في الحادي والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول لهذا العام، أي منذ أقل من عشرة أيام فقط، نشر الجيش المصري، ممثلًا في الصفحة الرسمية للمتحدث العسكري، العميد تامر الرفاعي، مقطعًا مصورًا قصيرًا، من إنتاج “إدارة الشؤون المعنوية”، بعنوان “أسياد البحار”، بمناسبة عيد القوات البحرية.
تضمن الفيلم الدعائي القصير استعراضًا تاريخيًا لرحله تطور سلاح البحرية المصري بشكله الحديث، ابتداءً من حقبة محمد علي باشا، مرورًا بأبرز المعارك العسكرية التي خاضتها القوات البحرية في عهد نظام يوليو، مسلطًا الضوء على تلك التي انتهت بانتصارات بطبيعة الحال، وصولا إلى الطفرة التسليحية التي يشهدها السلاح في الوقت الحالي، والتي كان أبرزها استلام غواصتين ألمانيتين حديثتين هذا العام.
الحدث الأبرز في الفيلم على الإطلاق، هو عملية تدمير القطعة البحرية الإسرائيلية “إيلات”، حيث وقع الاختيار على هذا اليوم، 21أكتوبر/ تشرين الأول، من كل عام، عيدًا للقوات البحريّة، بسبب نجاح البحريّة في إغراق المدمرة الإسرائيلية في هذا اليوم من عام 1967.
وبالفعل، تمثل هذه العملية حدثًا فارقًا في التاريخ العسكري المصري المعاصر، وفي تاريخ سلاح البحرية، وفي الوجدان الشعبيّ لكل المصريين بشكل عام، منذ هذا التوقيت وحتى الآن؛ نظرًا للظرف الزمني الذي شهده الحدث، حيث نجح رجال البحريّة في إغراق المدمرة بعد خمسة أشهر فقط من نكسة يونيو/ حزيران 1967، كما أن هذه القطعة تحديدًا كان قد شاركت في الكثير من العمليات العسكرية ضد الأهداف المصرية منذ العدوان الثلاثي على مصر وحتى توقيت العملية، وقد نجح المصريون باستخدام أسلحة بدائية (لنشات الصواريخ) قياسًا على الطرف الآخر في تكبيد البحرية الإسرائيلية خسائر بشرية ضخمة تصل إلى 100ضابط وعسكري، لتدفع العملية الجانب الإسرائيلي لقصف معامل تكرير البترول في السويس لاحقا، انتقاما من هذه الصفعة المهينة.
بالرغم من تعمد كاتب النص المعَد للإلقاء في الفيلم تجنبَ ذكر المركب الوصفي المستخدم دائما للإشارة إلى هذه العملية “المدمرة الإسرائيلية إيلات”، مكتفيًا بقول:”المدمرة إيلات”، وهو سلوك مفهوم في ضوء التفاهمات السياسية المتبادلة بين مصر و”إسرائيل”، والرغبة الرسمية المصرية في عدم تجذير العداء؛ إلا إنني شعرت بارتياح عام، بسبب تضمين العلم الإسرائيلي على القطعة البحرية في ثلاثة مشاهد بطول المقطع. فإذا كان الحذف الأول مقصودًا، فإن التضمين الثاني مقصود ومفهوم أيضا. وكما يقول أحد الأصدقاء ضمنًا: فإن إحدى ميزات ذكرى الاحتفاء بالمعارك العسكرية التي خاضتها دولة يوليو، أنها تذكرنا أن “إسرائيل” كانت العدو، ولا زالت.
ولكن، تبدّد هذا الارتياح سريعًا. فقد لاحظتُ خلال تفقد صفحة المتحدث العسكري لمتابعة أنشطة الاحتفال بعيد القوات البحرية، خاصة أنه يتقاطع زمنيًا مع عدد من الأحداث العسكرية الأخرى مثل انتصارات أكتوبر وتخريج دفعات جديدة من الكليات العسكرية، أن الفيلم حذف بالكامل من الصفحة… ما الذي حدث؟
دقائق بعد الحذف، وخلال تفقد موقع “تويتر”؛ فإذا بعدد من التغريدات للمدون الصهيوني المزعج، إيدي كوهين، يتحدث عن هذه الواقعة، مشيرًا إلى أن أشخاصًا نافذة في القيادة العسكرية الإسرائيلية، على اتصال بنظيرتها المصرية، طلبت حذف فيلم “أسياد البحار” من منصة الجيش المصري، عبر الواتساب، بسبب الخطأ المتعلق بتضمين العلم الإسرائيلي والاحتفاء بإغراق المدمرة إيلات. فاستجابتِ القيادة المصرية صاغرةً، ليفرض الجيش الإسرائيلي معادلةً جديدة على نظيره المصري في معالجة المعارك العسكرية التي خاضها الجيشان خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
عاودتُ فحص الشبكة للبحث عن الفيلم، فلم أجده على صفحة المتحدث العسكري، واقتصر وجوده على بعض المنصات على “يوتيوب” التي كانت قد رفعته في اليوم الأول، فور نشر المتحدث العسكري الفيلم؛ مع تنبيهات من ناشطين حقوقيين بالاحتفاظ بالنسخة الأساسية من الفيلم، لأنها قد تُحذَف أيضا في وقت لاحق. ولما كنت قد عاينتُ احتجاجا إسرائيليا حديثا على واقعة مشابهة، وهي طريقة تجسيد “الإسرائيلي” في فيلم “الممر”، ذلك الدور الذي أداه الممثل الأردني إياد نصار؛ فقد أيقنتُ أن ما حكاه كوهين حقيقي، على الأقل في مضمونه.
