مثل العراق أحد أهم الأجندات الغائبة عن سباق الانتخابات الأمريكية هذا العام، على عكس الفترة الماضية، التي كان فيها حاضرًا بقوة في المناظرات الرئاسية أو حتى في تصريحات المرشحين، وهو ما يؤشر لتساؤل مهم عن مدى أهمية العراق في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 3 من نوفمبر/تشرين الثاني 2020.
وقد تكون الإجابة البديهية لهذا التساؤل، هي انخفاض أهمية العراق مقابل صعود ملفات أخرى كإيران والصين وروسيا، إلا أنه من المهم الحديث أيضًا، أن أي رئيس قادم للبيت الأبيض سيكون مجبرًا على التعاطي مع الملف العراقي، خصوصًا أن هناك حوارًا إستراتيجيًا لم يكتمل بعد ووجودًا عسكريًا لم يتم الاتفاق عليه وصراعًا مع إيران ووكلائها في العراق لم تحسم نتائجه بعد.
تشكلت السياسة الأمريكية في العراق خلال الفترة الماضية، على أساس مسارين مهمين: الأول جاء نتيجة للتداعيات التي أفرزها الاحتلال الأمريكي عام 2003، والثاني جاء نتيجة للتداعيات الإستراتيجية التي أفرزها الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2011، ورغم سعي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، للوصول إلى صيغة نهائية لطبيعة العلاقات العراقية الأمريكية قبل نهاية ولايته الأولى، فإن المتغيرات التي ترافقت مع نهاية الحرب على تنظيم داعش وصعود نفوذ إيران في العراق، لم تجعل طريق الرئيس ترامب سهلًا في هذا المجال.
فاليوم الولايات المتحدة في طريقها لسحب جزء من قواتها من العراق بحلول نهاية هذا العام، بغض النظر عمن سيفوز في الانتخابات الرئاسية الأسبوع المقبل، ومن غير المتوقع أن يحصل تغيير في هذا الإطار، ما لم يحدث تطور كبير في العراق، مثل إقدام إيران أو وكلائها في العراق على إحراج الولايات المتحدة، بذات الطريقة التي حصلت بداية العام الحاليّ.
ما الذي يدفع الولايات المتحدة للبقاء؟
أنتجت الإستراتيجية الأمريكية في العراق بعد عام 2003، حالة من التشابك الإستراتيجي بين تقاسمات الأمن العراقي والأمريكي، لكن هذا لم يمنع من أن تكون هناك خلافات جوهرية بشأن بعض القضايا الإستراتيجية، وأهمها تلك التي برزت بعد الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2011، وبصورة عامة، تتمحور الإستراتيجية الأمريكية في العراق حول التعاطي مع العديد من القضايا الأمنية التي ترتبط بصورة مباشرة بمنظومة الأمن الوطني العراقي.
هناك أسباب أخرى تدعو واشنطن للبقاء في العراق
لقد أصبح العراق محورًا رئيسًا في المنافسة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة وإيران، تاريخ هذه المنافسة تشكل خلال الحرب العراقية الإيرانية في 1980 – 1988 وحرب الخليج الثانية عام 1991 والغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ومنذ هذا العام، تنافست كل من الولايات المتحدة وإيران على تشكيل هيكلية العراق لمرحلة ما بعد صدام حسين من ناحية السياسة والحكم والاقتصاد والأمن، فقد بذلت الولايات المتحدة جهودًا كبيرة لمواجهة النفوذ الإيراني في العراق، بما في ذلك استخدام مكانتها كقوة محتلة ومصدر رئيسي للمساعدات في العراق.
وكذلك من خلال العمليات المعلوماتية، بالإضافة إلى تسليط الضوء من خلال التصريحات الصحفية التقليدية على التدخل الإيراني، مع ذلك فإن احتواء النفوذ الإيراني على الرغم من أهميته، لم يكن الهدف الرئيس لبقاء أمريكا في العراق، بل خلق حكومة مستقرة والدفاع ضد التهديدات الخارجية وإبراز الصداقة القوية المستقرة للولايات المتحدة وحلفائها في منطقة الخليج.
