يطلب منا الناس أن نكتب لهم مقالات وردية ليجدوا فيها بعض الراحة النفسية من واقع يضطهدهم فيطلبون من قراءتنا غيبوبة مريحة لكنا نجد صعوبة في التحول إلى مخدر مؤقت، فالواقع ليس جميلًا إلا لقلة قليلة لا تقرأ أبدا وليست معنية بآلام أحد.
الوباء زاد التونسيين رهقًا. خاصة وهم يرون حكومتهم كأهوج في محل فخار فحيث ما التفتت كسرت شيئًا. السنة الدراسية تبدو فاشلة منذ بدايتها والموسم الفلاحي لا يعد بالكثير بالنظر إلى إغلاق أبواب تصدير المنتجات واضطراب التوزيع بالسوق الداخلية، أما ثروة الفوسفات فقد خافت الحكومة أن تسترجعها من العصابات النقابية. لذلك تستورد حاجتها من الجوار بعد أن كانت ثالث ثلاثة من منتجي خام الفوسفات الرفيع في العالم.
وفي أجواء موبوءة بفيروس مجهول لا يعلم المرء أين يلاقيه نشاهد الحرب الصامتة بين رؤوس الحكم. بما يزيد في تعطيل كل أمل يعلق على السياسات العامة في ظرف وبائي. ويمكن اعتبار القطيعة بين الرؤساء وخاصة قطيعة رئيس الدولة مع رئيس الحكومة من ناحية ورئيس البرلمان من ناحية أخرى السبب الرئيسي في تعطل أجهزة الدولة وأعمالها في هذا الخريف الحزين.
الرئيس غائب
كتبنا سابقًا أن الشعب يريد أن يفهم الرئيس ولا نزال نرغب فعلا في فهم ما يفكر فيه وما يريده من السلطة التنفيذية وقد ترادفت المواعيد التي انتظرناه فيها ولم يحضر.
لقد ذهب الرئيس يوما إلى منطقة الساحل وراء مشكلة إرهابية غامضة(ما يعرف بقضية الوردانين) ووعد بكشف الحقائق لكنه سكت عن الموضوع سكوت خائف لا سكوت محقق سري يجمع أدلته. لقد كان يقول وهو معارض قولة مشهورة (إما أن الإرهاب أقوى من الدولة أو أنه هو الدولة) ويبدو أنه وجد الإجابة في أدراج قصره فآثر الصمت لكي لا يفقد دولته أو روحه. رغم أنه فرض الشخصية التي أراد كوزير داخلية في الحكومتين.
أما البرلمان فيبدو غائبا ومشغولا بهموم سياسية قابلة للتأجيل إلى ما بعد الوباء
يشاهد الرئيس تغول النقابات في كل القطاعات المهنية بما يفسد حياة الناس وتقدم للرئيس الأدلة على فساد هذه النقابات ولكنه يعيش شهر عسل مع النقابة ويعتمد عليها في تضييق عيش الحكومة.
وآخر المواعيد الخاسرة وليس أهونها إعادة شركة الفوسفات إلى الحياة لأن مشكلتها تجاوزت السلطة التنفيذية إلى حماية الأمن الحيوي للتونسيين بما يجعلها من صلاحياته وهو المسؤول الأول عن أمن المواطنين الحيوي.
عندما يتعلق الأمر بتشكيل الحكومة فإن الرئيس استولى على كل الصلاحيات وفرض شروطه. فالحكومة خرجت من مكتبه. ولكن عندما يتعلق الأمر بحل المعضلات الكبرى طبقا لانتظارات الشعب الخائف يصدر الرئيس أو (محيطه) أن ذلك اختصاص الحكومة ثم يجدونه يضع أمامها العراقيل.
الحكومة تصدر بياناتها ليلًا
بما في ذلك البيانات المتعلقة بسير الدروس في المدارس وعلى الشعب الكريم أن ينتظر البيان حتى الفجر ليعرف جدول أوقات أولاده في اليوم الموالي. هل أن الحكومة تعمل ليلًا أنها تترك لدينا انطباعا سطحيا بذلك وعلينا أن نصدق أنها حكومة تسهر الليل من أجل شعبها؟ لكن الحقيقة غير ذلك في ما تابعناه! فكل الإجراءات والتدابير التي اتخذت لمواجهة الموجة الثانية من الوباء كشفت أن الحكومة مترددة وتعيش تحت ضغوط المؤسسات الاقتصادية الخاصة وخاصة المؤسسات السياحية التي فرضت فتح الحدود.