تدفعنا هذه الحادثة المشينة إلى إعادة التفكير في المقدمات التي أدت إليها: كيف تجرّأت القيادة الإسرائيلية على طرح هذا الأمر على نظيرتها المصريّة؟ ولماذا انصاعتِ القيادة المصريّة لهذا الطلب الذي لا يفرّغ الفيلم من مضمونه وحسب، بل يفرّغ ما يسمى بعيد القوات البحرية كله من مضمونه، ولا يسيء إلى قادة الجيش المصري الحاليين فقط، بل ويمس تضحيات وبطولات القادة القدامى العظام الذين ساهموا في هذه الملحمة، ويتعدّى ذلك إلى تبديد أساطير السيادة الوطنية التي يروجها النظام الحالي.
ولعل من الملاحَظ هنا أن السيسي، بطل مشهد الثالث من يوليو/ تموز 2013، في خضمّ حرصه على خلق علاقة عضويّة بينه وبين الجيش، بما يعني أن أي هجوم شخصي عليه يعني، أو يمكن تفسيره، بأنه تعد على الجيش، كما حدث في إشراكه – غير المبرَر – الجيش في مجازر ما بعد الانقلاب، ثم مشاريعه القوميّة الملياريّة؛ فقد حرص على خلق قناة تواصل بين الجيش و”إسرائيل”، ضمن علاقته الإستراتيجية الشخصية مع دولة الاحتلال. ظهرت هذه القناة في عدة محطات، أبرزها تدخل سلاح الجو الإسرائيلي لإنقاذ الجيش المصري في معارك الشيخ زويد ضد تنظيم الدولة عام 2015، والتوسع في زيادة قوات الجيش المصري في المناطق المحظور تواجده بها بعدد 42 كتيبة، بالمخالفة لبنود معاهدة السلام، وكذلك مشهد مبادرة مروحية عسكرية مصرية “ميل مي” للمساهمة في إطفاء حرائق الجنوب الإسرائيلي منذ سنوات، وهو المشهد الذي تسبب في صدمة كبيرة للداخل المصري، وقد تحدّث السيسي مفتخرًا بتدشين هذه القناة في لقائه المثير للجدل مع قناة CBS الأمريكية.
مشكلة هذا الطرح الذي يتبنّاه السيسي، أنه يختزل مشاكل الأمة العربية في التدخلات التركية، بالرغم من أن التجربة التركية قد تحمل بعض المضامين التي يمكن للمصريين والعرب التعلم منها
بنيويًا، وبالرغم من عدم تغيّر قوامه الرئيس أو الإخلال بطبيعة الأسلحة الأساسية المعروفة والمناطق الإستراتيجية؛ إلا أن السيسي طبّق جزئيا ما أشيع عن المشير طنطاوي رفضه إبان حكم المجلس العسكري، بخصوص تحوّل الجيش المصري إلى قوةٍ عسكريّة لمكافحة الإرهاب. فقد باتت أولويات الجيش الداخلية محاربة التطرف الإسلامي، والاستعداد لقمع أي تمرد جماهيري واسع على أساس سياسيّ أو اجتماعيّ.
