دائمًا ما يتم النظر إلى الموقع الإستراتيجي لتركيا كجسر أو حلقة بين عدد من الحضارات والثقافات البشرية، ومن الطبيعي أن يلعب الموقع الجغرافي دورًا اساسيًا في تعزيز هذه الميزة الإستراتيجية، فالجمهورية التركية تتمركز على حيز جغرافي سمح لها بالسيطرة على أهم الطرق البرية الواصلة بين أهم التجمعات الحضارية، لكن الأمر لا يتوقف عند التمركز الجغرافي بل يتعداه إلى الخصائص الثقافية والحضارية لمناطق الجمهورية التركية.
فمنطقة مرمرة تشكل نقطة اتصال مع دول البلقان وأوروبا الشرقية ويساعدها في ذلك الطبيعية الثقافية لسكانها، وكذلك الأمر مع منطقة البحر الأسود التي تشكل حلقة الوصل مع دول حوض البحر الأسود، أما منطقة الجنوب الشرقي فتشكل نقطة للتواصل بين الجمهورية التركية والعالم العربي، فالعادات والتقاليد السائدة في هذه المنطقة تتشابه بشكل كبير مع عادات وتقاليد التجمعات العربية المجاورة.
مثالًا على ذلك، مدينة غازي عنتاب التي شكلت لسنوات طويلة المجال الحيوي لمدينة حلب، المركز الحضاري الأهم للمنطقة، لكن عملية ترسيم الحدود بعد الحرب العالمية الأولى حرمت المدينة من مجالها الحيوي الذي تشكل منطقة جنوب شرق الاناضول جزءًا أساسيًا منه.
هذه المميزات الجغرافية والثقافية تمنح المنطقة فرصةً مهمةً لخلق روابط مع المناطق العربية المجاورة، خاصة مع استقرار تجمع عربي كبير مستند على اللاجئين السورين في مدن المنطقة، الأمر الذي يمنحها ميزة إضافية في اتجاه تعزيزها كنقطة للتواصل بين العالم العربي وتركيا.
منطقة الجنوب الشرقي: التحديات والفرص
تتكون منطقة جنوب شرق الأناضول من 9 مدن أساسية (ديار بكر وغازي عنتاب وأديمان وكيلس وماردين وسيرت وشانلي أورفة وشرناق) تبلغ مساحتها الإجمالية 75.193 كيلومتر مربع بما يوازي 9.7% من المساحة الإجمالية لتركيا، فيما يبلغ عدد السكان في هذه المنطقة 8.8 مليون نسمة أي ما نسبته 10.8% من سكان تركيا.
لسنوات طويلة شكلت هذه المنطقة العنوان الأبرز لحالة عدم الاستقرار السياسي والأمني في الجمهورية التركية، فشهدت اندلاع عدد من موجات التمرد والعنف كان آخرها ظهور حزب العمال الكردستاني – المصنف على القوائم التركية والأوروبية للإرهاب – في منتصف ثمانينيات القرن الماضي وصدامه مع الدولة التركية، ما أدى إلى مقتل وتهجير الآلاف من سكان المنطقة الذين رحل جزء كبير منهم إلى مدن الغرب التركية الأكثر تقدمًا، وهو ما ساهم في تراجع معدلات التنمية في المنطقة.
ونظرًا لهذا الوضع، اندفعت الحكومة التركية في نهاية ثمانينيات القرن الماضي إلى تصميم مشروع تنمية شامل للمنطقة عُرف باسم مشروع “غاب” الذي يسعى للوصول إلى النهضة الاقتصادية الشاملة في كل القطاعات والمجالات وعلى رأسها القطاع الزراعي الذي يشكل الركيزة الأساسية للمشروع والقيمة المضافة المهمة للاقتصاد التركي.