بحجة الحفاظ على دوران ماكينة اقتصادية/ تشغيلية سمح بتواصل العمل في ظروف غير صحية وكل جهد الحكومة كان في فتح سوق الكمامات بحيث صارت تجارة مربحة حتى أنها تباع على البسطات في الأسواق الشعبية بأسعار خيالية. شجاعة الحكومة وقوتها (الافتراضية) لم تصل إلى تنفيذ قرارها بإغلاق المقاهي وأماكن التجمعات غير الضرورية.
علامات التردد في قرارات الحكومة تتجلى في كل خطوة في المدرسة كما في الصحة ويشعر الناس أن الحكومة أهملتهم فهي لم تجرؤ على المس من مصالح الطب الخاص (المصحات) لتضعها تحت تصرف لجنة مقاومة الوباء وهي تعاني ضعف إمكانيات الطب العمومي لذلك تشاهد تفشي الوباء وتطلب من الناس التحلي بالصبر والموت بصمت .
أما البرلمان فيبدو غائبا ومشغولا بهموم سياسية قابلة للتأجيل إلى ما بعد الوباء. ولا يظهر أية مساندة للحكومة مثل أن يسن تراتيب استعجالية لدعمها وهي الغارقة في صراع اللوبيات بل يصل إلى أسماعنا الكثير عن عمل نواب يمارسون ضغوطا غير قانونية تصلى إلى التهديد من أجل تدبير مصالح شخصية لقاعدتهم الناخبة كتشغيل أقارب وأصدقاء. ويحتل صدارة الصراع مناكفة رئيس البرلمان وحزبه على إدارة البرلمان. ورئيس البرلمان نفسه يبدو مشغولا بمشاكل حزبه أكثر من هموم البلد.
نعم صورة قاتمة وحزينة لا يمكن أن نكتب غيرها مهما بحثنا عن نقاط ضوء في هذا النفق الطويل. هل نتدرج إلى نهاية أشد بؤسا مما نحن فيه؟
الشعب غادر شارعه
يبدو أن الشعب قد فقد الأمل من الشارع فقيام تحرك ضاغط على رؤوس السلطة من أجل الحزم في مواجهة اللوبيات الفاسدة لم يعد على جدول أعمال الأحزاب والمجتمع المدني أو ما توهمناه مجتمعا مدنيا. انه يشكو غلاء الأسعار ويندب حظه لكنه يقف عند العويل.
ستعرف الأسعار المزيد من الارتفاع خاصة منها المواد الفلاحية الضرورية فانقطاع إنتاج الفوسفات وتوريد المصنع منه للسنة الفلاحية سينعكس حتما على الأسعار ولكن الجميع لا ينبس بكلمة في مواجهة النقابات التي تعطل ذلك. بل أن غالب القطاعات تستجيب لكل تحريض نقابي من أجل مطالب ثانوية كالحصول على خروف العيد في غير موعد العيد.
انحلال قبضة الحكم على النقابات يكمله سلوك شعبي متواطئ معها في كل مطلب بما يزيد من انهيار الوضع العام. ونرجح أن الحكومات تخشى إدخال المؤسسة العسكرية في إدارة المؤسسات العمومية المنهارة (وهي عامود الاقتصاد) خوف أن يثبت الجيش قدرة قيادية تفضح خوف الوزراء وعجزهم لذلك يروجون لخطاب اجتناب العسكرة (المؤسسة الوحيدة القائمة بمهامها على أكمل الوجوه هي المستشفى العسكري).
تركيبة الحكم برؤوسها الثلاث تشاهد الآن كيف نخسر المنفذ الاقتصادي الجزيل في ليبيا وتشاهد ميل الليبيين إلى الشركاء الآخرين (تركيا وفرنسا خاصة) بما في ذلك القطاع الصحي التونسي الذي كان ملجأ الليبيين ولكنها تهرب من مواجهة الحقيقة لقد خسرت تونس ليبيا لسنوات طويلة وعندما تكون ليبيا قد حلت مشاكلها ستكون تونس مجرد تراب مجاور لليبيا.
نعم صورة قاتمة وحزينة لا يمكن أن نكتب غيرها مهما بحثنا عن نقاط ضوء في هذا النفق الطويل. هل نتدرج إلى نهاية أشد بؤسا مما نحن فيه؟
ليس في ما نرى من وقائع وسلوكيات سياسية من داخل أجهزة الحكم ومن داخل معارضتها ما يرجح ظهور حل بقدرتنا الذاتية ولا نرجح معجزات تنزل من السماء بحلول جاهزة. لقد استنفدت هذه المرحلة قدرة النخب السياسية والفكرية على ابتداع حلول لبلد غني بثروات بشرية وطبيعية كثيرة لكنه يعيش الكفاف وينزل دونه.