إذا كان الماء شريان الحياة بالنسبة للجميع فإن الوضع يتعاظم أكثر في المناطق ذات المناخ الصحراوي القاري، حيث درجات الحرارة المرتفعة والاستهلاك المتزايد للمياه، لذا فإن الاقتراب من هذا المورد بمثابة إعلان حرب لا تقبل نتائجها القسمة على اثنين.
تعد بحيرة تشاد إحدى ساحات هذه الحرب لما تمثله من أهمية إستراتيجية للشعوب المطلة عليها، إذ تتشارك حدودها أربع دول هي (نيجيريا وتشاد والنيجر والكاميرون) شكلت فيما بينها اتحادًا ذا طابع سياسي حمل اسم (دول حوض بحيرة تشاد) هذا بخلاف ارتباطها بدول أخرى بطريقة غير مباشرة كما هو الحال مع الجزائر وليبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى والسودان.
وتُصنف تلك البحيرة بأنها إحدى أكبر البحيرات في قارة إفريقيا، وإن كانت بحيرة داخلية أي لا تصرف مياهها باتجاه المحيط كغيرها من البحيرات المفتوحة، وكانت مساحتها تبلغ 25 ألف كيلومتر في ستينيات القرن الماضي، وبدأت في الانكماش شيئًا فشيئًا منذ 1962، حتى فقدت ما يزيد على 90% من مساحتها لتصل الآن لنحو 1.3 ألف كيلومتر.
وفي الوقت الذي تشهد فيه البحيرة انحسارًا بمساحتها فإنها تمثل مصدر المياه العذبة الوحيد لما يقرب من 30 مليون إفريقي يعيشون عليها كمورد رئيسي في الشرب والزراعة والري والنظافة، ومن ثم تعتبر البحيرة مسألة حياة أو موت لهذه الملايين من الشعب الإفريقي.
فقدان مقومات الحياة
على مدار السنوات الماضية فقد معظم السكان المستفيدين من البحيرة مصادر أرزاقهم بسبب الجفاف الذي حل بمصدرهم المائي الوحيد، حيث كانوا يعتمدون عليها في الزراعة والصيد والرعي، وعليه ومع انحسار منسوب المياه بها تقلصت مواردهم الاقتصادية.
ونتيجة لذلك زادت حالات نفوق الماشية بسبب نقص المياه والأعلاف، وفقدان الأراضي خصوبتها الزراعية لندرة مياه الري، هذا بجانب أزمات الجوع والعطش التي زادت بصورة كبيرة خلال العقد الأخير على وجه التحديد، الأمر الذي حول المنطقة إلى ساحة طاردة للسكان.
ومع مرور الوقت انتقل أهالي البحيرة من المنطقة الدافئة اقتصاديًا حين كانت تزخر بالمنسوب الكافي من المياه، إلى واحدة من أكثر مناطق إفريقيا فقرًا، ففي تقرير للأمم المتحدة نُشر عام 2017 كشف أن هناك ما يقارب 10.7 مليون نسمة في منطقة بحيرة تشاد بحاجةٍ ماسَّة إلى الخدمات الإنسانية.
وأمام تلك الوضعية فإن الكثير من الأهالي في البلدان المحيطة بالبحيرة، لا سيما الشباب وصغار السن، لم يجدوا بدًا من ترك مهن الرعي والزراعة، لكن يبقى السؤال: إلى أين يكون الذهاب؟ وفي أي مجال يمكن إيجاد فرصة عمل جديدة؟ وهنا كانت الجماعات المسلحة الملجأ لنسبة كبيرة من الشباب الفار من الواقع المعيشي المؤلم.
الصراع على المقومات النادرة للحياة في هذه المنطقة الفقيرة لا سيما بين الفلاحين على الرعي والزراعة أسفر عن مقتل 4 آلاف مواطن في نيجيريا خلال الفترة 2016-2019
اضطرابات أمنية
مع تراجع مقومات الحياة زادت نسبة الجرائم وفق ما ذهبت التقديرات والدراسات التي أجريت على سكان البحيرة، لعل أبرزها التي تمت هذا العام والمستندة إلى البيانات التي جمعت من خلال المقابلات مع بعض الأهالي في منطقة “لاك” في تشاد ومنطقة “الشمال الأقصى” في الكاميرون ومنطقة “ديفا” في جمهورية النيجر والمنطقة الجيوسياسية الشمالية الشرقية في نيجيريا.
وقد توصلت تلك الدراسة إلى أن تقلص سبل العيش سهل الطريق أمام الجماعات المسلحة للحصول على خدمات الشباب العاطل عن العمل، مستغلة أوضاعه المتدنية، فسريعًا ما يسقط أمام إغراء المال، هذا بجانب زيادة معدلات الهجرة إلى المناطق الحضرية ما مثّل عبئًا كبيرًا عليها فتفاقمت أزماتها ومشاكلها هي الأخرى.
الصراع على المقومات النادرة للحياة في هذه المنطقة الفقيرة لا سيما بين الفلاحين على الرعي والزراعة أسفر عن مقتل 4 آلاف مواطن في نيجيريا خلال الفترة 2016 – 2019، بسبب النزاعات اليومية على مصادر المياه بين المزارعين والرعاة والصيادين.
ووفقًا لتقرير مؤشر السلام العالمي لعام 2020 تحولت منطقة بحيرة تشاد إلى واحدة من أكثر مناطق العالم غيابًا لمقومات الاستقرار، حيث تعد دول تلك المنطقة من بين أقل 10 دول أمنًا في إفريقيا، هذا بعد أن تحولت إلى ساحة للنزاع المسلح في ظل وفرة الأيادي العاطلة القابلة للانخراط في أي جماعة مقابل الحصول على نظير مادي.
