أجرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على مدار اليومين الماضيين العديد من الاتصالات بحلفاءه من زعماء وقادة الشرق الأوسط حيث أبدوا دعمهم الكامل له ولبلاده في أزمتها الراهنة التي تواجهها بسبب التصريحات العنصرية المسيئة التي أطلقها ماركون ضد الإسلام ونبيه عليه السلام.
وكان الشارع العربي والمسلم قد انتفض ضد الرئيس الفرنسي إثر تصريحاته التي دافع من خلالها عن نشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي في أعقاب مقتل معلم فرنسي على يد لاجئ شيشاني بسبب نشر تلك الرسوم، حيت اتخذت الانتفاضة العديد من الأشكال والأدوات أبرزها المقاطعة الاقتصادية والاحتجاجات التي عمت بعض البلدان الإسلامية وعلى رأسها بنغلاديش.
ورغم تراجع ماكرون عن خطاب الكراهية الذي تبناه، ومحاولة استمالة الغاضبين من العرب والمسلمين من خلال مقابلته التي اختص بها قناة “الجزيرة” القطرية، والتي أكد فيها أنه “يتفهم مشاعر المسلمين إزاء هذه الرسوم” واصفًا الاتهامات الموجهة له بدعم الترويج لتلك الرسوم المسيئة باسم حرية التعبير بأنها “مضللة ومقتطعة من سياقها”، إلا أنه من الواضح أنها لم تحقق الهدف منها.
توقع ماكرون ومعه أنصاره أن تلك المقابلة سيكون لها مردودها الإيجابي بوقف دعوات المقاطعة التي يبدو أنها أوجعت الاقتصاد الفرنسي الذي يعاني بطبيعة الحال من أزمات حادة ومن ثم فهو في غنى عن فتح جبهات جديدة تهدد مصالحه في الشرق الأوسط والبلدان الإسلامية.
ومما عزز من الوضعية الصعبة تداعيات فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) والذي ألقى بظلاله القاتمة على اقتصاديات العالم أجمع، غير أن الوضع في فرنسا ربما يكون الأسوأ في أوروبا في ظل الموجة الثانية التي قد تتسبب في غلق جديد للبلاد في ظل تصاعد أعداد المصابين يومًا تلو الأخر.
يبدو أن دعوات التهدئة لم تجني ثمارها المتوقعة، ما دفع الرئيس المأزوم إلى اللجوء إلى حلفاءه في المنطقة للتخفيف من وطأة الأزمة والتدخل لدعم اقتصاد بلاده، إما الدعم المادي المباشر أو الحيلولة دون تفشي دعوات المقاطعة التي خرجت عن نطاق المرسوم على عكس ما كان يتوقع الرئيس وأنصاره.. فهل ينجح الحلفاء في دعم حليفهم؟
حلفاء ماكرون يدعمونه
أبدت حكومات أبو ظبي والقاهرة وتونس ومعهم ضمنيًا الرياض كامل دعمها لفرنسا في مأزقها الحالي، ساعين منذ الوهلة الأولى إلى الدفاع عن تصريحاته وإلباسها رداء التبرير عبر التفتيش في نوايا الرجل وأنه يقصد الإسلام الراديكالي وليس الإسلام عمومًا، وأن موقفه من الرسوم المسيئة رد فعل على مقتل المعلم الفرنسي.
ومنذ أن انطلقت دعوات المقاطعة للبضائع الفرنسية كرد فعل سلمي، شحذ الذباب الإلكتروني الإماراتي والسعودي جهوده للتشويش عليها واتهامها بتنفيذ أجندات تركية وقطرية وإخوانية، بل وصل الأمر إلى أنهم اتهموا هذا الثلاثي بتضخيم الموقف واستغلاله، وكأن إهانة رسول الإسلام جريمة لا تستحق رد الفعل هذا، مع الوضع في الاعتبار أن البلدين كانا قد دشنا حملة لمقاطعة المنتجات التركية بسبب خلافات سياسية وليست عقدية ولا تمس رمز الإسلام وقائده الأول.
وانتقل الدعم خلال الأيام القليلة الماضية من ساحات العالم الافتراضي إلى أروقة الدواوين الحكومية، حيث الاتصالات الهاتفية الرسمية التي جرت بين ماكرون وقادة تلك الدول للحصول على دعمهم في مواجهة المأزق الذي قد يكلفه مستقبله السياسي حال استمر الوضع على ماهو عليه.
