيا هم المؤسسات الأغنى والأقوى نفوذاً في تاريخ البشرية، تقدر ثرواتهم بمئات المليارات، بل باتوا الآن يتحدثون عن التريليونات، من الدولارات. ومع ذلك، فإن حكاية أنهم غير مسيسين، وأنهم إنما يركزون على مضاعفة أرباحهم، لم تكن حكاية صادقة على الإطلاق.
ليس هذا ذعراً سياسياً فحسب. لقد ثبت أن المواقع ذات التوجه اليساري أكثر عرضة لأن ينالها هذا الفعل اللوغاريثمي
لديهم من الأسباب ما يكفي لأن يروجوا للسياسيين الذين ينحازون إليهم من خلال الالتزام بعدم كسر احتكاراتهم أو فرض قيود على نشاطاتهم، أو، وهذا الأفضل، من خلال التعهد بإضعاف الضوابط التي ربما حالت بينهم وبين النمو أكثر فأكثر والاستزادة من الثراء والنفود.
وبالمقابل، فإنه يوجد لدى عمالقة التكنولوجيا أيضاً من الحوافز ما يجعلهم يستخدمون الحيز الرقمي لمعاقبة وتهميش النشطاء السياسيين الذين يلحون بضرورة فرض المزيد من القيود إما على نشاطاتهم أو على السوق بشكل عام.
على غير ما حصل في حكاية هنتر بايدن الانتخابية الصريحة، والتي أسخطت إدارة ترامب، تمارس مؤسسات السوشال ميديا الرقابة في العادة خلسة، حيث تستعرض قوتها من خلال اللوغاريثمات، تلك الرموز السرية التي تقرر ما إذا كان يسمح لشخص ما أو لشيء ما بأن يظهر في نتيجة بحث أو في تغذية معلوماتية علي السوشال ميديا. وإذا ما رغبوا فإن عمالقة التكنولوجيا هؤلاء بإمكانهم أن يلغوا أياً منا بين عشية وضحاها.
ليس هذا ذعراً سياسياً فحسب. لقد ثبت أن المواقع ذات التوجه اليساري أكثر عرضة لأن ينالها هذا الفعل اللوغاريثمي، وبشكل خاص تلك التي تعتبر أشد نقداً للأنظمة النيوليبرالية التي تثري من ورائها مؤسسات السوشال ميديا، كما أكدت صحيفة ذي وول ستريت جورنال هذا الشهر.
أنماط من التعبير يرونها خاطئة
ما لبث السياسيون يدركون، وبشكل متزايد، قوة السوشال ميديا، الأمر الذي يفسر لماذا يسعون لاستغلالها بقدر ما في وسعهم لخدمة مصالحهم ولتحقيق غاياتهم. منذ صدمة فوز ترامب في أواخر 2016، وكبار مدراء فيسبوك وغوغل وتويتر يجدون أنفسهم بشكل منتظم يدعون من قبل المجالس التشريعية في الولايات المتحدة وفي بريطانيا للمثول أمام جلسات استماع ورقابة.
وهناك، يتعرضون للتوبيخ بشكل شعائري من قبل السياسيين لما يخلقونه من أزمة “أخبار كاذبة” – وهي أزمة، في واقع الأمر، وجودها سابق على السوشال ميديا، ولا أدل على ذلك من الخداع الذي مارسه المسؤولون في الولايات المتحدة وفي بريطانيا حين ربطوا صدام حسين بهجمات الحادي عشر من سبتمبر وادعوا أن العراق كانت لديه “أسلحة دمار شامل”.
وبدأ السياسيون يحملون مؤسسات الإنترنت المسؤولية عن “التدخل الأجنبي” في الانتخابات الغربية – موجهين أصابع اللوم إلى روسيا كالمعتاد – رغم إخفاقهم في تقديم أدلة على مزاعمهم تستحق أن تؤخذ على محمل الجد.
لا تزال “إسرائيل” تصم أي مقاومة فلسطينية لاحتلالها العدواني أو لاستيطانها غير الشرعي بالإرهاب
تمارس الضغوط ليس من أجل حمل هذه المؤسسات على أن تكون أكثر شفافية وأكثر خضوعاً للمساءلة والمحاسبة وإنما لدفعها باتجاه فرض قيود أشد على ما يعتبرونه أنماطاً من التعبير خاطئة – سواء كانت العنصرية العنيفة في معسكر اليمين أو نقاد الرأسمالية وسياسات الحكومات الغربية في معسكر اليسار.
