تسير “إسرائيل” نحو تحقيق حلمها المنشود في أن تصبح مركزًا إقليميًا للطاقة بخطوات دقيقة وصفعات مدوية على مؤخرة المشروع القومي العروبي الذي ينفرط حباته واحدة تلو الأخرى في ظل حالة من الركوع والرضوخ للتطبيع لم تشهدها المنطقة منذ زرع السرطان الصهيوني في جسد الأمة قبل أكثر من 70 عامًا.
الحلم الإسرائيلي الذي من المفترض أن يقوم على حقوق مصر وتركيا في المنطقة يتحقق بفضل حالة السيلان الواضحة في الاتفاقيات الإماراتية الإسرائيلية للتعاون في مجال الطاقة الذي تعزز بصورة واضحة بعد توقيع اتفاق السلام بينهما في 15 من سبتمبر/أيلول الماضي في العاصمة واشنطن.
وفي خضم الاتفاقيات الاقتصادية الموقعة بين البلدين رغم مضي شهر ونصف فقط على توقيع اتفاق واشنطن، خرجت للنور مسودة التعاون الأبرز والأكثر خطورة الخاصة بـ”تطوير إستراتيجية مشتركة” في قطاع الطاقة، التي من بين تفاصيلها إنشاء أنبوب لنقل الغاز الإماراتي والخليجي إلى أوروبا عبر “إسرائيل”، بعيدًا عن الممر التقليدي وهو قناة السويس.
الحديث عن بديل للممر المائي المصري الذي يمثل أحد أكبر الموارد الاقتصادية في البلاد لم يكن وليد اليوم، لكن الأمور تتسارع بشكل كبير منذ توقيع الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي لطرح هذا الملف على الطاولة مرة أخرى، لكن هذه المرة بخطوات عملية تضع المشروع برمته تحت مجهر الدراسة والتخطيط، الأمر الذي ربما يؤثر على قناة السويس ويهدد مستقبلها وعائداتها المتوقعة، هذا في الوقت الذي تحيا فيه العلاقات المصرية الإماراتية حالة من الوئام والتناغم منذ قدوم الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الحكم 2014.
أنبوب إيلات – عسقلان
بعد 9 أيام فقط من توقيع الاتفاق، وتحديدًا في 24 من سبتمبر/أيلول الماضي التقى وزيرا الطاقة الإماراتي سهيل المزروعي والإسرائيلي يوفال شتاينتز، في لقاء افتراضي عبر منصات الإنترنت، بحثا خلاله العلاقات الثنائية بين البلدين وسبل تعزيزها في مجال الطاقة وبنيتها التحتية.
وفي الأول في أكتوبر/تشرين الثاني الحاليّ تم الإعلان عن اتفاق ثلاثي بين “إسرائيل” والإمارات ومعهما الولايات المتحدة بهدف تطوير إستراتيجية مشتركة في مجال الطاقة تشمل تطوير بنى تحتية لنقل الغاز والنفط من آسيا والشرق الأوسط إلى أوروبا.
وكان من بين تلك الإستراتيجية المتعلقة بتطوير البنى التحتية إقامة أنبوب “إيلات” جنوبي “إسرائيل” على البحر الأحمر، و”عسقلان” على البحر المتوسط، الذي يهدف إلى تحويل خط سير نقل نفط دول الخليج إلى أسواق الاستهلاك في أوروبا من قناة السويس إلى الأراضي المحتلة.
ويشمل هذا الأنبوب خطين، أحدهما للنفط والآخر للغاز، ويصل طول المتعلق بنقل الغاز 254 كيلومترًا وقطره 42 بوصة، يوازيه خط آخر لنقل النفط بقطر 16 بوصة وتصل طاقته التصديرية إلى 1.2 مليون برميل يوميًا، كما تم تجهيزه بمضخات عكسية تسمح بنقل النفط بين ميناءي إيلات وعسقلان في الاتجاهين.
يذكر أن ميناء عسقلان يضم خزانات للنفط بسعة 2.3 مليون برميل، كما يستقبل حاويات خام بحجم 300 ألف طن، الأمر الذي يفوق قدرة قناة السويس الاستيعابية التي لا تتسع لهذه النوعية من الناقلات الضخمة، ما يضفي على الممر الجديد أهمية إستراتيجية.
