حالة من الترقب تنتاب الشارع الأوروبي هذه الأيام بشأن مخاوف موجة جديدة من التشدد والتطرف من المحتمل أن تواجهها القارة العجوز لتعيد معها الذاكرة الدموية إلى العامين الماضيين، حين زادت وتيرة تلك الجرائم العنصرية التي رافقت صعود اليمين المتطرف في معظم بلدان أوروبا.
الخطاب المتشدد ضد الإسلام والذي تبناه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على خلفية مقتل المعلم الفرنسي صمويل باتي على يد لاجئ شيشاني بسبب نشره رسومًا مسيئة للنبي عليه السلام، وما تلاه من أحداث متسارعة، يزيد من تلك المخاوف لاسيما بعد دخول العديد من العواصم الأوروبية على خط الأزمة عبر تأييد الموقف الفرنسي.
ورغم الانتقادات الشعبية والرسمية التي قوبلت بها تصريحات ماكرون العنصرية ضد الإسلام والتي تجسدت في عشرات التظاهرات في العواصم الإسلامية المنندة بتلك التصريحات بجانب حملات المقاطعة الاقتصادية الشعبية ضد البضائع الفرنسية كرد فعل سلمي حيال التطاول على الرموز الإسلامية، إلا أن الرئيس الفرنسي واصل تشدده وخطابه العنصري.
وأفرز هذا الخطاب الماكروني ردة فعل عنيفة من الجانبين، البداية بالهجوم الذي شهدته كنيسة مدينة نيس الفرنسية يوم الخميس 29 أكتوبر/تشرين الأول، عن طريق شخص مسلم من أصول مغربية، والذي أسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص، ليقابله بهجوم مضاد في مدينة أفيينوس حين حاول مسيحي مسلح الاعتداء على الشرطة أثناء منعها له من استهداف أحد المسلمين.
وأمام هذه الوضعية الحرجة والأجواء الملتهبة التي تتطلب مساعي للتهدئة إذ بماكرون يزيد النار اشتعالًا بتبني مواقف أكثر عنصرية حين توعد بحملة شاملة لقمع ما سماه “التشدُّد الإسلامي”، وتشمل إغلاق المساجد وغيرها من الجمعيات الإسلامية في فرنسا، هذا بجانب تصريحاته المثيرة للجدل حين قال إن بلاده “تخوض معركةً وجودية ضد الأيديولوجيات والانفصالية الإسلامية المتطرّفة”.
الموقف الماكروني المتشدد دفع العديد من وزراء الحكومة إلى تبني ذات الاتجاه، وهو ما جاء على لسان وزير الداخلية اليميني، جيرالد دارمانان الذي قال إنّ “المتشدّدين هم العدو في الداخل” وهو نفسه صاحب التصريحات المثيرة للجدل قبل أسبوع والتي استنكر فيها تداول المنتجات الحلال في المتاجر الفرنسية.
كرة الثلج التي ألقى بها ماكرون عبر خطابه المتشدد من المتوقع أن تتدحرج في أكثر من اتجاه، فيما لا يستبعد خبراء نشوب العديد من الجرائم العنصرية خلال الفترة المقبلة، قبيل الانتخابات الرئاسية في فرنسا وبعض الدول الأوروبية، الأمر الذي ربما يستفيد منه تيار اليمين المتطرف بصورة ربما تؤهله لإعادة نفوذه السابق مرة أخرى.. فهل يورط ماكرون أوروبا في موجة عنف جديدة؟
الجرائم العنصرية التي شهدتها فرنسا الأيام الأخيرة أثارت حالة من القلق لدى الشارع الأوروبي بشأن عودة زخم الأعوام الماضية هذا بجانب تعزيزها لمخاوف مسلمي فرنسا والبالغ عددهم 6 ملايين نسمة من موجة جديدة من استهدافهم
تراجع جرائم العنف
تأتي تلك الجرائم في وقت شهدت فيه أوروبا تراجعًا نسبيًا في معدلات الاهتمام بالتشدد والتطرف في ظل انخفاض نسبة الجرائم العنصرية الناجمة عن الإسلاموفوبيا، وذلك مقارنة مثلا بما كان عليه الوضع خلال الأعوام الثلاثة الماضية، والتي قفز اليمين المتطرف فيها قفزات جنونية.
وبحسب صحيفة The Guardian البريطانية، فإن اهتمام الشارع الغربي بمفاهيم “التشدّد الجهادي قد تراجع مؤخراً بصورة محلوظة، وهو ما تثبته التقارير الإحصائية والتحليلية في هذا الملف والتي كشفت تراجع الوفيات في أوروبا نتيجة كافة أشكال الإرهاب بنسبة 70% العام الماضي.