إذ إن المنطقة تنتج 56% من إجمالي محصول القطن في تركيا و93.6% من محصول العدس الأحمر و96.98% من محصول الفستق و35.3% من محصول القمح، بالإضافة إلى ذلك تحتوي المنطقة على 9.8% من الماشية في تركيا و18.8% من الأغنام و25.1% من الماعز.
فضلًا عن مساهمة المشروع في خدمة الطاقة الكهربائية الصادرة عن السدود وذلك على طريق السدود المقامة على نهري دجلة والفرات، حيث تسعى الحكومة التركية لبناء 22 سدًا و19 مركزًا لتوليد كهرباء تعمل على توفير 27 مليار كيلووات/ساعة.
عاصمة المطبخ التركي
تتميز كل منطقة من مناطق الجمهورية التركية بنوع معين من الطعام، لكن منطقة جنوب شرق الأناضول تتفوق على المناطق الأخرى كافة في نوعية الأطعمة المقدمة، فمن الممكن القول إن مطبخ المنطقة يشكل بلا منازع عاصمة للمطبخ التركي، وتشتهر بأصناف الطعام المتعددة وعلى رأسها المتعلقة باللحم نتيجة تربية الحيوانات في مراعيها، بالإضافة إلى الحلويات والحساء.
ومن المدن المشهورة بأكلاتها مدينة غازي عنتاب التي تشتهر بصناعة الحلويات وأهمها صيتًا البقلاوة التي أصبحت علامة مميزة للمدينة، ولا يخفى على أحد أيضًا حلويات الكتمار المليئة بالفستق.
أما مدينة أورفا فتشتهر بالكباب وعلى رأسه “أورفه كباب” و”إزمي كباب Ezme kebabı” كما تشتهر باللحم بالعجين وأنواع مختلفة من الحساء.
واستطاع عدد من رجال الأعمال تسويق أكلات المنطقة في عموم تركيا، حيث ظهرت عدد من سلاسل المطاعم والماركات التي تسوق منتجات وأكلات منطقة الجنوب الشرقي، لكن مع ذلك فهي لن تغني عن زيارة المنطقة وتذوق الأطعمة من مصدرها الأساسي.
الثقافة والناس
تحتوي مدن الجنوب الشرقي على خليط عرقي مكون من العرب والأتراك وأغلبية كردية واضحة. حافظ هذا المزيج المتنوع على عاداته وتقاليده التي توارثها عن أجداده، ورغم التطورات المتسارعة للحياة المدنية وزيادة هيمنة الدولة ومؤسساتها، فإن البنى التقليدية لهذه المجتمعات حافظت على وجودها ودورها، فالعشائر الكردية ما زالت تحتفظ بوجودها في تفاصيل المناسبات الخاصة بأبنائها كالعزاء والزواج، فيحرص الحاضرون على تقديم “النقوط” للعروسين الذي يصل في العادة إلى مبالغ معتبرة تعينهما على بدء حياتهما.
وعلى صعيد الغناء تشتهر المنطقة بعدد من الأنماط الموسيقية على رأسها ما يعرف بالهويرات hoyrat – كلمة يونانية تعني الشدة أو الصلابة – وهو نمط غنائي شعبي يقوم على التغني بالقوة والشجاعة والرجولة، يغنيه في العادة أحد الأشخاص مع الأدوات الموسيقية أو دونها، وتشتهر مدن غازي عنتاب وأورفة وأديمان بهذا النمط من الغناء وخاصة المناطق الريفية المحيطة بهذه المدن ولدى الرعاة في الجبال.
كما يشتهر في المنطقة نمط غنائي آخر يعرف باسم “ağıt” وهو نمط غنائي شبيه بالشلعيات المنتشرة في مناطق شمال فلسطين التي ظهرت بالتزامن مع حملات التجنيد الإجباري العثماني للبلدان العربية إبان الحرب العالمية الأولى.
وعلى غرار الشلعيات ينشد سكان المنطقة الـ”ağıt” في أوقات الشدة والحزن وعند الفقد والهجران، ويشتهر الأكراد على وجه الخصوص بهذا الفن الذي لا يترافق معه في العادة أي عزف موسيقي وعادة يؤديه شخص واحد.