ولهذا السبب تبددت الصورة الأصلية للسوشال ميديا باعتبارها ساحة محايدة لتبادل المعلومات أو أداة لتوسيع النقاش العام وزيادة الاشتباك المدني، أو بكونها ممهدة للخطاب بين الأثرياء والأقوياء من جهة والضعفاء والمهمشين من جهة أخرى.
حقوق رقمية مختلفة
ليس هناك أدل على الروابط القائمة بين مؤسسات التكنولوجيا ومسؤولي الدول من طريقة تعاملهم مع “إسرائيل”. وهو ما نجم عنه الاختلاف الصارخ في التعامل مع الحقوق الرقمية للإسرائيليين والحقوق الرقمية للفلسطينيين. يشير مصير الفلسطينيين في عالم الأونلاين إلى مستقبل يكسب فيه أصحاب القوة والنفوذ مزيداً من السيطرة والتحكم بما يُسمح لنا بأن نعرفه وما يسمح لنا بأن نفكر فيه، ومن يسمح له بأن يكون مرئياً ومن يتقرر مسحه تماماً من الحياة العامة.
كانت “إسرائيل” تحتل موقعاً أهلها لأن تستغل السوشال ميديا قبل أن تبدأ معظم الدول الأخرى في إدراك أهميتها في التحكم بمسالك الجمهور وانطباعاته. لم تزل إسرائيل على مدى عقود تعبئ مواطنيها وأنصارها في الخارج من خلال برنامج رسمي من الدعاية تصنعه الدولة على عينها، وما إن برزت المنصات الرقمية الجديدة حتى قفز إليها هؤلاء الموالون لتوسيع الأدوار التي يقومون بها.
كانت تتوفر لدى “إسرائيل” ميزة أخري. فمنذ احتلالها في 1967 للضفة الغربية والقدس وغزة، بدأت “إسرائيل” في صياغة سردية من التظلم من خلال إعادة تعريف معاداة السامية حتى غدت بزعمهم مرضاً يصاب به اليسار وليس اليمين. فغدا التعريف الجديد لمعاداة السامية ينص على أنها ليست ما يستهدف اليهود وإنما ما يتعلق بدلاً من ذلك بانتقاد “إسرائيل” وبمناصرة الحقوق الفلسطينية.
ما لبثت هذه السردية المريبة جداً أن تحولت بما لقيته من ترحيب لدى السوشال ميديا إلى مقاطع قصيرة مكثفة وسريعة الانتشار.
لا تزال “إسرائيل” تصم أي مقاومة فلسطينية لاحتلالها العدواني أو لاستيطانها غير الشرعي بالإرهاب، وتصف كل مناصرة يقدمها الفلسطينيون الآخرون بالتحريض. وتصنف حركة التضامن الدولي مع الفلسطينيين على أنها محاولة لنزع الشرعية عن “إسرائيل”، وبذلك فهي تكافئ في نظرها معاداة السامية.
إغراق الإنترنت
تبين منذ عام 2008 أن مجموعة لوبي إعلامية مناصرة ل”إسرائيل” اسمها كاميرا كانت تنسق جهوداً سرية يقوم بها الموالون ل”إسرائيل” من أجل اختراق موسوعة الأونلاين “ويكيبيديا” بهدف تحرير وإعادة كتابة التاريخ بطرق تخدم المصلحة الإسرائيلية. بعد ذلك بوقت قصير، ساعد السياسي نافتالي بينيت في تنظيم دورات لتدريس “التحرير الصهيوني” لموسوعة ويكيبيديا.
تنسق أجهزة المخابرات الإسرائيلية بشكل وثيق مع آكت إل وتطلب المساعدة في الحصول على المحتوى بما في ذلك مقاطع الفيديو التي تحظرها منصات السوشال ميديا
وفي عام 2011، أعلن الجيش الإسرائيلي أن السوشال ميديا باتت “ميدان المعركة” الجديد وكلف “محاربين سيبرانيين” لشن الحرب عبر الإنترنت. وفي عام 2015، أقامت وزارة الخارجية الإسرائيلية مراكز قيادة إضافية لتجند شباباً من الجنود السابقين الذين لديهم مهارات تقنية من داخل وحدة الاستخبارات السيبرية في الجيش، واسمها الوحدة 8200، ليشكلوا رأس الحربة في المعركة التي تدور رحاها أونلاين. كثير من هؤلاء انتهى بهم المطاف لأن يؤسسوا شركات تكنولوجية، هي التي طورت برنامج التجسس الذي بات لصيقاً بعالم السوشال ميديا.
