يحبس الأمريكيون أنفاسهم ليس انتظارًا لساكن البيت الأبيض الجديد، سواء الجمهوري دونالد ترامب أم منافسه الديمقراطي جو بايدن، لكن لتداعيات تلك الانتخابات التي وصلت إلى مستويات قياسية من الدعاية العدائية التي تنذر بأعمال عنف عقب إعلان النتائج.
تتجه أنظار العالم والمراقبين إلى الشارع الأمريكي اليوم الـ3 من نوفمبر/تشرين الثاني، مع انطلاق الماراثون الأكثر سخونة في العالم في الوقت الراهن، حيث الانتخابات الرئاسية التاسعة والخمسين في تاريخ الولايات المتحدة، وسط أجواء مشحونة وتشكيك مسبق متبادل في نزاهة العملية الانتخابية قبل بدايتها.
حالة من الصخب صاحبت تلك الانتخابات لأسباب عدة لعل أبرزها شخصية ترامب المثيرة للجدل ودعايته التي حملت في باطنها الكثير من التهديدات بالعنف حال خسارته للانتخابات، فضلًا عن إيماءاته المتواصلة بوجود شبهة تزوير في عملية الاقتراع الإلكتروني، يقابله صدام دفين بين التيارات اليسارية واليمينية المتطرفة.
وأمام تلك الوضعية الملتهبة تحمل الساعات القادمة حزمة من التخوفات التي أثارها بعض المراقبين وعززتها التقارير الصادرة عن المراكز والجهات البحثية المعنية بدراسة المجتمع الأمريكي، ليبقى التساؤل عن احتمالية وقوع أعمال عنف خلال الاقتراع، أو بعد صدور النتائج لسان حال الشارع لحين إشعار آخر.
أجواء ملتهبة
وصل الاستقطاب بين الناخبين إلى الحد الذي يُفهم منه أن الخاسر منهما لن يقبل بخسارته وسيشعل الأجواء، إذ يعتبر الطرفان أن الفوز في السباق نحو البيت الأبيض تجاوز مسألة الانتخابات إلى كونه مسألةً وجوديةً، وبصرف النظر عن أدوات الإشعال إلا أن مقومات الاضطرابات موجودة بالفعل وهو ما يعزز المخاوف.
“مجموعة الأزمات الدولية” (منظمة مستقلة غير ربحية مقرها بلجيكا تعمل على منع الحروب وتسوية النزاعات الدموية حول العالم من خلال تحليلات ميدانية ومن خلال إسداء المشورة) في تحليل لها عن الماراثون الانتخابي أشارت إلى أن لغة الخطاب التي استخدمها ترامب في دعايته بين الحين والآخر ووصفتها بـ”النارية” تشير إلى إمكانية تأجيج الموقف في حال خسر الانتخابات.
وبعيدًا عن تهوين الخطاب العدائي بين الطرفين وتهويله، فإن المجموعة رأت أن مؤسسات الدولة الأمنية وجدت نفسها اليوم أمام تحد خطير لإرساء الاستقرار في البلاد، مضيفة “يجب أن تكون السلطات مستعدة لمواجهة ترهيب الناخبين، ومواصلة الاقتراع، في حالة حدوث اضطراب، ويجب على القادة المحليين أن يوجهوا دعوات من الحزبين لإجراء انتخابات نظيفة تحترم الديمقراطية”.
بعض الجماعات المتطرفة أعلنت موقفها العدائي مبكرًا جدًا، وبكل صراحة ووضوح، ودون أي مخاوف من ملاحقات أمنية، مبلغة أنصارها للاستعداد لحرب ضد من تسميهم “اليساريين العنيفين مثيري الشغب” يوم الانتخابات
النغمة التي يعزف عليها ترامب منذ أسابيع بشأن تزوير الانتخابات حال خسارته ترجح من فرص حدوث أعمال عنف، وتمثل أحد أبرز التحديات التي تواجهها أمريكا، بحسب المنظمة التي تطرقت إلى عوامل أخرى قد تزيد الوضع اشتعالًا، منها غرق أمريكا بالأسلحة والسجل السوداوي السابق في الحروب الأهلية والقتل العشوائي، إضافة إلى الصراع العمالي والعبودية وغيرها.
