تشهد الساحة السودانية حالة من السيولة السياسية منذ إعلان موافقة الخرطوم وتل أبيب التوقيع على “اتفاق سلام” بينهما، لتصبح الدولة الإفريقية هي الثالثة التي تنضم لقطار التطبيع خلال شهرين، والخامسة منذ احتلال “إسرائيل” للأراضي الفلسطينية قبل 72 عامًا.
وبعيدًا عن تفسيرات الاتفاق وما إذا كان تطبيعًا أو مجرد إقامة علاقات اقتصادية وتجارية مع دولة الاحتلال، إلا أنه وضع السلطة الانتقالية الحاليّة بشقيها، المجلس السيادي والحكومة، في مواجهة مباشرة مع الأحزاب والقوى السياسية من جانب، والشارع السوداني من جانب آخر.
التباين الشعبي والسياسي حيال هذه الخطوة رسم صورة ضبابية بشأن مستقبل هذا الاتفاق واحتمالية تنفيذه على أرض الواقع، ففريق يراه دفعة لحل الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها البلاد وبوابة للانفتاح على المجتمع الدولي، فيما يعتبره آخرون “خيانة” وفاقدًا للشرعية كونه صادرًا عن حكومة انتقالية وليست منتخبة ولم يخضع لتصويت البرلمان، هذا بجانب أنه يتعارض وقيم ثورة ديسمبر التي أطاحت بالرئيس عمر البشير في أبريل/نيسان 2019.
ويومًا تلو الآخر تتسع فجوة هذا التباين في ظل الانتفاضة الشعبية الرافضة للتطبيع بما يزيد معها مخاوف الانقسام السياسي وإحداث شروخات داخل الائتلاف الحاكم خاصة أن أحزاب عدة من المنضوية تحت لوائه أعلنت رفضها لهذا الاتفاق، الأمر الذي يهدد مستقبل البلاد ويحذر من العودة إلى مربع العنف واللااستقرار مرة أخرى.
انقسام سياسي
أحدث الاتفاق انقسامًا سياسيًا داخل المكونات الحزبية السودانية، سواء المنضوية تحت تحالف السلطة أم المعارضة، حيث أعلنت بعض الأحزاب التابعة لقوى “الحرية والتغيير” وهي التحالف الأكبر في تاريخ البلاد والمكون من عدد من الكيانات أبرزها “تجمع المهنيين” و”تحالف الإجماع الوطني” و”تحالف نداء السودان” و”تحالف التجمع الاتحادي والقوى المدنية” رفضها لأي خطوات تطبيعية مع دولة الاحتلال.
وكان “تحالف الإجماع الوطني” ومن أبرز أحزابه “الشيوعي” و”البعث العربي الاشتراكي” و”الناصري” أول من بادر بالرفض، معلنًا في بيان له “نرفض أي تطبيع مع الكيان الصهيوني”، مضيفًا “نرفض أي قرار يعني بالتطبيع يتم دون تفويض من مجلس تشريعي منتخب، خاصة في ظل تغييب تام للشعب وقواه الحية”.
الموقف ذاته تبناه تحالف “نداء السودان” الذي يضم أحزاب “الأمة القومي” و”المؤتمر السوداني” و”البعث السوداني” و”الجبهة الثورية” الذي يرى أنه “ليس من حق سلطات الفترة الانتقالية التقرير في القضايا الخلافية الكبيرة التي هي من صميم عمل الحكومات المنتخبة”.
الكيان الرافض للاتفاق دعا إلى تدشين جبهة وطنية ضد التطبيع تأخذ على عاتقها التصدي لكل مساعي التقارب مع دولة الاحتلال دون حصول الشعب الفلسطيني على كامل حقوقه، كما ناشدوا السلطة الانتقالية بالتراجع عن تلك الخطوة قبل فوات الأوان.
أما التيار المؤيد للاتفاقية من داخل الائتلاف الحاكم فتتزعمه “الجبهة الثورية” التي أعلنت بشقيها (الجبهة الثورية والجبهة الثورية بقيادة مناوي)، ترحيبها بالتطبيع مع “إسرائيل”، حيث أعلن المتحدث باسم “الجبهة الثورية” أسامة سعيد عن “ترحيبه بإقامة علاقات مع “إسرائيل” لأجل مصلحة السودان”، واعتبرها “خطوة شجاعة”.
