كثيرًا ما تقع عين المتجول في شوارع مصر الرئيسية على سيارات ذات لوحات من دون أرقام، وأخرى ممحاة تمامًا، وثالثة مغلفة بلون أسود على زجاجها فلا ترى ما بداخلها، وحين تسأل عن هوية أصحاب تلك السيارات المخالفة حتمًا لقواعد المرور ولوائحه المعروفة للجميع، ستكون الإجابة “الباشا راكب العربية”.
“إنت متعرفش أنا ابن مين؟!”.. جملة ما أكثر انتشارها في المحروسة، سلاح ردع يشهره صاحبه في وجه كل من يعترضه، سواء كان ضابط مرور يستوقفه في أثناء سيره أم موظف عمومي في مصلحة ما أم حتى في خلاف بينه وبين أحد المارة لأي سبب من الأسباب.
جملة سيئة السمعة لكن وقعها مؤثر للغاية، فالمتلقي لها سرعان ما يحتاط ويتراجع خطوة للوراء حتى يتيقن من هوية قائلها، فإن كان من أبناء الطبقة السادية في المجتمع (الضباط والقضاة أبرزهم) فأمامه أحد خيارين: إما المضي قدمًا في طريقه ويتحمل تبعات ذلك والذي قد يصل إلى الحبس أو الفصل من الوظيفة وإما الرضوخ للباشا وغض الطرف عن مخالفاته أو الإسراع لتلبية ما يريد.
بركان من الغضب فرض نفسه على وسائل التواصل الاجتماعي في مصر خلال اليومين الماضيين بعد انتشار مقطع فيديو لطفل لم يتجاوز الـ13 عامًا يعتدي على أحد رجال المرور ويسخر منه، بل وصل الأمر إلى الاعتداء عليه وإسقاطه على الأرض بسيارته التي كان يقودها وأصحابه.
وبعد حالة الاحتقان التي سادت منصات السوشيال بسبب تلك الواقعة تم القبض على هذا الطفل الذي يدعى أحمد وهو طالب بالصف الثالث الإعدادي بإحدى مدارس الإنترناشيونال في المعادي، ويقيم بأحد الكمباوندات، كما تبين أنه نجل أحد القضاة الحاليّين وحفيد مستشار كبير سابق.
ألقت خطوة القبض على هذا الطفل بظلالها الناعمة على حالة الغضب الشعبي فهدأتها نسبيًا في انتظار أن يصدر حكم يشفي الغليل وينتصر للقانون الذي من المفترض أنه أعمى التطبيق، لا يفرق بين هذا وذلك، لكن سرعان ما جاءت الصدمة، حيث تم الإفراج عنه بضمان محل إقامته وغرامة 10 آلاف جنيه مع تعهد والده المستشار بإخضاعه لجلسات علاج تأهيلي.
#طفل_المرور يلعن البطن ألي شلتك pic.twitter.com/WhYurhl92e
— Ahmed N Nasr (@ahmednasr3) November 1, 2020
القانون الملاكي
ما إن خرج بيان النيابة بشأن قرار الإفراج عن نجل المستشار حتى اشتعلت منصات التواصل مجددًا، لا سيما بعدما نشر الطفل وأصدقاؤه مقطع فيديو جديد عبر خاصية “اللايف” على “إنستغرام” وهم يتحدثون للمتابعين بالعديد من الشتائم والألفاظ غير اللائقة والسب بينهم وبين المتابعين.
وجاءت الألفاظ والردود التي تضمنها المقطع لتثير حفيظة المتابعينن خاصة بعد رده المستفز على أحد أصدقائه حين هنأه بخروجه من الحبس قائلًا: “كفارة يا حريقة”، ذلك الاسم الذي يشتهر به صاحب الواقعة، ليرد عليه أحد أصدقائه: “هو متسجنش.. إحنا معندناش حد بيتسجن ياعم”.