وفي عام 2017 جرى إطلاق تطبيق اسمه “آكت إل” لاستنفار الموالين ل”إسرائيل” حتى يغزو المواقع التي تنتقد “إسرائيل” أو التي تناصر الفلسطينيين. كان يقوم على هذه المبادرة، التي حظيت بدعم وزارة الشؤون الاستراتيجية في “إسرائيل”، ضباط سابقون في المخابرات الإسرائيلية.
وبحسب ما تقوله “ذي فوروارد”، وهي مجلة يهودية أسبوعية تصدر في الولايات المتحدة، تنسق أجهزة المخابرات الإسرائيلية بشكل وثيق مع “آكت إل” وتطلب المساعدة في الحصول على المحتوى بما في ذلك مقاطع الفيديو التي تحظرها منصات السوشال ميديا. لاحظت “ذي فوروارد” بعد إطلاق التطبيق بوقت قصير قائلة: “يقدم من خلال عمله ومضة مذهلة لكيفية تشكيل النقاشات التي تجرى عبر الإنترنت حول إسرائيل دون أن يبدو أن لها يدا في الموضوع”.
يقول سيما فاكنين جيل، موظف الرقابة السابق في “إسرائيل” والذي عين فيما بعد للعمل في وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية، إن الهدف كان “إيجاد مجتمع من المحاربين” مهمتهم هي “إغراق الإنترنت” بالدعاية الإسرائيلية.
حلفاء راغبون
بفضل ما يتوفر لدى إسرائيل من ميزات تتمثل في عدد العاملين لها وما لديهم من حماسة أيديولوجية لخدمتها، وما يحظون به من خبرات في التكنولوجيا والدعاية، ناهيك عما تتمتع به من نفوذ على أعلى المستويات في واشنطن وفي وادي السليكون، سرعان ما تمكنت “إسرائيل” من تحويل منصات السوشال ميديا إلى حلفاء راغبين في نضالها الذي يستهدف تهميش الفلسطينيين في عالم الإنترنيت.
في عام 2016، تبجح وزير العدل الإسرائيلي قائلاً إن فيسبوك وغوغل ويوتيوب “تتجاوب مع ما يقرب من 95 بالمائة مما تطلب إسرائيل مسحه من محتوى”، وهو في مجمله محتوى فلسطيني. إلا أن شركات السوشال ميديا لم تؤكد من طرفها الأرقام التي تحدث عنها الوزير.
في عام 2017، قامت رابطة مناهضة التشهير (إيباك)، وهي مجموعة لوبي مناصرة ل”إسرائيل” ولديها تاريخ في العمل على تشويه المنظمات الفلسطينية والمجموعات اليهودية الناقدة ل”إسرائيل”، بتأسيس “مركز قيادة” داخل وادي السيليكون لرصد ما قالت إنه “خطاب الكراهية في الإنترنت”. في نفس تلك السنة، نصبها يوتيوب منظمة “محل ثقة لديه في بلاغاتها”، بما يعني أن طلباتها بمسح المحتوى تعطى الأولوية على غيرها.
في مؤتمر نظمته في رام الله في عام 2018 مجموعة حقوقية فلسطينية تنشط عبر الإنترنت اسمها “حملة”، بالكاد أخفى الممثلون المحليون لكل من غوغل وفيسبوك أولوياتهم. فمن المهم بالنسبة لهم تجنب إسخاط الحكومات التي تملك النفوذ للتضييق على نشاطاتهم التجارية – حتى لو كانت تلك الحكومات ممن ينتهكون بشكل منتظم القانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان. طبعاً، لا وزن في هذه المعركة للسلطة الفلسطينية، ف”إسرائيل” هي المهيمنة على قطاع الاتصالات الفلسطيني وعلى البنية التحتية للإنترنت، بل وتتحكم بالاقتصاد الفلسطيني وبموارده الأساسية.
يقال إن وزارة العدل الإسرائيلية قامت منذ عام 2016 بإخماد عشرات الآلاف من المواقع الفلسطينية. وعبر عملية يكتنفها الغموض التام، تتحرى “إسرائيل” من خلال لوغاريثمات خاصة بها المحتوى الذي تراه “متطرفاً” ثم تطالب بحذفه. ولقد تم اعتقال مئات الفلسطينيين من قبل “إسرائيل” بسبب كتابات ونشاطات لهم في مواقع التواصل الاجتماعي.