لكن هناك أسباب أخرى تدعو واشنطن للبقاء في العراق، ليس أقلها الحدود التي يشترك فيها العراق مع إيران والأردن والكويت والسعودية وسوريا وتركيا، علاوة على ذلك، يمتلك العراق أحد أكبر احتياطيات العالم من الهيدروكربونات، وسيكون تدفقه الحر ضروريًا للنمو الاقتصادي العالمي لسنوات قادمة، حيث يعتقد معظم العراقيين أن الولايات المتحدة يمكن أن تساعدهم في تصحيح سنوات من عدم الاستقرار والصراع الداخلي والفساد، وسواء كان هذا واقعيًا أم لا، فإن الولايات المتحدة يمكن أن توفر الدعم السياسي والاقتصادي للتأثير على بغداد، للاتجاه نحو ترسيخ سلطة الدولة وحصر السلاح المنفلت.
العراق بين واشنطن وطهران
إن النجاح الإيراني الكبير كان في العراق، خصوصًا أن العراق يحظى بقيمة مركزية في عقلية الإستراتيجي الإيراني، فهو يقع في نقطة ارتكاز النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط والجسر الذي يوصلها إلى سوريا ولبنان، بالإضافة إلى كونه الدولة الوحيدة التي يسيطر فيها حلفاؤها على السلطة.
وعلى هذا الأساس، فإن هناك أكثر من سبب يدفع إيران لإفشال أي تحرك إقليمي أو دولي لانتشال العراق من القبضة الإيرانية، بل وقد تلعب دورًا مؤثرًا في إفشال نتائج الحوار الإستراتيجي مع الولايات المتحدة، فلدى إيران حتى اللحظة فرصة حقيقية للسيطرة على جزء من العراق أو الفوز بمعركة النفوذ ضد الولايات المتحدة.
ففي الوقت الذي كانت فيه المساعدة العسكرية والجوية الأمريكية، المفتاح الرئيس لهزيمة داعش في العراق، كانت إيران وما زالت الراعي الرئيس للعديد من الفصائل الولائية المرتبطة بفيلق القدس التي أصبحت اليوم تمتلك قدرات عسكرية هائلة، وأصبحت بدورها تمتلك نفوذًا كبيرًا داخل القوات العسكرية الرسمية والعناصر الأمنية الأخرى، بفعل الإجراءات الإدارية التي اعتمدتها الحكومات السابقة، وتحديدًا حكومة السيد عادل عبد المهدي.
مشكلة العراق ليست مع إيران والولايات المتحدة، بل هي مشكلة متعلقة بالعلاقات الأمريكية الإيرانية في العراق
وعلى هذا الأساس، فإن العراق مهم ليس فقط بسبب إمكاناته الاقتصادية والإستراتيجية، لكن أيضًا بسبب إيران، فعبر العراق امتدت السياسات الأمريكية تجاه إيران خلال الفترة الماضية، عندما كثفت واشنطن العقوبات على إيران وزادت من ضغطها الاقتصادي والأمني، وإذا كانت واشنطن تأمل في الحد من شبكة طهران في الشرق الأوسط، فعليها أن تفعل ذلك في العراق أولًا.
ورغم إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والمرشح الديمقراطي جو بايدن عزمهما التوصل لاتفاق جديد مع إيران، فإن أي صفقة لن تتمكن من تجاوز النفوذ الإيراني في العراق، فمشكلة العراق ليست مع إيران والولايات المتحدة، بل هي مشكلة متعلقة بالعلاقات الأمريكية الإيرانية في العراق، وقد يكون العراق ساحة مرشحة للصدام بين الطرفين، فيما لو قرر الرئيس الأمريكي القادم التصعيد.
ومع ذلك يخشى العراقيون أيضًا أن يكون العراق جزءًا من صفقة التهدئة بين الولايات المتحدة وإيران، وعليه فإن أي جديد قد يقدم عليه الرئيس الأمريكي القادم، سينعكس بصورة مباشرة على الداخل العراق، سواء كان الأمر بالسلب أم الإيجاب.