ومن شواهد ذلك، تدشين قوات التدخل السريع، وصور المساجد التي تظهر في التدريبات العسكرية، والتوسع في دورات مكافحة الإرهاب، وتأسيس قيادة قوات شرق القناة لمكافحة الإرهاب، وصولا إلى دخول قوات المنطقة الغربية والمنطقة المركزية العسكرية على هذا الخط خلال المناورات التقليدية. وهي تلك المهمة، أيضا، التي دخلت ضمن مهمات الجيش الخارجية مؤخرا، وخاصة بعد صفقات التسليح المتقدمة، ولكن على نحو معين، هو: التصدي للدول الراعية للإرهاب. وهو ما ظهر كذلك في فيلم “أسياد البحار” نفسه حينما تطرّق إلى تطور سلاح البحرية في السنوات الأخيرة، حيث كانت الإشارات كلها موجهة ناحية “تركيا”، سواء في المناورات الخارجية مع الدول الخليجية وأعداء أنقرة الأوروبيين في شرق المتوسط، أو في المناورات الداخلية الكبرى، قادر وحسم، والتي كانت محاكاةً لمواجهة ضد تركيا في ليبيا.
وبطبيعة الحال، فإن الجيش المصري، والإسرائيلي، باتا يشتركان في نفس المهام تقريبًا: مواجهة التوسعات التركية عامة، وفي شرق المتوسط خاصة، والتنظيمات الإسلامية العابرة للحدود.
يروِّج السيسي إلى أنّ هذا التغيير من قبيل مجاراة متطلبات العصر، فالحروب المعاصرة هي حروب الدول والجيوش ضد التنظيمات الإسلامية المسلحة، ولم تعد حروبا تقليدية كمان كان الأمر في السابق. كما يُسوِّق إلى أن الجيش، بتوجيه بوصلته نحو كبح جماح التوسعات التركية، فإنه يحمي المنطقة العربية من عدو خارجي يريد ابتلاعها، مدللا على ذلك، بالنفوذ التركي في سوريا والعراق وتهديدها الاستقرار في شرق المتوسط، كما ينظر إلى التاريخ المصري الحديث في علاقته بـ”إسرائيل” نظرةً تقدمية استسلامية؛ فإذا كان عبد الناصر قد لوّح بإلقاء إسرائيل في البحر وهُزم، والسادات كان أكثر واقعيةً وانتصر جزئيا، ومبارك رأى أن الدرس المستفاد من الحرب هو أن الحرب لا تجدي، فإن السيسي، ضمن موقعه في تراتبية قادة دولة يوليو، فإنه، بعد تصحيح الخطيئة التاريخية التي جاءت بالإخوان إلى الحكم ليهددوا الاحتلال بدعمهم للمقاومة واستعادة السرديات التاريخية القديمة؛ من شأنه تكريس العلاقة مع “إسرائيل”، خاصة أن ذلك سيضمن له حمايةً مضاعفة.
مشكلة هذا الطرح الذي يتبنّاه السيسي، أنه يختزل مشاكل الأمة العربية في التدخلات التركية، بالرغم من أن التجربة التركية قد تحمل بعض المضامين التي يمكن للمصريين والعرب التعلم منها، ويتغاضى عمدًا عن المشروع التوسعي الإسرائيلي، والذي ظهر خلال السنوات الأخيرة في ابتلاع القدس والجولان والضفة الغربية، وتقنين احتلالهم. كما يضر هذا الطرح بمصالح مصر على المدى البعيد، لأن إسرائيل، للمفارقة، لا تعبأ بالسيادة المصريّة، كما رأينا في التنازل عن تيران وصنافير الإستراتيجيتين لتصبحا جزءا من مشروع ” نيوم” على البحر الأحمر، واقتراب تدشين خط الأنابيب الذي سينقل النفط الخليجي إلى “إسرائيل” عبر الأردن بدلا من قناة السويس، وصولا إلى التلميح الإسرائيلي بالاعتراف بحلايب وشلاتين أراضي سودانية بعد التطبيع بين الخرطوم وتل أبيب.
وعلى المدى القريب، فإن واقعة حذف هذا الفيلم، تتصل بنظرة السيسي إلى المعارك المصرية ضد الجيش الإسرائيلي، حيث يتجنب دائما الإشارة إليها، نظرًا لأنها ستفتح نقاشا حتميا عن العداء لإسرائيل، وعن القيم “الحقيقية” المتضمنة في هذه المعارك، كالعزة والقدرة والثقة بالذات، وحرية تداول المعلومات، وكلها نقاشات غير مطلوبة.
المطلوب فقط الآن التأكيد على أن العدو بات من الداخل، وأن المعركة مع العدو الرابض بالشرق انتهت للأبد، وهو ما يفتح المجال، ليس إلى حذف فيلم رمزي وتكسير الإرادة المصرية فحسب، بل إعادة رواية تاريخ هذه المعارك، على مقاس الاحتلال، كما بات يحدث مع نصر أكتوبر نفسه من القادة الإسرائيليين كل عام، استغلالا للانبطاح السياسي المصري.