فيما أشار رئيس “حركة تحرير السودان”، إلى أن قرار التطبيع “أمر حتمي لا بد من اتخاذه نسبة إلى أن الوضع في العالم الجديد تحدده المشاركات عبر المصالح التي تفرض خطى سير أي دولة، وإسرائيل نواة”، فيما أوضح رئيس “المؤتمر السوداني” بأن الحزب “ليس له موقف أيديولوجي مسبق، كما أن سياسته تقوم على المصالح، وإذا كانت هناك مصلحة حقيقية مع “إسرائيل” فلا مانع من التطبيع”.
أصوات عدة داخل السودان تحذر من اتساع رقعة المعارضة لهذا الاتفاق، وما قد ينجم عنه من تزايد الهوة بين السلطة والشارع، ما قد يمهد الطريق نحو حالة من الفوضى التي قد تعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل ديسمبر 2018
ومن جهة أخرى لم يعلن “تجمع المهنيين” و”التجمع الاتحادي” و”القوى المدنية” مواقفهم من هذا الاتفاق حتى كتابة هذه السطور، فيما تشير بعض التقديرات إلى حدوث تباين واضح داخل تلك الكيانات بسبب التطبيع إلا أنها لم تظهر بشكل علني حفاظًا على تماسك الجبهة المدنية داخل التحالف، بحسب رأي مصادر خاصة لـ”نون بوست”.
التباين في وجهات النظر هو حال القوى السياسية خارج السلطة كذلك، حيث أيد الاتفاق عدد من الأحزاب منها “حزب الأمة” بقيادة مبارك الفاضل (من أوائل المجاهرين بضرورة التطبيع، ودعا إليه عندما كان نائب رئيس وزراء في عهد عمر البشير في 2017) الذي يرى أن هذه الخطوة تهدف إلى تحقيق مصالح السودان في المقام الأول.
فيما وقفت التيارات الإسلامية المختلفة ضد التطبيع جملةً وتفصيلًا، حيث تتمسك بموقفها السابق من أن “إسرائيل” هي العدو الأبدي للبلاد، وعلى رأس تلك التيارات “حزب المؤتمر الشعبي” الذي أشار في بيان له أن موقفه من القضية الفلسطينية “أساسه العقيدة، وعموده النصرة، وقمته العهد والولاء لله رب العالمين، حربا على الظلم ومناصرة للحق”.
زعزعة استقرار البلاد
صحيفة “وول ستريت جورنال” في تقرير لها كشفت وجود تصدعات داخل الائتلاف الحاكم بسبب الاتفاق الذي أحدث موجة انقسامات غير مسبوقة، ما يعني تأخير تطبيق العناصر المركزية في الاتفاق، التي يمكن أن تزعزع استقرار بلد لا يزال يعاني من عقود الحرب، بحسب الصحيفة.
واستعرض إريك ريفز في تقريره بعض ملامح هذا التصدع الذي من الممكن أن يكون له تبعات سياسية وأمنية مستقبلية خطيرة، أبرزها تهديد الأحزاب الرافضة للتطبيع بسحب دعمها للحكومة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك أحد الأضلاع الثلاث لهذا المسار بجانب عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي).
قادة تلك الأحزاب أشاروا إلى استبعادهم من تلك المحادثات التي جرت بين الثلاثي والمسؤولين الإسرائيليين، الأمر الذي يعكس سوء النوايا المبيتة لتمرير هذا الاتفاق بأي طريقة، فيما حذر زعيم حزب “الأمة القومي”، الصادق المهدي بأن “التطبيع يفتح مخاطر على الوضع الانتقالي الهش”، مضيفًا “الاتفاق يخرق القرار الدستور السوداني ويمكن أن يؤدي بسهولة لانهيار الحكومة”.
وألمح ريفز إلى أن معظم السودانيين نشأوا على دعم القضية الفلسطينية ومعارضة دولة الاحتلال، مستندًا إلى نتائج أحد استطلاعات الرأي التي جرت مؤخرًا وكشفت أن 13% فقط من السودانيين هم من دعموا التطبيع مع “إسرائيل”، مضيفًا “لم يؤد التطبيع فقط إلى خلق توترات سياسية لا مبرر لها بل وأدى لتقوية ساعد البرهان والجيش”.