أقنعت إسرائيل فيسبوك بأن يغلق حسابات وكالات الأخبار الفلسطينية الكبرى وحسابات بعض الصحفيين الفلسطينيين البارزين.
وكانت منظمة هيومان رايتس واتش قد حذرت في العام الماضي من أن “إسرائيل” وفيسبوك كثيراً ما يغبشان الصورة حتى لا يتسنى التمييز بين الانتقاد المشروع ل”إسرائيل” من جهة والتحريض من جهة أخرى. بالمقابل، وبينما تنتقل إسرائيل بشكل متزايد نحو اليمين، لم تعبأ حكومة نتنياهو ولا منصات السوشال ميديا بوضع حد للزيادة الكبيرة في البوستات العبرية التي تمارس التحريض على الفلسطينيين وتدعو إلى ممارسة العنف ضدهم. ولقد لاحظت مجموعة “حملة” أن الإسرائيليين ينشرون بوستات عنصرية أو مواد تحريضية ضد الفلسطينيين بمعدل بوست كل دقيقة تقريباً.
وكالات إخبارية تُغلق
إضافة إلى استخدام مقص الرقيب لحظر عشرات الآلاف من البوستات الفلسطينية، أقنعت “إسرائيل” فيسبوك بأن يغلق حسابات وكالات الأخبار الفلسطينية الكبرى وحسابات بعض الصحفيين الفلسطينيين البارزين.
بلغ السخط بالجمهور الفلسطيني أن انطلقت حملة احتجاجية عبر الإنترنيت في 2018 تدعو إلى مقاطعة فيسبوك، وفي غزة اتهم المتظاهرون شركة فيسبوك بأنها باتت “وجهاً آخر للاحتلال”.
واستهدفت حركات التضامن مع الفلسطينيين في الولايات المتحدة وأوروبا بأشكال مشابهة، فحذفت إعلانات لأفلام، بل وحذفت الأفلام نفسها، وأغلقت صفحات ومواقع على الإنترنيت.
في الشهر الماضي، انضم موقع زوم، الذي يستخدم لتنظيم المؤتمرات عبر الإنترنت وذاع صيته في حقبة كوفيد-10، إلى كل من يوتيوب وفيسبوك في حظر مؤتمر نظمته جامعة سان فرانسيسكو لأن ليلى خالد كانت من بين المشاركين فيه، وليلى خالد واحدة من رموز حركة المقاومة الفلسطينية وهي الآن في السبعينيات من عمرها.
ويوم الجمعة، حجب موقع زوم ظهوراً آخر لليلى خالد كان مقرراً هذه المرة في جامعة هاواي وكان موضوعه “الرقابة على النشر”. كما أنه تم حجب سلسلة أخرى من المناسبات في أرجاء الولايات المتحدة احتجاجاً على إلغاء ظهورها من قبل الموقع. جاء في بيان أصدره المنظمون حول ذلك إن طلبة الجامعات “ينضمون إلى الحملة التي تقاوم تواطؤ المؤسسات الكبرى مع الجامعات لحجب الرواية الفلسطينية ولإسكات الأصوات الفلسطينية”.
يقال إن القرار، الذي يمثل هجوماً صارخاً على الحرية الأكاديمية، اتخذ بعد تعرض منصات السوشال ميديا لضغوط مكثفة من قبل الحكومة الإسرائيلية وجماعات اللوبي المعادية للفلسطينيين، والتي وصمت المؤتمر بأنه معاد للسامية.
مسح من الخارطة
ما من شك في أن التمييز الذي يمارسه عمالقة التكنولوجيا ضد الفلسطينيين بنيوي وعميق، ولقد تأكد ذلك عبر سنوات طويلة من النضال الذي خاضه النشطاء من أجل إضافة أسماء القرى الفلسطينية إلى الخرائط وخدمات الجي بيه إس، وإطلاق اسم فلسطين على المناطق الفلسطينية المحتلة، وذلك في ضوء قرار الأمم المتحدة الاعتراف بفلسطين.
