أمام الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد التونسية والتراجع الحاد في اقتصاد البلاد، جراء تداعيات أزمة فيروس كورونا، وصعوبة الالتجاء إلى الأسواق المالية العالمية في هذه الظرفية، قرّرت حكومة هشام المشيشي اللجوء للبنك المركزي لشراء سندات تموّل بها الميزانية وذلك للمرة الأولى في تاريخ البلاد، عوض فرض ضرائب جديدة أو خفض الإنفاق، وهو ما رفضه البنك المركزي لأسباب عدّة؟
عجز قياسي
عجز الموازنة العامة في تونس لهذه السنة، من المنتظر أن يبلغ 14 مليار دينار (5 مليارات دولار)، أي 13.4% من الناتج الإجمالي، في حين كان مقدرا بالموازنة الأصلية بـ3% فقط، وهو ما يمثّل ارتفاعا كبيرا (يعتبر الأعلى مستوى خلال نحو 4 عقود) من الصعب التعامل معه في الظرف الحالي.
الحكومة التونسية، فسرت ارتفاع العجز بصرف مساعدات اجتماعية واقتصادية جراء وباء كورونا، وكان رئيس الوزراء التونسي السابق إلياس الفخفاخ، قد أعلن في مارس/ شباط الماضي، عن حزمة إجراءات استثنائية تبلغ كلفتها ملياري ونصف المليار دينار (850 مليون دولار) تهدف إلى حماية الأفراد والمؤسسات من أجل التخفيف من التأثيرات السلبية لتفشي وباء كورونا.
إلى جانب ذلك، قال رئيس الوزراء التونسي الحالي هشام المشيشي إن الحكومة ستضخ 1.5 مليار دولار بالشركات الحكومية في إطار محاولة لإصلاح القطاع المتعثر- خاصة وأن معظم شركات القطاع العام تواجه صعوبات مالية، وبعضها مهدد بالإفلاس نتيجة نقص الموارد المالية، كما ستقدم الحكومة دفعة جديدة من زيادات الأجور لموظفي الدولة.
أمام استبعادها فرض ضرائب جديدة والتقليص من الإنفاق وصعوبة الاقتراض الخارجي، توجّهت الحكومة التونسية إلى السوق المالية الداخلية
تسبّب أزمة وباء كورونا، في غلق مئات المؤسسات في تونس وخسارة 161 ألف منصب شغل منذ مارس/آذار الماضي، وفق أرقام المعهد التونسي للإحصاء، وهو ما خلق مشهدا اجتماعيا محتقنا تجسّد في الاعتصامات والإضرابات المتتالية.
كما تسببت جائحة فيروس كورونا القاتل في تقلص حركة السياحة بنسبة فاقت 90% منذ مارس/آذار 2020، ودفع الفيروس الخطير أنشطة الحرفيين إلى حافة الهاوية، في أشد أزمة يعرفها القطاع السياحي في تونس منذ عقود عدّة.
وسبق أن أكّدت المؤشرات الاقتصادية التي نشرها المعهد التونسي للإحصاء في 15 أغسطس/آب الماضي، دخول البلاد في نفق مظلم من الانهيار الاقتصادي، ففي الثلث الثاني للسنة الحالية بلغ مستوى نمو الاقتصاد أدنى مستوياته السلبية تاريخيا مسجلا 21.6%- (سالب).
نتيجة كلّ هذا تحتاج البلاد لميزانية تكميلية لهذه السنة الحالية حتى تعدّل الميزانية الأولى. وأمام هذا الموقف، تخطط الحكومة لتعبئة موارد إضافية بنحو 10 مليارات دينار (3.5 مليارات دولار) لتمويل العجز خلال ما تبقى من العام.
الحكومة تتوجه إلى السوق الداخلية
هذا الوضع حتّم على الحكومة إيجاد موارد مالية جديدة لتمويل الميزانية التكميلية، لكن الظرف الاقتصادي العالمي والفترة الوجيزة التي يُفترض أن يجمع فيها المال، يقتضي على الحكومة إيجاد الحلول الكفيلة لتوفير التمويل الكافي للميزانية التكميلية.
أمام استبعادها فرض ضرائب جديدة والتقليص من الإنفاق وصعوبة الاقتراض الخارجي، توجّهت الحكومة التونسية إلى السوق المالية الداخلية، والمتمثّلة في البنك المركزي حتى يشتري سندات، لتمويل العجز القياسي في الموازنة للسنة الحالية.
وزير المالية علي الكعلي قال في وقت سابق: “ليس لدينا عديد الخيارات.. هناك خيار رفع الضرائب ولن نفعل.. هناك خيار بيع بعض مساهمات الدولة في شركات ولن نفعل”. وأضاف قائلا: “من الخيارات المتبقية هي أن يساهم البنك المركزي في تمويل الاقتصاد التونسي عبر شراء سندات ونحن نتحدث مع البنك المركزي بخصوص هذا”.