تتويج لتعاون مسبق
بات من الواضح أن “إسرائيل” تبحث عما هو أبعد من مجرد أنبوب لنقل الغاز والنفط إلى أوروبا، إذ إنها تنظر إلى لعب دور أكبر في تجارة الطاقة وأن تكون لاعبًا محوريًا في تشكيل سياسة البترول بالمنطقة، وعليه فإن الاتفاق المبرم مع الإمارات جاء بمثابة بوابة العبور نحو تحقيق ما ترنو إليه.
تشير التقديرات إلى أن خط الأنبوب المزمع إنشاؤه حاليًّا قد بني سرًا بين “إسرائيل” وإيران في ستينيات القرن الماضي، لكن ما كان يمكن للإسرائيليين الإعلان عنه قبل توقيع اتفاق السلام مع الإمارات، وعليه يتوقع الخبراء أن تشهد المرحلة القادمة موجات متتالية من المشروعات في هذا المجال الحيوي.
وترجع اللبنة الأولى التي وضعتها تل أبيب في بناء تحولها لمركز إقليمي للطاقة إلى العقد الأول من القرن الحاليّ، حيث بدأت مسيرتها نحو استكشاف حدود الثروة في قاع شرق المتوسط، وقد آلت تلك المسيرة إلى اكتشاف حقلي تمار وليفياثان للغاز، لتضع “إسرائيل” أولى أقدامها في تحقيق حلمها.
وخلال الأعوام الماضية قطعت الشركات الإماراتية والإسرائيلية خطوات كبيرة في تحقيق التناغم والتعاون الاقتصادي في مجال الطاقة، وعليه يمكن القول إن أنبوب إيلات – عسقلان هو تتويج لتاريخ من التعاون والمشروعات والاتفاقيات المبرمة بين الجانبين، التي لم يسلط الضوء عليها بصورة كافية لأبعاد سياسية وأمنية.
وبالفعل أثمرت تلك المباحثات عن توقيع عدد من الاتفاقيات بشأن مشاركة شركات إماراتية في تمويل مشروعات في قطاع الطاقة الإسرائيلي، كذلك المشاركة في خط أنابيب الغاز البحري الذي اقترحت “إسرائيل” إقامته من شرق المتوسط إلى أوروبا عبر كريت وإيطاليا.
وفي 2018 كشف وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينتز عن موافقة أبو ظبي على المشاركة في تمويل الخط بقيمة 100 مليون دولار، واليوم وبعد توقيع الاتفاق فإن مثل هذا الممر أصبح يمثل الحلقة المركزية في مخطط “إسرائيل” لإحكام سيطرتها على مسار الطاقة في المنطقة، هذا المسار الذي يمتد من الخليج إلى شرق المتوسط ومنه إلى أوروبا والعالم.
ويتضمن هذا المخطط الاستيطاني الجديد ربط شبكات الكهرباء لدول المنطقة، وتصدير فائض الإنتاج إلى أوروبا، عبر كابل كهربائي بحري يمتد من “إسرائيل” إلى اليونان، ومن هناك يرتبط بالشبكة الأوروبية الموحدة، كذلك إنشاء خطوط لنقل الغاز عبر “إسرائيل” إلى أوروبا من خلال خط أنابيب شرق المتوسط البحري عبر كريت إلى إيطاليا، ومنها يرتبط مع الشبكة الأوروبية الموحدة.
ولعل التطورات التي شهدها منتدى شرق المتوسط للغاز EMGF الذي يتخذ من القاهرة مقرًا له وتحويله كمنصة جديدة للتعاون الإقليمي آخر حلقات هذا المخطط، حيث جاء انضمام “إسرائيل” إليها ليقضي تمامًا على الطابع (العربي) لترتيبات التعاون الإقليمي في المنطقة.
وبات المنتدى الذي يضم حاليًّا كلًا من “إسرائيل” والأردن ومصر وإيطاليا واليونان وقبرص والسلطة الفلسطينية، مع احتمالية انضمام الإمارات بعد توجيه وزير الطاقة الإسرائيلي دعوة لها، في ظل تجاهل تركيا، لغزًا سياسيًا كبيرًا يحتاج إلى فك طلاسمه في ظل ما يثار بشأن دوافع إنشائه وأهدافه غير المعلنة التي تتناغم والأجندة الإسرائيلية في المنطقة.