أصوات عدة داخل السودان تحذر من اتساع رقعة المعارضة لهذا الاتفاق، وما قد ينجم عنه من تزايد الهوة بين السلطة والشارع، ما قد يمهد الطريق نحو حالة من الفوضى التي قد تعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل ديسمبر 2018، لا سيما في ظل عدم قناعة الشارع بأداء الحكومة الحاليّة التي فشلت في التعاطي مع أبرز الملفات الحساسة بالنسبة للمواطن السوداني وعلى رأسها المستوى المعيشي المتدني.
توقيع اتفاق تطبيع أو سلام مع “إسرائيل” يعني ضمنيًا الاعتراف بكل ما ارتكبته من جرائم بحق الشعب الفلسطيني وقضيته، يعني الاعتراف بالانتهاكات المتواصلة بحق السوريين واللبنانيين
استسلام وليس تطبيعًا
كثير من السياسيين والإعلاميين السودانيين يرون التقارب مع “إسرائيل” خديعة واستسلام ورضوخ أكثر منه تطبيع بالمعنى التقليدي، لافتين إلى أن الربط بين هذه الخطوة وإنهاء العقوبات الاقتصادية ورفع اسم البلاد من قائمة الدول الراعية للإرهاب هو ابتزاز يقلل من حجم السودان ويهين قراره السياسي.
الكاتب والمحلل السياسي السوداني الفاتح محمد أحمد، حذر من مساعي السلطة تمييع المسألة لتمرير الاتفاقية شعبيًا، بمحاولة إلباسها لباسًا دينيًا من خلال الاستشهاد بتعامل الرسول عليه السلام مع اليهود، لافتًا في تصريحاته لـ”عربي21″ إلى أن: “سؤال العلاقة مع “إسرائيل” سؤال سياسي وديني، وكثيرًا ما أحيل إلى الفقهاء أو مجالس الفقه لتصدر فيه حكمًا فقهيًا وربما يأتي السؤال على صيغة عامة غامضة لا تبين حقيقة المراد فيكون الجواب عامًا لا يشفي في المسألة المقصودة”.
وشدد الفاتح على أن العلاقة بين السودان و”إسرائيل” ليست علاقة بين مسلمين ويهود كما يسعى البعض لتصديرها، لكنها علاقة مسلمين بمعتدي محتل لأراضي إسلامية ومقدسات إسلامية وينكل بشعب مسلم ويسلب منه حقوقه كافة، موضحًا أن دولة الكيان المحتل قامت في الأساس على أرض فلسطين بالحرب، وتوسعت على حساب مصر وسوريا بالسلاح، ثم استمالت بعض الدول بدعاوى السلام، فأمنت رد الفعل، وكرست جهودها للانقضاض أكثر وأكثر على حقوق الفلسطينيين، فلسبتهم معظم أراضيهم وسط صمت فاضح من الدول العربية.
وعليه يرى الكاتب السوداني أن توقيع اتفاق تطبيع أو سلام مع “إسرائيل” يعني ضمنيًا الاعتراف بكل ما ارتكبته من جرائم بحق الشعب الفلسطيني وقضيته، يعني الاعتراف بالانتهاكات المتواصلة بحق السوريين واللبنانيين، هذا بخلاف أن التقارب معها يمنحها فرصة الاستقواء على المحيط العربي بأكمله، وهو ما يتعارض مع الدين والسياسية والمنطق.
حالة من الغموض يرافقها جدل واسع النطاق بشأن الاتفاقية الموقعة بين السودان و”إسرائيل”، وسط انقسام سياسي حاد، ينذر بتصعيد شعبي قد يهدد أمن واستقرار البلاد، الأمر الذي قد يعيق ترجمة هذه الخطوة إلى ممارسات واقعية، لتبقى السلطة الحاليّة بين مطرقة الوفاء بالتزاماتها وتعهداتها بتوقيع الاتفاقية وسندان القلق من الشارع السياسي والشعبي الغاضب، لتبقى الأيام القادمة هي الفيصل في مسار هذا الاتفاق ومستقبله.