البداية كانت مع الحليف الأبرز، الإمارات، التي دافعت وبشراسة عن موقف الرئيس الفرنسي، ففي الأول من نوفمبر الحالي شدًد ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، على “رفضه خطاب الكراهية الذي يسيء إلى العلاقة بين الشعوب ويؤذي مشاعر الملايين من البشر ويخدم أصحاب الأفكار المتطرفة، كما رفض بشكل قاطع أي تبرير للإجرام والعنف والإرهاب”.
كما أعلن بن زايد دعمه لباريس في مواجهة حملات المقاطعة التي تتعرض لها البلاد، حسبما نشر “مركز الإمارات للدراسات والإعلام” عبر حسابه على تويتر تغريدة قال فيها “إن الشيخ محمد بن زايد يؤكد للرئيس الفرنسي دعمه لاقتصاد فرنسا ضد الحرب الممنهجة التي يقودها تنظيم الإخوان المسلمين العالمي بمقاطعة المنتجات الفرنسية”
وزير الخارجية أنور قرقاش هو الأخر أعرب عن دعمه للرئيس الفرنسي، ففي مقابلة له مع صحيفة “دي فيلت الألمانيّة”، أمس الإثنين، 2 نوفمبر، قال فيها “يجب الاستماع إلى ما قاله ماكرون فعلاً في خطابه. هو لا يريد عزل المسلمين في الغرب، وهو محقّ تماماً”، مضيفًا أنه من حق الدولة الفرنسية :البحث عن طرق لتحقيق ذلك بالتوازي مع مكافحة التطرّف والانغلاق المجتمعي”
دخول القادة الحلفاء على خط الدعم جاء بعد فشل الحملة الممنهجة لتشويه المقاطعة عبر الأذرع الإعلامية والسياسية المدعومة والداعمة من أنظمة الإمارات والسعودية تحديدًا، والتي هاجمت المقاطعة من باب النكاية السياسية
مصريًا.. أعرب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال اتصال هاتفي أجراه معه نظيره الفرنسي على أهمية “نشر قيم التعايش بين الأديان المختلفة” مؤكدًا على ضرورة “التفرقة الكاملة بين الدين الإسلامي، لما يدعو إليه من نشر السلام والتسامح ونبذ العنف، وبين الأعمال الإرهابية التي يرتكبها بعض المدعين الانتماء للإسلام وهو منهم برئ، وهي أعمال مدانة في كافة أشكالها، ولا يجوز لمرتكبيها الاستناد إلى أي من الأديان السماوية في القيام بها”، حسبما ذكر المتحدث باسم الرئاسة المصرية في بيانه المنشور على صفحته على فيس بوك.
وأوضح السيسي أن بلاده “ماضية في الاضطلاع بدورها في هذا الإطار، بما يحول دون نجاح الجماعات الإرهابية والدول الداعمة لها في تحقيق أهدافها وفي تشويه صورة الإسلام والاتجار به لتأجيج المشاعر”، على حد تعبيره.
وكان الرئيس المصري في كلمته أثناء مشاركته في احتفالية وزارة الأوقاف المصرية بذكرى المولد النبوي الشريف قد ألمح إلى تجنب تصعيد رد الفعل في مواجهة الإساءة النبي، لافتًا إلى أن “تبرير التطرف تحت ستار الدين هو أبعد ما يكون عن الدين بل إنه محرّم ومجرّم”، مضيفا “أرفض رفضا قاطعا أي عنف أو إرهاب تحت شعار الدفاع عن الدين أو رموزه المقدسة”.
ومن القاهرة إلى تونس، حيث أعرب الرئيس قيس سعيد خلال مكالمة هاتفية مع ماكرون عن تنديده وشجبه “كل أشكال العنف والإرهاب”، مشددا على أن “الإسلام براء من هؤلاء”، محذرًا من استغلال البعض لمثل هذه الجرائم لتشويه صورة فرنسا، قائلا “بالتأكيد لا مجال للشك في أن بعض الجهات تريد إرباك عديد المجتمعات ومنها المجتمع الفرنسي”.
فشل حملات تشويه المقاطعة
دخول القادة الحلفاء على خط الدعم جاء بعد فشل الحملة الممنهجة لتشويه المقاطعة عبر الأذرع الإعلامية والسياسية المدعومة والداعمة من أنظمة الإمارات والسعودية تحديدًا، والتي هاجمت المقاطعة من باب النكاية السياسية في تركيا وقطر،لا أكثر.