الأحداث العنصرية التي شهدتها ولاية الرئيس ترامب الأولى هي الأخرى أحد العوامل المساعدة لاشتعال الموقف، فالاستماتة من أجل تفوق البيض وتزايد العنصرية ضد السود وما نجم عنها من وحشية التعامل الشرطي معهم، كل هذا من شأنه أن يحمل زيتًا قابل للاحتراق إذا ما توفرت له شرارة الانطلاق.. وقد تكون خسارة ترامب تلك الشرارة بحسب تقديرات الأزمات الدولية.
نذر حرب أهلية
صعدت تلك الأجواء الساخنة من مخاوف نشوب أعمال عنف، إذ بات يُمثل يوم إجراء الانتخابات في أمريكا، أكثر من مجرد لحظة يختار فيها الشعب الأمريكي حاكمه، لا سيما بالنسبة لمليشيات اليمين المتطرف، وهو ما أشارت إليه صحيفة “بوليتيكو” اليومية التي ترى أن تلك اللحظة “أضحت بمثابة صرخة استنفار للاستعداد لحرب أهلية وشيكة، حسب نبوءة واسعة الانتشار وسط تلك الجماعات المتطرفة”.
إرهاصات العنف المجتمعي بدأت تلوح في الأفق وتأخذ منعطفًا سوداويًا منذ اندلاع الاحتجاجات التي نظمتها حركة “حياة السود مهمة” (تأسست 2013 وتهدف إلى التخلّص من العنف ضد الأشخاص السود) وبروز حركة “أنتيفا” اليسارية (وهي حركة مناهضة للفاشية والنازية والمعارضة للرأسمالية واليمين المتطرف) الصيف الماضي على خلفية مقتل جورج فلويد (أمريكي من أصل إفريقي) على أيدي شرطي أمريكي في 25 من مايو/أيار الماضي.
المجلة في تقريرها الصادر في الأول من نوفمبر الحاليّ كشفت عن استعداد بعض المليشيات ليوم الانتخابات التي وصفته بأنه “يشبه قيام الساعة” وذلك عقب انتشار مزاعم بتزوير بطاقات الاقتراع المرسلة عبر البريد، لافتًا إلى أن ترامب عبر تغريداته العدائية عزز من سخونة المشهد القابل للانفجار في أي وقت في ضوء توافر مقومات الاشتعال.
أي مرشح مهما بلغت لغة العدائية في خطابه فإنه سيقر بالهزيمة حال خسارته في الانتخابات، وسيسلم السلطة بطريقة سلسلة دون اللجوء لأي أعمال عنف
العديد من الباحثين الأمريكيين رصدوا مظاهر عدة للتطرف على شبكة الإنترنت انتظارًا لساعات الاقتراع، حيث أشارت مراسلة صحيفة بوليتيكو من البيت الأبيض، تينا نغوين، إلى ظهور عناصر من اليمين المتطرف بأسلحة نارية أمام مراكز الاقتراع إبان عمليات التصويت المبكرة، وإن أوضحت أنه لا يوجد دليل موثق على أن تلك التحركات تشكل تهديدًا “منسقًا” يوم الانتخابات.
بعض الجماعات المتطرفة أعلنت عن موقفها العدائي مبكرًا جدًا، وبكل صراحة ووضوح، ودون أي مخاوف من ملاحقات أمنية، مبلغة أنصارها للاستعداد لحرب ضد من تسميهم “اليساريين العنيفين مثيري الشغب” يوم الانتخابات، وعلى رأسها “حراس القَسَم” اليمينية المتشددة التي تستقطب قدامى العسكريين والشرطيين، وجبهة “باتريوت فرونت” الناشطة في تجنيد وتدريب عنصريين بيض.