وتعتزم الحكومة اللجوء إلى التمويل الداخلي بحجم 14.3 مليار دينار بعد أن كان مقررا في القانون الأصلي للمالية بـ2.4 مليار دينار فقط أي بارتفاع يناهز 12 مليار دينار. وسبق أن صرّح محافظ البنك المركزي مروان العباسي بأن الحكومة طلبت من البنك المركزي شراء سندات الخزانة للمساعدة في تغطية عجز يعادل 14 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.
ووفق وزير المالية التونسي علي الكعلي، فإن البنك المركزي قادر على المساعدة في تمويل العجز في ميزانية الحكومة خاصة وأنه من الصعب الذهاب إلى السوق الخارجي لتدبير تمويل حتى نهاية العام.
البنك المركزي والبرلمان يرفضان خطط الحكومة
مساعي الحكومة لاقتراض هذه المبالغ الطائلة من السوق الداخلية، وجدت رفضا من قبل البرلمان والبنك المركزي، اللذان انتقدا التوجه الحكومي في هذا الشأن، وقد طالباها بإعادة النظر في الميزانية التكميلية المقدّمة.
ووفق البنك المركزي فإن خطط الحكومة سيكون لها تداعيات سلبية على التوازنات الاقتصادية للبلاد، كما من شأن مشاركة القطاع البنكي في هذا الجهد لتعبئة الموارد عبر الاكتتاب في إصدارات الخزينة من شأنه أن يسلط مزيدًا من الضغوط على السيولة وبالتالي مزيدا من اللجوء إلى إعادة تمويل البنك المركزي.
وشدد البنك على أهمية التحكم في تأثير اللجوء المفرط للتمويل الداخلي على استقرار الاقتصاد الكلي والتأثيرات المباشرة وغير المباشرة على مستوى التضخم وعلى الحجم الجملي لإعادة التمويل، فضلا على إمكانية اختلال التوازن الخارجي وتدهور قيمة الدينار.
من الحلول المستعجلة التي يمكن لحكومة المشيشي القيام بها لتجاوز “الكارثة”، خفض نفقات الدولة التي شهدت ارتفاعا كبيرا في السنوات الأخيرة
يرى محافظ البنك المركزي مروان العباسي، أن لجوء الحكومة للاقتراض الداخلي، سيمس القوة الشرائية للتونسيين، وسيدمر مجهودا وعملا استمر سنوات من قبل البنك المركزي لخفض معدل التضخم إلى 5.4% وتدعيم قيمة الدينار التونسي.
العباسي، دعا الحكومة إلى مراجعة الميزانية التكميلية وخفض الإنفاق، مؤكّدا أن البنك المركزي يمكنه تمويل الخزانة بنسبة ثلاثة في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحد أقصى، مضيفا أنه سيحتاج موافقة البرلمان لشراء السندات.
إلى جانب ذلك، ضمت لجنة المالية بالبرلمان التونسي صوتها إلى محافظ البنك المركزي في مطالبة الحكومة بخفض خطط الإنفاق، حيث رفضت مشروع قانون تكميلي للموازنة وطالبت الحكومة بسحب هذا القانون وخفض الإنفاق وتقديم مشروع جديد بعجز مقبول.
خفض الإنفاق والبدء في الإصلاح
أمام هذه الأزمة الاقتصادية الغير مسبوقة ورفض البنك المركزي تمويل الميزانية التكميلية للسنة الحالية، تجد الحكومة التونسية نفسها في مأزق كبير يحتّم عليها اتخاذ إجراءات استثنائية “موجعة”، حتى تتفادى الكارثة والانهيار التام للبلاد.
سبق أن وضع رئيس الحكومة هشام المشيشي خلال جلسة منح الثقة بالبرلمان على رأس أولويات عمل حكومته إيقاف نزيف اختلال التوازنات المالية العمومية، محذرا من سياسة التداين مع الخارج، ومتعهدا بتحسين مناخ الثقة والاستثمار وتحسين الأوضاع، لكن تواصل وباء كورونا غيّر كلّ شيء.
من الحلول المستعجلة التي يمكن لحكومة المشيشي القيام بها لتجاوز “الكارثة”، خفض نفقات الدولة التي شهدت ارتفاعا كبيرا في السنوات الأخيرة، بنسق كبير لا يتماشى مع النمو الاقتصادي الذي يشهد تراجع متواصلا.
على الحكومة التونسية أيضا أن تسرع في عملية إصلاح الاقتصاد التي تأخّرت كثيرا بسبب التجاذبات السياسية وتعاقب الحكومات خلال وقت قصير، ويكلّف تأخر الإصلاح الاقتصادي أموالا طائلة على البلاد التي هي في أمسّ الحاجة لها في الوقت الحالي.