نقطة لافتة بالفعل، تبرز لأي قارئ أو باحث في التاريخ العربي الحديث، وهو تاريخ مليء بالهزائم وقليل من الصفحات المضيئة، منذ أول حرب خاضتها الجيوش العربية عام 1948 ضد العصابات الصهيونية، وهي تعيش حالة من الهزائم المتوالية، المحاطة للأسف بهالة كبيرة من التمجيد والانتصارات الزائفة.
ولأن منطقة الشرق الأوسط كانت ولا تزال بؤرة رئيسية للصراع العالمي، كان أداء الجيوش العربية القتالي محط أنظار المحللين حول العالم، ورغم اختلاف التحليلات من هذا الطرف أو ذاك، يبرز عامل مشترك وهو الفشل الذريع في أغلب الحروب الهجومية التي يكون العرب هم البادئون في إطلاقها، وكثير منها لا نزال نعيش آثاره الكارثية حتى يومنا هذا.
نشأة الجيوش العربية: أمة غائبة عن التاريخ
من السذاجة الاعتقاد أن خوض الصراعات عملية مرتبطة بالسلاح فقط، كما لا يمكن حصر الحروب في القتال العسكري المباشر وجهًا لوجه فقط، إنه أمر مرتبط بفكرة الأمن القومي وتحقيق المصالح، وهنا تبدأ المشكلة مع البلدان العربية.
فلفترة من الزمن، كان العرب بعيدين جدًا عن التاريخ وحتى التأثير فيه وهو ما يشير إليه الكاتب محمد حسنين هيكل قائلًا: “منذ سقوط بغداد عام 1258م، وسقوط الأندلس بعدها بـ100 عام تقريبًا، أصبحت فكرة الأمن القومي لشعوب المنطقة مهمة منوطة بغيرهم حكمًا وواقعًا، بدءًا من المماليك مرورًا بالسلاجقة وانتهاءً بالعثمانيين، وحتى تاريخ تأسيس الجيوش العربية الحديثة، كانت مهمة “إدارة الحروب وقرارات خوضها” أمر يخضع للولاة والسلاطين، ربما كان العرب يشاركون على مستوى قيادة مجاميع صغيرة في الجيش العثماني، لكن قرار الحرب والسلم كان أمرًا بعيدًا تمامًا عنهم، فهم كانوا أدوات في التنفيذ لا في التخطيط”.
ومع بدء استقلال الدول العربية وتأسيس الجيوش فيها على يد البريطانيين والفرنسيين في أغلب الأحوال، وبينما كان العرب يدخلون للتو في المعادلات الدولية والصراعات التي وصلت بعد الحرب العالمية الثانية لتكون في عقر ديارهم، ظهر كيان غريب وسطهم يُدعى “إسرائيل”، وهكذا قررت الجيوش العربية إعلان الحرب والهجوم على الدولة الوليدة، في أغرب تجربة عسكرية في التاريخ الحديث!
أعظم مشكلة تواجه القوات المسلحة العربية منذ عام 1945 هي الأداء الضعيف لضباطها الشباب
كانت تلك الحرب من الغرابة بمكان أن قائد الجيوش العربية -وهو نفسه قائد الجيش الأردني- كان ضابطًا بريطانيًا يدعى جون باغوت غلوب!
يختصر وجود غلوب باشا حكاية أغلب الجيوش العربية في بدايتها، جيوش تأسست على يد الاحتلال البريطاني أو الفرنسي، مخصصة في كثير من الأحيان للدفاع عن “فكرة الدولة من الهجمات القبلية” أو الأخطار الداخلية وهو ما نجح فيه غلوب باشا بشكل كبير فتم تعيينه قائدًا للجيش الأردني بناءً عليه، الأمر مماثل في مصر والعراق، تم تأسيس الجيش على يد الضباط البريطانيين باعتبار أن البلدين كانا تحت الاحتلال وقتها.