تهديد إقليمي
تجاوزت الاضطرابات الأمنية في تلك المنطقة محيطها الجغرافي الضيق لتشمل تهديد الدول المجاورة، حيث عدم الاستقرار الذي تضمن أربعة محاور: سياسية واقتصادية واجتماعية وبيئية، إذ تحول النشاط الإجرامي للأهالي لوسيلة البقاء الوحيدة على قيد الحياة.
وقد استفادت من تلك الأجواء الملبدة بالغيوم الجماعات المسلحة وعلى رأسها “بوكوحرام” النيجيرية التي زادت قوتها بسبب معدلات التجنيد المرتفعة من سكان البحيرة، وهو ما أدى إلى زيادة وزارة الدفاع النيجيرية من ميزانيتها لمواجهتها بكل قوة، حيث وصلت ميزانية الوزارة خلال الفترة من 2009 وحتى 2018 قرابة 21 مليار دولار، الجزء الأكبر منها مخصص لمكافحة تلك الجماعة.
الأوضاع المعيشية الصعبة الناجمة عن جفاف البحيرة دفعت شريحة كبيرة من الأهالي لعبور الحدود لبعض الدول المجاورة، وهو ما يمثل تهديدًا واضحًا لأمن تلك الدول، لا سيما بعد اختفاء احترام الحدود، حيث يمكن للبعض الهروب بالمواشي وبعض الأمتعة دون رقابة أو تشديد، وهو ما خلق في المجمل حزمة من القضايا الاجتماعية والسياسية والاجتماعية المعقدة بين بعض القبائل والأنظمة الحاكمة لتلك الدول.
مع تصاعد مخاطر الاندثار التي تحدق بالبحيرة، يقبع نحو 30 مليون شخص في بلدان الساحل الإفريقي في انتظار ما ستؤول إليه مساعي الإنقاذ قبل أن تتحول تلك المنطقة إلى مفرخة للتطرف والإرهاب
خطوات من أجل الحل
القلق من تفاقم الأوضاع وتعريض حياة 30 مليون إفريقي للخطر، سواء بالموت البطيء بسبب جفاف البحيرة أم الانخراط في الجماعات المسلحة التي تهدد أمن واستقرار الإقليم، دفع المسؤولين والحكومات إلى البحث عن آليات لحل تلك الأزمة ومحاولة الخروج بحل يقلل قدر الإمكان من تداعيات تفاقمها.
وكان من بين الخطط التي طرحتها لجنة حوض بحيرة تشاد (وهي لجنة تم تدشينها لدراسة أوضاع البحيرة وتقديم المقترحات للنهوض بها) بناء سدّ وقنوات لضخ المياه من نهر الكونغو إلى نهر شاري، ثم إلى جمهورية إفريقيا الوسطى، ثم بعد ذلك إلى بحيرة تشاد، في محاولة لتغذية البحيرة وتعويض الفاقد منها.
وتعود هذه الخطة إلى عام 1982 حين طرحتها أول مرة الشركة الهندسية الإيطالية “بونيفيكا سبا” غير أن التمويل وتحديات العوامل البيئية، بجانب بعض المسائل الأمنية، حال دون تنفيذ تلك الخطة في هذا التوقيت، ومع مجيء ديزيريه كابيلا (الرئيس السابق لجمهورية الكونغو الديمقراطية 1997 – 2001) طُرح المشروع مرة أخرى، غير أن ارتفاع أصوات المعارضة في بعض الدول المانحة حال دون تنفيذه حتى اليوم.
وخلال كلمته في فعاليات المؤتمر العالمي للمناخ “كوب 21” الذي عقد في العاصمة الفرنسية باريس في ديسمبر/كانون الأول 2016، قال الرئيس التشادي إدريس ديبي ايتنو: “لدى الأفارقة مشروع لم يجد التمويل، وهو نقل المياه من نهر أوبانغي إلى بحيرة تشاد، بكلفة تقدر بنحو 3 آلاف و980 مليار فرنك إفريقي (ما يعادل 6.4 مليار دولار)”.
وفي المؤتمر ذاته أشار الرئيس النيجيري السابق محمدو يوسوفو إلى أن “بحيرة تشاد تعد ملكية مشتركة يمكن اعتبارها إرثًا إنسانيًا، وأود، من هذا المنطلق، توجيه الدعوة لشركائنا وأصدقائنا لينصتوا لصيحات قلوب سكان الدول المطلة على بحيرة تشاد، من أجل مد يد العون للملايين من الأشخاص اليائسين، من خلال المساهمة في تمويل خطة الإنقاذ هذه”.
وفي أبريل 2019 قال الرئيس النيجيري الحاليّ محمد بخاري: “الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وافق على المساعدة في جمع 50 مليار دولار من أجل مشروع إنقاذ بحيرة تشاد التي أصابها الجفاف”، لافتًا في تصريحات له إلى أن البحيرة فقدت 90% من مساحتها بسبب سوء إدارة المياه وتغير المناخ.
ومع تصاعد مخاطر الاندثار التي تحدق بالبحيرة، يقبع نحو 30 مليون شخص في بلدان الساحل الإفريقي في انتظار ما ستؤول إليه مساعي الإنقاذ قبل أن تتحول تلك المنطقة إلى مفرخة للعنف والتطرف والجريمة، لا تهدد حياة الدول الأربعة المطلة عليها فقط، بل ستحمل بيدها معاول الهدم والتهديد للقارة الإفريقية بأكملها.