فالأكاديمي عبد الخالق عبد الله، مستشار محمد بن زايد، وصف موجة الدفاع عن النبي بأنها “حملة الإخوان ضد حرب فرنسا المحقة على الغلو والتطرف” كما أنها ” ليست مخلصة لوجه الله وليست دفاعًا عن الإسلام بل هي متاجرة بالدين”، وانضم معه في هذا الهجوم العديد من الإعلاميين الإماراتيين.
سعوديًا كان الأمر أكثر شراسة في ظل صمت النظام الحكام عن إبداء أي رد فعل رسمي، سوى تصريحات عامة صادرة عن الخارجية استنكرت فيها أي محاولة للربط بين الإسلام والإرهاب، فيما لم تتطرق مطلقًا لحملة المقاطعة، إلا أن الذباب وأذرعه كان حاضرًا وبقوة.
لاشك أن الرسالة الأعمق التي خرج بها هذا لقاء ماكرون على الجزيرة قبل يومين هي أن الشارع بات أقوى من الحكومات والأنظمة
فهاهو تركي الحمد، أستاذ العلوم السياسية السابق، بجامعة الملك سعود بالرياض، وأحد المقربين من ولي العهد محمد بن سلمان، يبرر لماكرون حملته المعادية للإسلام، واصفًا أنها تستهدف الإسلام السياسي، غير أن “الإخوان حولوها إلى حملة على الإسلام ككل” وأضاف في تغريدة له ” الإخوان يريدون احتكار الإسلام ففرنسا فتحت لهم أبواب الهجرة، فكيف تتنكر لهم..قليل من العقل..”.
وهو الموقف ذاته الذي استند إليه الإعلامي السعودي عضوان الأحمري، رئيس تحرير “إندبندنت عربية” السعودية، حين أشار إلى أن “تركيا هو العدو الأول للسعودية وأمنها وليست فرنسا” مبررًا عنصرية الرئيس الفرنسي ضد الإسلام بقوله إن “هجوم ماكرون وتصريحاته رد فعل طبيعي على جريمة وحشية ارتكبها إرهابي أهوج”.
نعم..ماكرون شن حملة على الإسلام السياسي وليس الإسلام، ولكن الإخوان يريدونها حملة على الإسلام ككل، في خلط واضح بين الاسلام وفكر البنا وقطب، وهذا غير صحيح..الإخوان يريدون احتكار الإسلام ففرنسا فتحت لهم أبواب الهجرة، فكيف تتنكر لهم..قليل من العقل.. https://t.co/VJ9HsQoiqV
— تركي الحمد T. Hamad (@TurkiHAlhamad1) October 23, 2020
هل ينجح الحلفاء؟
لاشك أن الرسالة الأعمق التي خرج بها هذا لقاء ماكرون على الجزيرة قبل يومين هي أن الشارع بات أقوى من الحكومات والأنظمة، فبينما يهرول حلفاء فرنسا لإنقاذ حليفهم عبر تمييع القضية وتشويه الحملات إذ بالتفاعل يزداد يومًا تلو الأخر.
وفي ظل تلك التغيرات المحورية في خارطة الرأي العام العربي ومنافذ التوجيه والقيادة، أضطر الرئيس الفرنسي ليخرج للشارع لتبرير تصريحاته بعد أقل من 48 ساعة فقط على حادثة كنيسة “نيس” التي راح ضحيتها 3 فرنسيين والتي كان من الممكن أن يوظفها لخدمة موقفه المتشدد، وهو ما يعكس حجم التأثر والقلق الواضح لديه من حملات الإدانة التي تتسع رقعتها يومًا تلو الآخر.
التعويل على الأنظمة العربية في دعم فرنسا رهان لا ينتظر تحقيق المنشود منه، في ظل الانتفاضة الشعبية التي جاءت بمثابة الصدمة، ليس للفرنسيين وحدهم، بل للمتفرنسين العرب كذلك، هذا بجانب أنها كانت مفاجئة لكثير من المراقبين ممن ظنوا أن الرأي العام أُجبر على دخول ثلاجة التجميد بلا رجعة منذ سنوات بفعل التضييق والتنكيل به وبرموزه.