تحضر الموسيقى في كل المناسبات والتجمعات الاجتماعية، ففي مدينة أديمان تنظم الطريقة “ahilik” الصوفية التابعة للطريقة البكتاشية جلسات أسبوعية تسمى “Harfane” حيث تعزف الموسيقى وتنشد الأغاني الشعبية والصوفية، كما تشتهر مدينتا أوروفة وديار بكر بجلسات السمر الليلية التي تغنى وتعزف فيها الموسيقى بشكل جماعي وعادة ما تنظم في المناسبات الخاصة والعامة.
السياحة
جعل الموقع الجغرافي المميز لمنطقة جنوب شرق الأناضول منها مركزًا للعديد من التجمعات الحضارية التي ازدهرت ونشأت في المنطقة نتيجة لتوافر كل عوامل قيام الحضارة، فيمر من خلال هذه المنطقة نهرا دجلة والفرات، كما تحتوي على أراضٍ خصبة صالحة للزراعة بالإضافة إلى الظروف المناخية المناسبة، ما أدى إلى ازدهار السياحة التاريخية في هذه المنطقة التي تضم عددًا من المعالم البارزة كجبل النمرود في مدينة أديمان الذي يحتوي على القطع الأثرية النادرة المصنفة من اليونسكو خاصة بالتراث الإنساني.
كما تضم مدينة ديار بكر عددًا كبيرًا من المواقع التاريخية العائدة إلى عصور متنوعة أهمها التي بنيت في عهد الدولة السلجوقية كجسر مالابادي (Malabadi) الذي أنشئ في عهد الدولة الأراتقية عام 1147م ويتميز بكونه أكبر جسر حجري تم بناؤه وشبهه الرحالة العثماني أوليا جلبي بقبة مسجد آيا صوفيا، حيث يمتد كقوس واحد يحتوي في داخله على عدد من الغرف التي استخدمها الحراس والقائمون على إدارة الجسر.
وفي مدينة ديار بكر من الممكن زيارة كنيسة القديس كيراكوس التي تعد أهم معلم للأرمن المسيحيين في منطقة شرق الأناضول، وبالإضافة إلى السياحة التاريخية تمتلئ المنطقة بالسياح الباحثين عن تذوق أطعمة المطبخ التركي الذي تشكل مدن الجنوب الشرقي المساهم الأبرز فيه.
ختامًا، منذ قدوم حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002 بدأت الدولة التركية في تبني مقاربات جديدة لحل الأزمة القائمة في منطقة الجنوب الشرقي، استندت فيها إلى السير في ثلاثة خطوط متوازية:
الأول يقوم على التوصل إلى حل سياسي بالتفاوض مع القوى السياسية الكردية، والثاني يقوم على الاعتراف بالحقوق الثقافية للشعوب المختلفة وهذا ما حقق فيه الحزب اختراقًا مهمًا، والمسار الثالث الأكثر نجاحًا تمثل في تعزيز عمليات التنمية الاقتصادية وساهم في تعزيز اندماج المنطقة في دورة الاقتصاد التركي، وبالتالي توفير قاعدة متينة لأي حلول أخرى.
اليوم وفي ظل اقتراب الجمهورية من مئويتها الأولى ما زالت عمليات التنمية في منطقة جنوب شرق الأناضول تواجه عددًا من الإشكاليات والتحديات حتى تصل إلى المستويات القائمة في غرب البلاد، ورغم تقدم المسار الذي خطه حزب العدالة والتنمية عام 2002، فإن عددًا من المهددات تواجه هذا المسار أهمها التراجع الاقتصادي، مع ذلك تمتلك منطقة جنوب شرق الأناضول مميزات إستراتيجية تجعلها فرصة حقيقية لمستقبل أفضل للجمهورية التركية.