في الخمسينيات، وبعد حصول تغييرات سياسية كبيرة، بدأت الجيوش العربية تميل نحو العقيدة السوفيتية والتسليح السوفيتي أكثر، وهذا سبب يعتبره محللون كثر، وراء فشل الدول العربية عسكريًا في حروب 1956 و1967 والمرحلة الثانية من حرب 1973 التي انتهت بحصار الجيش الثالث المصري، وحرب العام 1991 والحرب الليبية التشادية عام 1987، لكن الكاتب الأمريكي كينيث بولاك، وهو محلل عسكري في السي آي إيه ومدير الشرق الأوسط السابق في مجلس الأمن القومي ومؤلف كتاب “جيوش الرمال” يرى أسبابًا أخرى وراء ذلك، فيقول: “مما لا شك فيه أن أعظم مشكلة تواجه القوات المسلحة العربية منذ عام 1945 هي الأداء الضعيف لضباطها الشباب. فشل القادة التكتيكيون من حرب إلى حرب ومن دولة إلى دولة في إظهار المبادرة والمرونة والإبداعية والتفكير المستقل وتفهم تكامل الأسلحة المشتركة وتقدير منافع المناورة في ميدان المعركة”.
يضيف بولاك لاحقًا عيوبًا عدة تنطبق على المعارك الجوية العربية: “مقدرات قتالية جوية ضعيفة وضعف في مهارات التعامل مع السلاح وممارسات الصيانة”.
انتصارات دفاعية
ما يجذب الانتباه حقًا في التاريخ العسكري العربي الحديث، أن أغلب المعارك التي تعتبر نصرًا أو نصرًا جزئيًا تركزت حول الدفاع لا الهجوم، ففي حرب عام 1973 مثلًا، كانت خطة الهجوم المصرية المسماة “المآذن العالية” ترتكز بحسب رئيس أركان حرب الجيش المصري وقتها الفريق سعد الدين الشاذلي على “عبور مانع قناة السويس والتمسك بجسور دفاعية في انتظار العدو وإطالة الحرب لأطول أمد ممكن بحيث يدفع العدو للانصياع للوضع الموجود على الأرض أو القيام بهجمات تكلفه خسائر كبيرة لا يقوى معها على الاستمرار في المعركة”، حتى الحروب الأخرى التي خاضها الجيش المصري كانت كلها لأجل غرض دفاعي حتى إن بدأت بتحرك شبه هجومي كما في العام 1967 بالسيطرة على أماكن قوات حفظ السلام الدولية بعد توجيه طلب رسمي لها بالانسحاب من حدود خط الهدنة عام 1956.
الجيوش عادة تعتبر انعكاسًا لشعوبها، بالتالي تحمل الجيوش ثقافة ومستوى ذلك الشعب بطريقة أو بأخرى
أما الحرب العراقية الإيرانية، فتمثل مختصرًا لحال الجيوش العربية باعتبار أن الجيش العراقي أحد أكثر الجيوش العربية خوضًا للحروب من بين أشقائه العرب وباعتبارها الحرب الأطول في القرن العشرين، ورغم أنها كانت نصرًا واضحًا للعراق، لكنها لم تكن تخلو من مشاكل حين شهدت أطوارها الأولى ما بين 1980-1982 هجومًا عراقيًا واسعًا في الجبهة الجنوبية لإيران، صحيح أن الجيش العراقي استطاع احتلال أراض واسعة في إيران منها محافظة عبادان وحقولها النفطية، إلا أن تلك العملية كان يسودها خلل كبير في التخطيط والتنفيذ.
يقول الكاتب أنتوني كوردسمان في كتاب “دروس من الحروب الحديثة: الحرب العراقية الإيرانية”: “كان الجيش العراقي يملك تفوقًا في السلاح يصل إلى نسبة 5:1 لصالحه، خاصة في القوات الجوية، لكنه كان باستمرار، يعجز عن استخدام أسلوب المناورة بالقوات وتحقيق تكاملها التسلحي في المواجهة، كانت الطائرات تستخدم كمدافع متحركة محمولة أكثر منها أداة تكمل عمل القوات البرية في أثناء الهجوم الأرضي”.
