أعلنت السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات في الجزائر اعتماد مشروع الدستور الذي طرح للاستفتاء، بعد مصادقة المجلس الدستوري في الأيام القادمة على نتائج الاقتراع التي جاءت بتصويت 66.8% لصالح التعديل الدستوري رغم المشاركة الضعيفة للمواطنين في هذا الاستحقاق التي لم تتعد 23.7% من مجموع الناخبين.
وبعثت هذه الأرقام جدلًا في البلاد متعلقًا بمدى تحقيق الدستور الجديد الإجماع والتوافق بين الجزائريين، بالنظر إلى أن عدد المشاركين في التصويت على الدستور لم يصل حتى إلى ربع الحجم الكلي للكتلة الناخبة التي تفوق 24 مليون ناخب.
إرادة الشعب
بالنسبة لرئيس السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات محمد شرفي، فإن هذه النسبة المتدنية لا تؤثر على نتائج هذا الاستحقاق التي تعد شرعية و”لا غبار عليها” .
وأوضح شرفي أنه “بالنظر لكون السلطة المطلقة تعود للشعب ولا يوجد في القانون حد أدنى لنسبة المشاركة، فإن النتائج لا غبار عليها دستوريًا وقانونيًا”، وقلل شرفي من الانتقادات التي توجه لهذه العملية الانتخابية، معتبرًا أن مجرد تنظيم الاستفتاء في ظل الظروف الصحية الخاصة يعتبر “تحديًا في حد ذاته” ويمنح العملية “قيمة مضافة لا يستهان بها، في الوقت الذي لم تتمكن فيه بعض الدول العظمى من تنظيم انتخابات ولو على المستوى المحلي”.
وتسعى السلطة إلى عدم إعطاء أهمية لانخفاض نسبة التصويت بالتركيز على أجواء الشفافية التي ميزت العملية الانتخابية، وهو ما لم يكن خلال حكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة الذي كانت تضخم فيه نسب التصويت، في مشهد انتخابي فلكلوري لم يعبر يوميًا عن توجهات الجزائريين واختياراتهم.
وبرضا الحكومة بهذه النتيجة المتدنية من التصويت دون رفعها كما كان يتم سابقًا، تجد السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات التي تمت دسترتها في الدستور الجديد نفسها في موقع قوة لتنظيم الاستحقاقات المقبلة، كون هذه التجربة قد تجعلها تودع تهم عدم الحياد والنزاهة التي كثيرًا ما وجهت لها.
ورغم وجود الرئيس عبد المجيد تبون بأحد مستشفيات ألمانيا لتلقي العلاج، فإن الرئاسة الجزائرية علقت على نتائج التصويت واعتبرتها بمثابة “التعبير الحقيقي والكامل لما كان يريده الشعب، فقد أظهرت أن رئيس الجمهورية وفى بالتزاماته حتى تتم مباشرة المسار الذي يتيح للشعب الجزائري أن يبدي رأيه بكل حرية وديمقراطية في كل ما يخص مستقبله”.
وإذا استطاعت السلطة تمرير مشروع تعديل الدستور مستفيدة من عيوب العملية الانتخابية التي تسمح بجعل الأقلية أغلبية بصندوق الاقتراع بما أن الأغلبية قاطعت هذا الموعد الانتخابي، إلا أن هذا العزوف الانتخابي ينعكس سلبًا على قوة الرئيس تبون الذي لم يلق دستوره توافقًا من الجزائريين، ويؤكد أن مشروع “الجزائر الجديدة” الذي يحمله يبقى محل ريبة من معظم الجزائريين.
إخفاق
على عكس أحزاب الموالاة التي رحبت بتمرير مشروع تعديل الدستور رغم العلل التي صاحبت نتائج الانتخابات، فإن أحزاب المعارضة اعتبرت العزوف الانتخابي رسالة شعبية تدل على رفض مشروع السلطة وفشلها في احتواء الأزمة التي تعيشها البلاد منذ حراك 22 من فبراير/شباط 2019.
واعتبرت حركة مجتمع السلم أكبر الأحزاب الإسلامية المعارضة أن “نسبة المشاركة المتدنية وحجم الرفض للدستور بمختلف أنواع التعبير عن ذلك تسقط مصداقيته وتفقده شرعيته السياسية والشعبية رغم الإمكانات الرسمية الضخمة التي سخرت لتمريره”.
وترى حركة مجتمع السلم أن جبهة الرفض جبهة واحدة وهي جبهة واسعة جدًا فاقت 85% من الكتلة الناخبة في هذا الاستفتاء وهي مدعوة بمختلف تنوع تعبيرها ومواقفها إلى العمل معًا من أجل التغيير السياسي السلمي الفاعل، وقالت الحركة التي دعت للتصويت ضد الدستور: “تؤكد نتيجة الاستفتاء فشل مشاريع السلطة الحاكمة وعدم قدرتها على تحقيق التوافق الوطني حول الدستور كما تم الإعلان عنه وبما يحفظ البلد من المخاطر الحقيقية التي تهدده”.