ضربة لقناة السويس
بدأت الشركة المخولة بتشغيل هذا الخط المزمع وهي شركة “خطوط أنابيب آسيا – أوروبا EAPC” في التواصل مع بيوت تجارة النفط في أوروبا وآسيا وشركات التكرير في بعض الدول مثل هولندا وسنغافورة والهند والصين وكوريا الجنوبية واليابان، لعقد اتفاقات لتصدير النفط الخام والمشتقات النفطية عبر “إسرائيل”.
ومن المتوقع وفق التقديرات الأولية أن تقتنص تلك الشركة (قامت في الأساس على أنقاض شركة إسرائيلية – إيرانية مشتركة، تم إنشاؤها عام 1968 وأعلنت “إسرائيل” تأميمها بعد قيام الثورة الإيرانية) نحو 15% من تدفقات النفط عبر قناة السويس، من خلال تحويل مسارات ناقلات النفط إلى طريق إيلات – عسقلان، فيما يذهب آخرون إلى أن حركة التجارة الإجمالية في القناة مرشحة للتناقص بأكثر من 17%، مع بداية تشغيل الأنبوب الجديد.
وتعد قناة السويس التي تم افتتاحها عام 1869 ويبلغ طولها 193 كيلومترًا أحد أبرز مصادر الدخل القومي المصري، إذ تدر سنويًا ما يزيد على 5 مليارات دولار، فهي ثاني أكبر مصدر للعملة الأجنبية لمصر بعد السياحة، وقد تم تطويرها في عهد السيسي بإنشاء تفريعة موازية بطول 72 كيلومترًا بهدف تقليص فترة انتظار السفن والسماح بمرورها في الاتجاهين طوال الوقت، الأمر الذي من الممكن أن يزيد من عائدات القناة وهو ما لم يحدث لأسباب تتعلق بحركة التجارة العالمية.
ورغم أن إقامة هذا الممر ما زال قيد الدراسة والبحث، هذا بجانب ضرورة الحصول على الموافقة السعودية أولًا على مد خطب الأنابيب عبر أراضيها، فإن تجميع النفط الخليجي عبر خط أنابيب بري رئيسي إلى شرق البحر المتوسط سيكون بمثابة ضربة مؤلمة للعديد من الممرات المائية الإستراتيجية في المنطقة، على رأسها مضيق هرمز وخليج عمان وباب المندب والبحر الأحمر.
الأمر حال الشروع فيه سيفتح الباب أمام مشروعات أخرى موازية له، كإقامة طرق إقليمية سريعة للشاحنات، بجانب خط سكة حديد لنقل البضائع والحملات الجافة من الخليج وآسيا إلى أوروبا، وهذا يعني المنافسة الشرسة لمشروع طريق الحرير الصيني، فضلًا عما يمثله من خسارة فادحة لخط (سوميد) الذي تشارك فيه مصر والسعودية والإمارات والكويت وقطر.
كل هذا سينعكس بالسلب على إيرادات مصر من رسوم العبور والتخزين وخدمات الشحن والتفريغ من العين السخنة إلى سيدي كرير غرب الإسكندرية، وبدلًا من اقتراب مصر من حلم الاستحواذ على ما يقرب من 10% من النفط المنقول بحرًا حول العالم من خلال قناة السويس وموانئ الإسكندرية إذ بها تفقد حصتها الحاليّة ومن ثم تراجع إيرداتها في الوقت الذي تهرول فيه لإنعاش خزائنها بعائدات إضافية لمواجهة العجز الذي تعاني منه بسبب السياسات الاقتصادية والمالية التي يتبعها النظام الحاليّ.
لم يصدر عن القاهرة أي رد فعل أو تعليق رسمي بشأن هذا المشروع الإماراتي الإسرائيلي رغم ما يحمله من تهديد واضح ومباشر لمستقبل حركة النقل في قناة السويس، ربما هناك اتصالات سرية غير معلنة بحكم الحميمية التي تخيم على العلاقات بين البلدان الثلاث، لكن الأيام المقبلة من المتوقع ان تشهد توترات وصدامات بين الرفقاء بسبب تعارض المصالح حتى إن سعوا إلى تجميدها مؤقتًا.