تطفو بين الفينة والأخرى على السطح توترات وخلافات دبلوماسية بين تركيا وفرنسا، وهذه المرة، ليس السبب ليبيا أو سوريا أو دعم التنظيمات الانفصالية PKK وYPG، بل بسبب تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون المسيئة للإسلام وإصراره على نشر الرسوم المسيئة للرسول حتى على واجهات بعض المؤسسات العمومية الفرنسية، حيث جاء الرد على ذلك من شعوب العالم الإسلامي، دون الحكومات، خجولا متأرجحا بين الشجب والدعوة إلى مقاطعة المنتجات الفرنسية.
أما تركيا، فقد دعت على لسان رئيسها رجب طيب أردوغان، صراحةً وعلناً، إلى حملة شعبية لمقاطعة المنتجات الفرنسية كرد فعل عملي كفيل بردع الحكومة الفرنسية وماكرون عن مضايقة الجالية المسلمة وازدراء الدين الإسلامي ومقدساته.
إن رد الفعل التركي، لا يمكن النظر إليه بمنأى عن سياق العلاقات التاريخية بين البلدين، التي لطالما اتسمت ولا تزال بالشد والجذب بسبب تعدد ملفات النزاع بين باريس وأنقرة في العديد من البقع الجغرافية عبر العالم سواء بشرق المتوسط أو المغرب العربي أو إفريقيا. والسؤال هنا: إلى أي حد سيؤثر الموقف السياسي الجديد على العلاقات الاقتصادية التركية الفرنسية خاصة وأن التبادل التجاري بين البلدين اقترب في سنة 2019 من 15 مليار يورو؟
العداء لا يفسد للاقتصاد قضية
لغة الأرقام لغة بليغة؛ فمجموع التجارة البينية بين فرنسا وتركيا يناهز 15 مليار يورو، حيث صدرت فرنسا إلى تركيا، سنة 2019، ما قيمته 5.9 مليار يورو مقابل واردات تركية بقيمة 8.7 مليار يورو، بمعنى أن فرنسا تعاني الآن من عجز في ميزانها التجاري مع تركيا يصل إلى 3 مليار يورو، الأمر الذي يزعج باريس، لا سيما وأن مستوى هذا العجز سجل ارتفاعا بنسبة 5% بالمقارنة مع ما كان عليه سنة 2018.
ولا شك أن انخفاض الليرة التركية المتسارع منذ أسابيع عزز من تنافسية الشركات التركية المصدرة إلى فرنسا، وعمق العجز التجاري لصالح الصادرات التركية وتحديدًا في قطاع التجهيزات المنزلية الكهربائية والنسيج وإكسسوارات السيارات.
إن الموقف السياسي الذي عبر عنه الرئيس التركي طيب رجب إردوغان القاضي بمقاطعة المنتجات الفرنسية لقي صدى واسعا على شبكات التواصل الاجتماعية
وكذلك تحتل تركيا حاليا المرتبة الرابعة عشر ضمن قائمة شركاء فرنسا التجاريين؛ فالصادرات الفرنسية إلى أنقرة تضم منتجات متنوعة من قطاعات مختلفة مثل الطيران والمركبات الفضائية بقيمة 490 مليون يورو، إضافة إلى منتجات الفولاذ بقيمة 455 مليون يورو متبوعةً باكسسوارات السيارات وقطع الغيار بقيمة 420 مليون يورو.
وفضلا عن ذلك، فإن السوق التركية سوق واعدة لتسويق المنتجات الغذائية ومواد التجميل الفرنسية مثل علامات Bel، وLa Vache Qui Rit ومستحضرات التجميل L Oréal، وGarnier، أو مواد Bic. ولئن كان من الصعب حاليا معرفة قيمة مبيعات هذه المنتجات المختلفة بالسوق التركية على اعتبار أن هذه الشركات لا تفصح عادةً عن نسب تغلغلها في الأسواق، إلا أن كل المؤشرات تدل على أن السوق التركية هي من الأسواق التي تسجل بها هذه المنتجات نسب نمو ومبيعات عالية.
وفي قطاع السيارات، فإن شركتي Peugeot وCitroën هما من أكبر مستوردي السيارات من تركيا، كما أن شركة Renault هي أكثر ثاني علامة تجارية مبيعا بتركيا بعد منافستها الإيطالية Fiat، وذلك نظرا لأنها تصنعها في معملها بمدينة بورصة التركية.
العديد من الشركات الفرنسية التي تعمل بسوق المنتجات الغذائية ومشتقات الحليب أصبحت تفضل ترحيل مصانعها إلى تركيا منجذبة بتنافسية اليد العاملة وأهمية حجم السوق الداخلية التي تعد من بين أكثر الأسواق نموا بالشرق الأوسط.