لم تكن هذه المرة الأولى التي يشهد فيها الشارع المصري مثل هذه المواقف التي تعكس حجم الطبقية السائدة في المجتمع الذي يقبع غالبيته العظمى تحت مستوى خط الفقر، فيما تتحكم الحفنة القليلة من أصحاب النفوذ المالي والسياسي في مقدرات الشعب بأكمله.
كثير من المواقف المشابهة يعاينها المواطن العادي في حياته اليومية، في المصالح الحكومية وفي الهيئات الخاصة وداخل الكيانات الخدمية، حتى في المواصلات العامة، هذا بخلاف الازدواجية في التعامل مع أصحاب الحظوة مقارنة بغيرهم من أبناء “البطة السوداء”.
في 2010 استعرض الكاتب والمخرج أحمد أمين على لسان الفنان الراحل خالد صالح في فيلمه الشهير “فبراير الأسود” شرائح المجتمع المصرية التي قسمها إلى أسياد وعبيد، لافتًا إلى أن الأسياد الذين أسماهم “الفئة الآمنة” هم أبناء الطبقات العليا المتمثلة في ثلاث فئات هي “منظومة الجهات السيادية المتمثلة في أمن الدولة والمخابرات، ومنظومة العدالة المتمثلة في النيابة والشرطة، وأصحاب الثروات الذين اعتبرهم قادرين على شراء المنظومتين السابقين”، أما العبيد فهم بقية الشعب المطحون.
جاء هذا العمل تجسيدًا لحالة الفساد الاجتماعي والسياسي في مصر – آنذاك -، الذي حذر من انفجار مجتمعي قريب، وهو ما كان بالفعل، حيث ثورة يناير 2011، التي قامت ضمن أسبابها الرئيسية ضد الفساد والطبقية والعنصرية التي سادت المجتمع خلال عصر مبارك.
#طفل_المرور تعال شوف هو بيشتم الشعب اه صحيح شعب ايه احنا ولاد كلب pic.twitter.com/ddExB7StO8
— hosamelaraby (@elarabyfree) November 2, 2020
احتقان شعبي
رغم أنها ليست المرة الأولى التي تجسد فيها واقعة ما حالة العنصرية والطبقية في المجتمع المصري، فإنها أثارت حفيظة الشارع بصورة دفعت الكثير من المحسوبين على تلك الطبقة ذات النفوذ الكبير لإدانتها والمطالبة بإجراء تحقيق عادل وحازم لوقف أي من تلك التجاوزات التي تسيئ للدولة المصرية بأكملها.
أستاذة علم الجمال والعميدة السابقة لكلية البنات جامعة عين شمس، وفاء إبراهيم، وصفت ما حدث بأنه “انقلاب قيمي” وهو امتداد لفترة السبعينيات، وإن اختلفت معاييره اليوم، حيث ضاعت هيبة الرموز لحساب فئة من المستفيدين الجدد، معبرة عن تلك الفئة بأنها “فيروس تربى في حظيرة الشللية وأصحاب الحظوة”.
الموقف ذاته تبناه الكاتب الصحفي عبد العظيم حماد، رئيس التحرير الأسبق لصحيفتي الأهرام والشروق، الذي علق على الواقعة عبر حسابه على فيسبوك قائلًا: “بمناسبة ابن القاضي سمعت من كبيرين في العمر والمناصب المرموقة أفحش وأحط الألفاظ في حديث عن حركة تنقلات”، وأردف حماد: “أفيقوا فالحضيض بلا قاع!”.
أما الصحفي إيهاب بدوي فأشار إلى أن ما يحدث قمة الازدواجية في التعامل، وأنه من باب العدل فإن أي سائق “توكتوك” لو صدم أمين شرطة أو سخر منه، فلا يحق حبسه، فقط يتم تسليمه لوالده لإخضاعه لجلسات تعديل سلوك، كما حدث مع نجل القاضي، مضيفًا “ده عدل ربنا”.