التقارير أشارت إلى أن التراجع يعد هو الأقل منذ عام 2012، فيما كشفت إحصائيات أخرى عن 21 مخطط جهادي كان يستهدف أوروبا خلال 2019، مقاربنة بـ24 و33 في العامين السابقين. ومن بين الـ21 مخططاً، فشلت أربعة مخططات، وأُحبِطَ 14 مخططاً، ونُفِّذت ثلاثة.
وقد أرجع الخبراء تزايد معدلات جرائم التشدد خلال الأعوام الماضية إلى صعود تيار اليمين المتطرف الذي يغذي خطاب الكراهية بصورة تدفع إلى رد فعل ربما يكون متطرفًا، تزامن ذلك مع دخول الملايين من اللاجئين المهاجرين عبر الحدود وبطرق غير شرعية إلى دول أوروبا التي تضفي صفة “التطرف” على المهاجرين المسلمين لديها، وهي المعضلة التي عززت من حالة الاحتقان الداخلي هناك بين المسلمين وغير المسلمين.
الخطاب الرسمي المتشدد في فرنسا، رغم فردية الوقائع وافتقادها للبعد التنظيمي المؤسسي كما كان في السابق، قوبل بدعم كبير من تيارات اليمين المتطرف في مختلف دول أوروبا، وهو الموقف الذي أثار الكثير من التساؤلات حول دوافعه
مخاوف من موجة جديدة
الجرائم العنصرية التي شهدتها فرنسا الأيام الأخيرة أثارت حالة من القلق لدى الشارع الأوروبي بشأن عودة زخم الأعوام الماضية هذا بجانب تعزيزها لمخاوف مسلمي فرنسا والبالغ عددهم 6 ملايين نسمة من موجة جديدة من استهدافهم والتي بدأت إرهاصاتها تلوح في الأفق.
في استطلاع رأي أجري بعد مقتل المعلم الفرنسي توصل إلى أن 79% من المشاركين شعروا بأنّ “الإسلاموية أعلنت الحرب” ضد فرنسا والجمهورية، بينما رأت نسبةٌ أكبر أنّ “نهج فرنسا الصارم في التعامل مع العلمانية بات مُهدداً” وهي النتيجة التي يتوقع معها تصاعد خطاب الكراهية.
تسويق ماكرون لحملة الانتقادات والتوبيخ التي تتعرض لها بلاده على أنها حرب على حرية الرأي والتعبير لاقى صداه أوروبيًا، حيث عبرت بعض العواصم وعلى رأسها لندن عن تأييدها الكامل ودعمها للموقف الفرنسي في مواجهة الحملة التي تتعرض لها البلاد.
الرئيس الفرنسي الذي يواجه معارضة شرسة في الداخل وانتقادات شعبية حادة بسبب فشله في العديد من الملفات الاقتصادية التي أثقلت كاهل المواطن الفرنسي، يحاول جاهدًا توظيف استراتيجيتي “الدفاع المتقدم” و” الإلهاء” لغض الطرف حيال سقوطه السياسي والاقتصادي داخليًا.
وكما تسعى النظم السلطوية في مختلف بلدان العالم توظيف ملفات الأمن والتطرف لخدمة أجندات سياسية خاصة، يحاول ماكرون العزف على الوتر ذاته، إذ نجح في إشعال الشارع بعد هدوء نسبي خلال العام الحالي، وذلك عبر تصريحات هوجاء، نجح من خلالها في تسخين الأجواء وتصاعد الدخان الكثيف الذي يحاول الخروج منه رافعا شعارات الحرية والديمقراطية في مواجهة ظلام التشدد والتطرف.
الخطاب الرسمي المتشدد في فرنسا، رغم فردية الوقائع وافتقادها للبعد التنظيمي المؤسسي كما كان في السابق، قوبل بدعم كبير من تيارات اليمين المتطرف في مختلف دول أوروبا، وهو الموقف الذي أثار الكثير من التساؤلات حول دوافعه لاسيما وأن أوروبا على أبواب انتخابات قادمة، سواء على المستوى الرئاسي أو البرلماني، الأمر الذي يجعل من هذا الملف ورقة رابحة يمكن اللعب عليها في هذا الماراثون.