وبلغة الأرقام، تعد تركيا السوق الثامنة عالميا لشركة Renault بمبيعات بلغت 50 ألف سيارة في الأشهر الستة الأولى فقط من سنة 2020. وأعلنت شركة PSA المصنعة لعلامات Citroën وPeugeot، مؤخرا أن مبيعاتها بتركيا في ارتفاع مطرد دون الإفصاح عن أرقام دقيقة.
وهناك مؤشر آخر يجب مراعاته عند مقاربة المقاطعة التركية لمنتوجات فرنسا هو أن عددا كبيرا من الشركات الفرنسية تملك مصانع ومنتجات مخصصة حصرا للسوق التركية كما هو الحال بالنسبة لمنتجات أسواق Carrefour وشركة دانون التي تنتج علامات الماء المعبأ المعدني Sirma وHayat، والأمر نفسه ينطبق على الشركة الفرنسية Lactalis التي تنتج حليب ومنتجات Icim الذي يحتل المرتبة الثالثة من حيث الاستهلاك بين الأتراك.
وللإشارة، فالعديد من الشركات الفرنسية التي تعمل بسوق المنتجات الغذائية ومشتقات الحليب أصبحت تفضل ترحيل مصانعها إلى تركيا منجذبة بتنافسية اليد العاملة وأهمية حجم السوق الداخلية التي تعد من بين أكثر الأسواق نموا بالشرق الأوسط. ولعل هذا الحضور المباشر الذي ما انفك يتعاظم بالسوق التركية هو ما يفسر تراجع استيراد المنتجات الغذائية ومشتقات الحليب الفرنسية من 4 مليون يورو سنة 2017 إلى فقط 1.5 مليون يورو سنة 2019.
الأكيد أنه يصعب، في الوقت الراهن، تقييم تأثير القرار السياسي التركي بالمقاطعة في الشركات الفرنسية الموجودة بتركيا
تعبئة إلكترونية للمقاطعة
إن الموقف السياسي الذي عبر عنه الرئيس التركي أردوغان الملزم بمقاطعة المنتجات الفرنسية لقي صدى واسعا على شبكات التواصل الاجتماعية التي تناقلته وانتشر على منصاتها كالنار في الهشيم، دعما للقرار الرئاسي وتأييدا له.
ولعل تزامن هذه الحملة مع حلول ذكرى المولد النبوي الذي يحتفل به الشعب التركي على مدى أسبوع أعطى زخما أقوى لدعوة المقاطعة ودعم مبادرة أردوغان ضد نظيره ماكرون المؤيد لنشر الرسومات الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد.
وتميزت الدعوة إلى المقاطعة بنشر قائمة المنتجات والشركات الفرنسية المستهدفة بالمقاطعة على نطاق واسع، ولا شك أن خصوصية المبادرة التركية بالمقارنة مع باقي الدول الإسلامية تكمن في كون المقاطعة تلقى دعما مباشرا من رئيس الدولة وليس فقط مجرد دعوة شعبية من المجتمع المدني.
ويحذر عدد من المحللين، من خطورة تطور مقاطعة المنتجات الفرنسية، الغذائية والتجميلية، في الأجل القريب، بالعالم الإسلامي إلى تهديد قد يلحق القطاعات والشركات الاستراتيجية في مجال البنى التحتية والطاقة والنقل والبتروكيماويات، والمنتوجات الصيدلية، مثل شركة EDF، وVeolia، التي تراهن على تعزيز حضورهما في الشرق الأوسط.
الأكيد أنه يصعب، في الوقت الراهن، تقييم تأثير القرار السياسي التركي بالمقاطعة على الشركات الفرنسية الموجودة في تركيا أو المصدرة إلى السوق التركية، لكن المؤكد هو أن الخلاف والتوتر بين أنقرة وباريس مستمر في التصاعد، نظرًا إلى أن هذا الخلاف الجديد المتمثل في التضييق على الجالية المسلمة سينضاف إلى ملفات الخلافات التاريخية بين البلدين، والتي تشمل:
دعم حكومة الوفاق الليبية ضد الجنرال حفتر الذي تدعمه باريس، والدعم الفرنسي لتنظيم PKK وYPG بسوريا، وهي أحزاب تصنفها تركيا ضمن التنظيمات الإرهابية، إضافة إلى التدخل الفرنسي لدعم اليونان وقبرص اليونانية في ملف استغلال الغاز والبترول بشرق المتوسط، وإلى جانب التنافس المتزايد بين الشركات التركية والفرنسية بأفريقيا، المعقل التاريخي لباريس، وأخيرًا ملف الأرمن واتهام تركيا لفرنسا بالتلاعب بالتاريخ وتذكيرها دومًا بالجرائم التي ارتكبتها في الجزائر ورواندا.