غوغل وأبل كليهما يتواطأان مع هذه السياسة من خلال المساعدة في طمس وجود الفلسطينيين المرئي داخل وطنهم
أخفقت تلك الحملة إلى حد كبير على الرغم من أن ما يزيد على المليون شخص وقعوا أسماءهم على عريضة من باب الاحتجاج. لقد أثبت غوغل وأبيل مقاومتهما الشديدة لهذه المناشدات. فما زالت مئات القرى الفلسطينية غائبة عن الخرائط التي ينشرانها للضفة الغربية بينما يتم التعريف بمستوطنات إسرائيل غير الشرعية بكل التفاصيل، إذ تجري المساواة بينها في ذلك وبين التجمعات الفلسطينية التي يسمحان بظهورها في الخرائط.
يتم إلحاق المناطق الفلسطينية ب”إسرائيل” بينما تظهر القدس عاصمة ل”إسرائيل”، موحدة وغير متنازع عليها، تماماً كما تزعم “إسرائيل” – وتطمس بذلك حقيقة أن الجزء الفلسطيني من المدينة قابع تحت الاحتلال الإسرائيلي.
هذه قرارات أبعد ما تكون عن كونها محايدة سياسياً. فلطالما انتهجت الحكومات الإسرائيلية سياسة تنسجم مع الاعتقاد بفكرة “إسرائيل” الكبرى والتي تتطلب إخراج الفلسطينيين من أراضيهم. وهذا العام، اكتسبت تلك الرؤية صفة رسمية من خلال الخطط التي تدعمها إدارة ترامب وتهدف إلى ضم مساحات واسعة من أراضي الضفة الغربية.
لا ريب في أن غوغل وأبل كليهما يتواطأان مع هذه السياسة من خلال المساعدة في طمس وجود الفلسطينيين المرئي داخل وطنهم، كما لاحظ مؤخراً اثنان من العلماء الفلسطينيين هما جورج زيدان وهيا حداد بقولهما: “عندما يمسح كل من غوغل وأبل القرى الفلسطينية من خرائطهما بينما يفتخران بإظهار مواقع وأسماء المستوطنات فإن هذا بعينه هو التواطؤ مع السردية القومية الإسرائيلية”.
خارج الظل
كانت العلاقات بين “إسرائيل” ومؤسسات السوشال ميديا تتوثق بشكل متزايد ما وراء الكواليس، إلا أنها ما لبثت أن خرجت من الظل إلى النور في شهر مايو/ أيار حينما أعلن فيسبوك أن مجلس الرقابة الجديد لديه سوف تنضم إليه إيمي بالمور، واحدة من مهندسي سياسة “إسرائيل” لكتم أصوات الفلسطينيين عبر الإنترنت.
سوف يصدر المجلس أحكاماً غير مسبوقة للمساعدة في تشكيل سياسة كل من فيسبوك وإنستغرام حول الرقابة على النشر وحرية التعبير. ولكن بصفتها المدير العام السابق لوزارة العدل الإسرائيلية، فإنها لم تبد بالمر التزاماً بحرية التعبير عبر الإنترنت. بل على العكس من ذلك تماماً، إذ إنها كانت تعمل يداً بيد مع عمالقة التكنولوجيا لفرض الرقابة على البوستات الفلسطينية وإغلاق الصفحات الإخبارية الفلسطينية. بل وأشرفت بنفسها على تحويل دائرتها إلى ما وصفته منظمة “عدالة” لحقوق الإنسان بـ “وزارة الحقيقة” الأورويلية.
غدت مؤسسات التكنولوجيا الآن حكاماً غير معلنين، مدفوعين بالرغبة في جني الأرباح، يرسمون لنا حدود حقوقنا في التعبير. إلا أن التزامهم لا علاقة له بالنقاش المفتوح والحر ولا بالشفافية أو الاشتباك المدني الأكبر، بل التزامهم الوحيد هو تجاه الحفاظ على بيئة الأعمال التي يتجنبون فيها الخضوع لأي تنظيم أو تقييد من قبل الحكومات الكبرى من شأنه أن يقلص قدرتهم على جني الأموال.
وما تعيين بالمر إلا دليل واضح على العلاقة المفسدة بين الحكومة والسوشال ميديا. يعرف الفلسطينيون جيداً كم هو سهل أن تعمل التكنولوجيا على خفض وإخفاء أصوات الضعفاء والمضطهدين بينما تضخم أصوات الأقوياء والمتنفذين.
ربما لن يطول المقام بنا حتى نرى كثيرين منا ينالهم ما نال الفلسطينيين من مصير.
المصدر: ميدل إيست آي