اليمين المتطرف.. فرصة سانحة
التكثيف الإعلامي لحادثة كنيسة نيس (مقارنة بواقعة نيوزيلندا مارس 2019 ومقتل 49 مسلمًا على أيدي مسلح أتهم فيما بعد بأنه مختل عقليًا) والدعوات المتعلقة بحملة المقاطعة الشعبية لفرنسا تعكس كيفية استغلال اليمين المتطرف في أوروبا لأي قضايا مجتمعية أو سياسية أو اقتصادية أو أمنية لمحاولة تعميق خطاب الكراهية في نفوس الأوروبيين بصفة عامة.
استراتيجيات الدعاية المركزة على الإسلاموفوبيا والترويج لها بين الحين والأخر بات السبيل الأكثر حضورًا للتيار اليميني لاستعادة شعبيته المفقودة، ولم يجد هذا التيارأفضل من تصريحات ماكرون العنصرية وردود الفعل حيالها لتكون وقوده الراهن لإشعال الموقف لصالح أجنداته السياسية.
تشير كافة التوقعات إلى أن هذا التيار من المتوقع تكثيف هجماته العنصرية ضد المسلمين خلال الفترة المقبلة، مستغلا الأوضاع الصعبة التي تمر بها القارة، حيث الإنهاك المالي والاقتصادي الذي تسبب فيه وباء كورونا المستجد، ليركز سهامه الدعائية لمهاجمة السياسيين الأوروبيين والقيام بعمليات عنصرية داخل المجتمعات الأوروبية، وهي البيئة التي يسعى لخلقها مجددًا والتي يحقق فيها نجاحات كبيرة.
ربما تتلاقى توجهات ماكرون العنصرية مع إرهاصات تصاعد خطاب الكراهية اليميني المتطرف وهو ما يعزز المخاوف، وهو ما أشار إليه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية والتابع للاتحاد الأوروبي، في تقريره المنشور في 5 آذار/مارس 2020 على موقعه الرسمي.
التقرير نقل عن السياسيين اليمينيين المتطرفين في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا مطالبتهم حكوماتهم بفرض ضوابط صارمة على الحدود، وتشديد الرقابة على المسلمين داخل القارة، حيث ربط هؤلاء بين انتشار كورونا في أوروبا وبين عبور اللاجئين من الحدود، وهو السيناريو الذي تبنته زعيمة التجمع الوطني الفرنسي ماريان لوبان، وزعيمة حزب البديل من أجل ألمانيا في البوندستاغ، أليس ويدل.
من خلال تحليل أكثر من 30000 حساب تابع لليمين المتطرف على تويتر توصلت الدراسة إلى أن معظمها مرتبط بحسابات يوتيوب تنشر مقاطع مصورة تستهدف نشر مناخ الإسلاموفوبيا في القارة
وتحت عنوان “فيروس الكراهية: إرهاب اليمين المتطرف في الفضاء السيبيران” نشر مجموعة باحثين من المعهد الدولي لمكافحة الإرهاب، دراسة في 4 ابريل 2020 كشفوا من خلالها لجوء اليمين المتطرف في أوروبا إلى آلة إعلامية دعائية ضخمة من خلال الإنترنت للترويج لأفكارهم العنصرية ضد الإسلام.
واستعرض التقرير ملامح الاستراتيجية الإعلامية لهذا التيار التي تنطلق من بناء امبراطورية خاصة لوسائل الإعلام، ثم زرع الخوف والشك من خلال الأخبار المزيفة (التضليل)، يعقبها تشويه سمعة المنتقدين، ومعها استخدام وسائل التواصل الاجتماعي الاجتماعية من أجل تضخيم قضايا و مسائل معينة، وصولا إلى وضع حرية الصحافة تحت الضغط.
ومن خلال تحليل أكثر من 30000 حساب تابع لليمين المتطرف على تويتر توصلت الدراسة إلى أن معظمها مرتبط بحسابات يوتيوب تنشر مقاطع مصورة تستهدف نشر مناخ الإسلاموفوبيا في القارة، وتعزيز العنصرية وسياسات تفوق البيض على بقية الأعراق الأخرى.
وفي الأخير.. فإن الأجندة الماكرونية تتطابق بشكل كبير مع اليمين المتطرف في توظيف خطاب الكراهية الذي كتب الرئيس الفرنسي سطره الأول لتتلقفه الأيادي اليمينية في فرنسا وخارجها لتضخيمه بما يخدم مصالحها السياسية والانتخابية خلال المرحلة المقبلة، ليبقى المشهد الأوروبي على أهبة الاستعداد لاستقبال الكثير من الجرائم العنصرية التي تغذي هذا المسار وسط حالة من الترقب من قبل المسلمين هناك.