أما حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية “الأرسيدي” ذو التوجهات العلمانية فشكك في النسبة التي أعلنتها السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات، واعتبرها أقل بكثير من ذلك.
وقال الأرسيدي: “تشكل نسبة المشاركة في استفتاء أول نوفمبر المصرح بها، وإن كانت مضخمة جدًا، في حد ذاتها رفضًا شعبيًا للمسعى الرامي إلى إضفاء الشرعية على انقلاب 12 من ديسمبر/كانون الأول 2019 الانقلابي، إنه بالنظر إلى النفور العام الذي سجله كل المراقبين وبحكم المعلومات التي استقاها المناضلون السياسيون في الميدان، يمكن الجزم بأن المشاركة الفعلية في هذه الاستشارة لا تتعدى النسبة برقم واحد”.
غير أن تشكيك المعارضة في أرقام السلطة يبقى هذه المرة محصورًا في دوائرها المحدودة، بل الكثيرون أكدوا أن عمليات التزوير وإن حدثت كانت قليلة، والأهم بالنسبة للمعارضة المشتتة هو أن توحد جهودها إن كانت بحق تحمل مشروعًا بديلًا يمكن مجابهة توجه السلطة الذي لا يهتم بإشارات التوقف التي يجدها في طريقه.
ما بعد الاستفتاء
بالنسبة للمواطنين العاديين في الجزائر، فإن مخرجات الاستفتاء قد لا تعنيهم مطلقًا، فغالبًا لا تشكل هذه الاستحقاقات أولوية لهم مقارنة بالانتخابات المحلية والرئاسية، لأن المواطن المثقل كاهله بالمشاكل اليومية يظل الاقتصاد وتحسين ظروف المعيشة وتوفير مناصب العمل في طليعة مطالبه التي ينتظر تحقيقها، والتجاذبات السياسية مجرد حاجات فرعية في قاموس انشغالاته.
وأمام الواقع الصعب الذي تعيشه البلاد بسبب تهاوي أسعار النفط واستمرار أزمة وباء كورونا، تجد السلطة نفسها مجبرة على البحث عن حلول ناجعة للأزمة السياسية والاقتصادية التي تعيشها الجزائر، وذلك بالشروع في مشاورات جادة وحقيقية مع المعارضة لأنها إن استطاعت تمرير مشروع تعديل الدستور ولو بمشاركة متدنية، فإن استمرار هذا العزوف في الانتخابات التشريعية والمحلية المسبقة المنتظرة سيزيد من الشرخ الموجود بين الحكومة والمواطن ومن احتقان المعارضة وقد يشعل الحراك الشعبي من جديد، وهو الذي لم يخمد بعد وتوقف فقط بسبب المخاوف الصحية المتعلقة بانتشار كوفيد-19.
وتشكل مرحلة ما بعد الاستفتاء أيضًا فرصة لقوى المعارضة لحشد صفوفها وإعادة التهيكل والاتحاد فيما بينها بعيدًا عن المهاترات والصراعات الإيديولوجية التي أضعفت موقعها وقوت شوكة السلطة، غير أن ذلك لن يكون إلا برسم مسار واضح وحقيقي يلتحم مع مطالب الحراك الشعبي دون مساومات، وبعيدًا عن منطق المستفيد والخاسر الذي أثبتت التجربة فشله لأن المستفيد فيه دومًا كانت السلطة، والخاسر هي المعارضة نفسها.
وإذا كان استفتاء الفاتح نوفمبر قد شكل صدمة لكل الأطراف الفاعلة في البلاد سواء كانت موالاة أم معارضة أم حكومة، فإن المهم هو في القدرة على التعامل مع مرحلة ما بعد الصدمة، إذ إن هذا الدستور الجديد بإيجابياته وسلبياته يحمل مضامين تتطلب التعامل بحكمة معها وفي مقدمتها إمكانية إرسال جنود من الجيش الجزائري إلى خارج البلاد في بلد ظلت فيه المؤسسة العسكرية أبرز فاعل في معظم المجالات.
وفي كل الأحوال، سيظل هذا الاستفتاء بنتائجه والظروف التي صاحبته فرصة وعبرة لمن يريد الاستفادة من تجاربه سواء كان حاكمًا أم محكومًا وذلك بالعمل على تفادي تكراره، لأن حدوثه من جديد ستكون له تبعات شعبية قد لا تحمد عقباها.