تظهر الحرب العراقية الإيرانية، أحد أبرز المشاكل التي تعاني منها الجيوش العربية: “التدخل السياسي”، يقول كوردسمان، وكان أحد المحللين الميدانيين العاملين ضمن نطاق مواقع القوات العراقية في الجبهة ووزارة الدفاع: “شكلت تدخلات القيادة السياسية وأوامرها نقطة ضعف كبيرة للجيش العراقي، أفقدته الكثير مما حققه في دخوله الأول عام 1980، لم يكن هناك مبدأ بالانسحاب أو المناورة، لأن الإعدام كان بانتظار الضباط الذين يصدرون مثل هذه الأوامر، وكانت التدخلات السياسية في الجيش كبيرة لدرجة أن الولاء لا الاحترافية هو ما كان المعيار الرئيس في تشكيل القوات وبنيتها العسكرية وهو ما أثر سلبًا على نتائج المعركة في الطور الثاني والثالث ما بين عامي 1983- 1986، إلى حين ضغطت نتائج المعركة على القيادة العسكرية بترك قيادة الحرب بشكل كامل للعسكريين يديرونها، خاصة بعدما فقد العراق إحدى مدنه القريبة من محافظة البصرة وهي الفاو، في فبراير عام 1986”.
كان الموقف العسكري قد شهد تحولًا لصالح القوات الإيرانية بعد نجاحها باستعادة كل أراضيها بحلول العام 1982، تحولت المعركة في ذلك الحين، إلى حرب لاحتلال العراق والسيطرة عليه وإسقاط النظام فيها، ما يعني أن صد القوات الإيرانية وفشل أهدافها سيُعتبر نصرًا للعراق، رغم أن الأهداف الأولى للحرب لم تكن كذلك، باعتبار أن من اتخذ قرار البداية كان الجيش العراقي لا الإيراني، لكن بعيدًا عن هذه التفصيلة، كان قرار ترك إدارة العمليات للعسكريين المحترفين قد أظهر ما لا يدع مجالًا للشك أن التدخل السياسي في القرار الحربي والبنية العسكرية، أحد أكثر العوامل الكامنة وراء فشل الجيوش العربية في أغلب المعارك التي خاضتها.
تحولت الجيوش العربية إلى كيانات ضعيفة تقتصر مهمتها على الدفاع عن الحاكم ضد الشعب، وتحولت لمجرد محطة سمسرة تشتري فيها الأنظمة المتهالكة مواقف الدول الكبرى من خلال صفقات سلاح لا يُستخدم ولا ينفع
ما بين العام 1986-1987، استعاد الجيش العراقي كل المناطق العراقية التي خسرها خلال الأعوام الـ4 الماضية بسبب تدخل القيادة السياسية في سير المعارك، كان الأهم من ذلك، الطريقة التي تمكنت بها القوات العراقية من تنفيذ الهدف السياسي المطلوب منها تنفيذه بالطرق العسكرية.
في تقرير مركز الدراسات الإستراتيجية التابع للجيش الأمريكي الذي نُشر عام 1990 “دروس من الحرب العراقية الإيرانية” لكاتبيه ستيفن باليتير ودوغلاس جونسون، يصف الجيش الأمريكي عمليات الجيش العراقي في الطور الأخير من الحرب بأنه يشابه الجيوش الغربية في أداء مناوراته بسرعة كبيرة يتكامل معها الطيران وباقي الأسلحة، “حين شن الجيش العراقي هجماته على إيران في أبريل 1988، لم يصدق المراقبون الأجانب ما رأوه واقعًا بأعينهم من إمكانيات القوات العراقية على الهجوم بهذه السرعة، وكانوا يعتقدون أنهم لن يستطيعوا القتال بهذه الاحترافية العالية، كانت أغلب التفسيرات تقول إن السوفيت أنفسهم كانوا هم من يحرك القوات العرافية بهذه الفاعلية، لكن أغلب هذه التحليلات، غاب عنها التغييرات الكبيرة التي طرأت على الجيش العراقي والتدريب عالي المستوى الذي تلقته قواته في السنوات الأخيرة في معسكرات خاصة غرب العراق”.