تاريخ جماعات اليمين المتطرف في أمريكا ربما يتناغم بشكل كبير مع تهديداتهم بالعنف يوم الانتخابات، إذ تقف تلك الكيانات وراء ثلثي المخططات والهجمات الإرهابية لهذا العام بالبلاد، وفق تقرير حديث لمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، فيما حذر تقرير آخر صادر عن الأمن الوطني الأمريكي من أن المتطرفين البيض يشكلون “التهديد الأكثر رسوخًا والأشد فتكًا في البلاد”.
الغريب أن وسائل الإعلام الأمريكية سعت إلى تضخيم محاولات ترامب وأتباعه الربط بين تلك المخاوف الأمنية ووقوع أعمال عنف من تيارات يسارية، وهو ما استفز جماعات اليمين المتطرف التي أعلنت هي الأخرى جاهزيتها للمواجهة، ويبدو أن تلك الإستراتيجية باتت أحد أهم مرتكزات ترامب الانتخابية على شاكلة “أنا أو الفوضى”.
أمر مستبعد
في المقابل هناك من يرى أن نشوب أعمال عنف على نطاق واسع أمر مستبعد في ظل سيطرة المؤسسية على المشهد الأمريكي، وأن السجال الناري المتبادل بين الطرفين يندرج تحت شعار الدعاية الانتخابية وإستراتيجية الترهيب والترغيب لكسب أكبر عدد من الأصوات.
يتفق مع هذا الرأي أستاذ العلوم السياسية في جامعة إنديانا، أوري كورين، الذي يرى أن أي مرشح مهما بلغت لغة العدائية في خطابه فإنه سيقر بالهزيمة حال خسارته في الانتخابات، وسيسلم السلطة بطريقة سلسلة دون اللجوء لأي أعمال عنف من هنا أو هناك.
كورين في تحليل نشره بموقع “The Conversation“، استدعي بعض الأحداث التاريخية المشابهة التي شهدت سجالًا سياسيًا وعدائيًا بين المرشحين في الانتخابات دون نشوب أعمال عنف بعدها، أبرزها الانتخابات الفرنسية في 2017، التي شهدت تصعيدًا بين إيمانويل ماكرون واليمينية المتطرفة ماريان لوبان، وبعد فوز الأول أقرت الثانية بالخسارة دون نشوب جرائم على عكس ما كان يروج له وقتها.
الأمر تكرر أيضًا في الانتخابات الأمريكية في 2000 حين أوقفت المحكمة العليا عملية إعادة فرز الأصوات في ولاية فلوريدا، ومنحت الجمهوري جورج بوش الرئاسة على طبق من ذهب، وهو ما أثار حالة من الغضب لدى الديمقراطيين، إلا أنهم لم يلجأوا للعنف.
المؤسسية الأمريكية لها دور كبير في هذا السجال، كونها قادرة على حفظ الأمن والاستقرار في البلاد كما يرى المحلل الأمريكي الذي أضاف “في الولايات المتحدة، إذا دعا أي زعيم سياسي إلى حشد عسكري، فإن كلًا من الحكومة الفيدرالية والولايات لديها القدرة على القضاء على هذا التهديد بسرعة. قد تكون المليشيات مسلحة، لكنها لا تضاهي الحرس الوطني أو فوج الجيش المدرب جيدًا”.
وفي الأخير فإن الولاية الأولى لدونالد ترامب والأجواء العنصرية التي نجح في تصعيدها خلال سنواته الأربعة الماضية، فضلًا عن تلميحاته المبكرة بالتشكيك في نزاهة التصويت تبريرًا استباقيًا حال خسارته، بجانب الشحن الزائد بين التيارات اليسارية واليمينية المتطرفة، كل هذا ربما يجعل الباب مفتوحًا أمام الاحتمالات كافة، وإن كان من غير المستبعد الوصول إلى المرحلة الحرجة التي يحذر منها البعض.