آخرون عقدوا مقارنة بين ما حدث مع هذا الطفل ومع أطفال آخرين تم الزج بهم في السجون وهم في نفس العمر تقريبًا، لكن الفارق أن الآخرين لم يكونوا أبناء مستشارين أو ضباط، وعلى رأسهم الطفل الذي أودع الحبس لمدة عام كامل بسبب ارتدائه قميصًا مكتوب عليه “لا للتعذيب” وآخر رفع علم فلسطين في أحد مدرجات ملاعب كرة القدم.
2% يتحكمون في الجميع
تشير الدراسات السوسيولوجية إلى أن المجتمع المصري يتكون من ست طبقات رئيسية: الطبقة المركزية المتحكمة والطبقة الوسطى العليا (المتنفذة) والطبقة الوسطى المستقرة والطبقة الوسطى الفقيرة والطبقة العاملة، وأخيرًا الفئات اللاطبقية الكادحة.
أفراد تلك الطبقات رغم الخلافات الواضحة بينهم، هناك قواعد مشتركة بينهم فيما يتعلق بخصائهم الثقافية والاقتصادية، منها: مصدر ونوع الدخل ومستوى الدخل ودرجة التعليم والتدريب والموقع داخل التقسيم الرسمي للعمل وأساليب الحياة وأنماط الاستهلاك والمتغير الاجتماعي – السياسي.
وتذهب تلك الدراسات إلى أن الطبقة المركزية المتحكمة وهي الطبقة ذات النفوذ السياسي والمالي لا يتعدى حجمها 2% من إجمالي عدد السكان، ويشغل أفرادها الوظائف المركزية في جهاز الدولة، وكذلك كبار الملاك ورجال المال والأعمال، وعليه فهم يتحكمون في المجمل بمصير المجتمع بأسره.
الكاتب والأكاديمي الراحل جلال أمين، الخبير في الدراسات المجتمعية يقول في مقال له إن الفترة التالية لعهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر شهدت انقلابات في السياق الاجتماعي للدولة المصرية، فرغم نجاح ناصر في تخفيف حالة الفروق الطبقية، فإنه ترك خلفه “عناصر طبقية جديدة تحلم بالقفز إلى العرض بمجرد أن تتاح لهم الفرصة، وهو ما تحقق بدرجة مذهلة في العشرين سنة التالية (1970-1990)، ثم ترسخ رسوخًا تامًا في العشرين سنة التي تلت ذلك (1990-2010)”.
وفي كتابها (الطبقة العليا بين ثورتين 1919-1952) قدمت الكاتبة ماجدة بركة دراسة مهمة عن نشأة التركيب الطبقي الحديث في مصر، مستندة في ذلك إلى التعدادات السكانية والزراعية في النصف الأول من القرن العشرين، حيث كان المجتمع ينقسم إلى 3 طبقات عليا، الذوات: وهي الشريحة ذات الأصول التركية الشركسية، والأعيان وتضم وجهاء الريف والنخب المشتغلة بالأعمال الصناعية والتجارية، إلى جانب البارزين من أصحاب المهن الحرة.
وذهبت إلى أن الطبقة العليا تشكلت في بدايات القرن التاسع عشر من الذوات ذوي الأصول التركية، ثم بحلول القرن العشرين ظهرت الطبقة الوسطى المصرية الحديثة، نتيجة حراك اجتماعي كبير، حيث اندماج الفلاحين في الجيش وزحف أبناء الريف للمدن ما أدى إلى نشأة طبقة جديدة من أصحاب المال والسلطة، وهي الحالة التي عليها الشعب المصري في الوقت الراهن، التي يمكن القول إنها نتاج لحكم مختلط بين العسكر ورأس المال.
لم تكن واقعة طفل المرور، نجل المستشار، الأولى كما أنها لن تكون الأخيرة، حتى إن استجابت النيابة العامة لضغط الشارع وأدانت الطفل ووالده، سيبقى المدفون تحت الرماد أكثر بكثير مما يخرج للعلن، لتواصل العنصرية والازدواجية نخرها في عظم المجتمع المفتت عبر سرطان الطبقية البغيضة التي جعلت حفنة قليلة تتحكم في مقادير الملايين من الشعب.