لكن هذه الاستقلالية سرعان ما غابت خلال حرب العام 1991، التي بدأت بغزو العراق للكويت، لم يكن القرار خاطئًا في بعده السياسي وفي توقيته وحسب، إنما كان التدخل السياسي جليًا في العمليات العسكرية، ظاهرًا في حجم القوات المهاجمة وتسليحها وحتى خلال فترة الحرب كانت القرارات السياسية هي التي تسببت بتلك الخسائر الفادحة في القوات العراقية بعد قطع خط الإمداد عنها.
وهو ما أشار إليه الفريق سعد الدين الشاذلي في كتابه عن تلك الحرب “الحرب الصليبية الثامنة: العدوان على العراق” أنه أرسل برقية للحكومة العراقية عبر السفارة العراقية في الجزائر، يطلب عدم زج عدد كبير من القوات في الكويت، وألا تتعدى نسبتها 20% من مجموع القوات العاملة لأنها ستتعرض للحصار وقطع الإمداد بالضبط كما واجهه الجيش المصري في حرب العام 1967: وهو ما حصل بعد ذلك بالفعل.
جيش عراق ما بعد 2003، تعطي مثلًا عن عبث بناء الجيوش العربية المبنية على الولاء الطائفي أو الولاء للحاكم
مستوى تعليمي متدنٍ، لا استيعاب للسلاح
الجيوش عادة تعتبر انعكاسًا لشعوبها، بالتالي تحمل الجيوش ثقافة ومستوى ذلك الشعب بطريقة أو بأخرى، فعلى سبيل المثال، حتى مع امتلاك دولتين مثل ألمانيا واليونان أسلحة متشابهة في كثير من الفرق العسكرية، لا يمكن مقارنة استيعاب الجندي اليوناني بنظيره الألماني.
تلعب الثقافة والمستوى الاجتماعي هنا دورًا، الحديث هنا عن عامة الشعب المنخرط في الجيش وليس عن النخبة، فتلعب هذه النقطة دورًا كبيرًا في الحروب، يقول الفريق رعد الحمداني وهو قائد كبير في الحرس الجمهوري العراقي وأحد الضباط المشاركين في حرب 1973، إن هناك مشكلةً حقيقةً في مستوى ثقافة وتعليم الكثير من الجنود العرب، ويذكر أن القادة السوفيت يذكرون هذه النقطة دومًا عند لقائهم بالضباط العرب.
وكمحصلة نهائية لكل هذه العوامل: التدخل السياسي، البناء العسكري القائم على الولاء، ضعف استيعاب السلاح وتدني مستوى الثقافة، ومع فشلها في أغلب التجارب العسكرية الحقيقية التي خاضتها، تحولت الجيوش العربية إلى كيانات ضعيفة تقتصر مهمتها على الدفاع عن الحاكم ضد الشعب، وتحولت لمجرد محطة سمسرة تشتري فيها الأنظمة المتهالكة مواقف الدول الكبرى من خلال صفقات سلاح لا يُستخدم ولا ينفع، ليس أدل على ذلك من الجيش السعودي، الذي فشل في مواجهة مليشيات قليلة التدريب وبدائية التسليح، رغم أنه أكبر مستورد للسلاح في العالم، بحسب تقرير معهد ستوكهولم.
نسخة أخرى من جيش عراق ما بعد 2003، تعطي مثلًا عن عبث بناء الجيوش العربية المبنية على الولاء الطائفي أو الولاء للحاكم، جيش يُصرف عليه المليارات، لكنه يخسر معركة أمام قوة لا تتعدى فوجًا بتسليح خفيف استطاعت هزيمة 3 فرق عراقية – أحدها مدرعة – كانت مكلفة بالدفاع عن الموصل.. وتلك حكاية أخرى عن عبث السياسة بالجيوش، المسلطة أصلًا على رقاب شعوبها!