منذ نشأة ونمو الحضارة البشرية وبحر إيجة يؤدي وظيفته التقليدية كممر وحلقة وصل بين التجمعات الحضارية القائمة على الساحل الجنوبي لأوروبا والحضارات القائمة على سواحل هضبة الأناضول، ورغم انخفاض مهارات العثمانيين البحرية مقارنة بمهاراتهم العسكرية على البر، فإنهم أخضعوا بحر إيجة وجزره لسيطرتهم لقرون طويلة قبل أن يخسره الأتراك لصالح اليونانيين الذين سيطروا على أغلب جزره، محولين الممر التاريخي إلى سياج يحاصر جمهورية الأتراك الناشئة.
تتكون منطقة بحر إيجة من ثماني مدن، أكبرها مدينة إزمير التي تعد من أكبر مدن الجمهورية وأكثرها أهمية على المستوى السياسي والاقتصادي، وتليها في الأهمية مدينة مانيسا التي لعبت أدوارًا تاريخية خلال عصر الدولة العثمانية، كما تضم المنطقة مدن أيدن ودينزلي وموغلا وافيون وكوتاهية وأوشاك.
منطقة إيجة من حرب الاستقلال إلى اتفاقية المبادلة
في الـ30 من أكتوبر/تشرين الأول 1918 صعد قائد البحرية العثمانية والقائد الشهير لطراد الحميدية الأميرال حسين رؤوف أورباي على ظهر المدمرة البريطانية إتش إم إس أغاممنون ليفاوض الأميرال البحري سومرست غوف كالثورب على شروط استسلام الدولة العثمانية للحلفاء، أفضت المفاوضات إلى توقيع هدنة مودروس التي نصت على تسريح الجيش العثماني واحتلال المواقع الإستراتيجية وغيرها من الشروط التي أسست لمرحلة جديدة في تاريخ الوجود التركي في هضبة الأناضول.
وبعد سبعة شهور من توقيع الاتفاقية وجدت الحماية التركية في مدينة أزمير نفسها أمام جحافل الجيش اليوناني الباحثة عن فكرة “ميغالي” العظيمة الساعية لإقامة الوطن اليوناني الكبير الممتد من سواحل البحر الأسود من جهة مدينة إسطنبول وأطرافها الآسيوية والأوروبية وصولًا لجميع المدن والجزر في حوضي بحر مرمرة وإيجة.
ترافق التقدم اليوناني في بلاد الأناضول مع أعمال نهب وقتل بحق المسلمين في المنطقة، كاسرًا مئات السنين من التعايش العرقي والديني، وفي موازاة ذلك نهضت الحركة الوطنية التركية على بقايا الإمبراطورية العثمانية في عمق الأناضول لتبدأ حرب الاستقلال التي قام جزء كبير من معاركها على أراضي قرى ومدن بحر إيجة التي تعرض للتدمير والتطهير، وبعد هجوم كبير تمكنت قوات الحركة الوطنية من استعادة مدينة إزمير في شهر سبتمبر/أيلول 1922 واضعة حدًا للوجود اليوناني على هضبة الأناضول، لكن انسحاب الجيوش اليونانية تم كتقدمها، إذ خلف اليونانيون قرى مدمرة ومدنًا محترقة، كمدينة مانيسا وآلاشهير ومدينة إزمير التي شهدت أعنف وأشد الحرائق.
تركت هذه الأحداث أثرها على التركيبة السكانية لمنطقة إيجة، فأصبح من الواضح أن حالة التعايش التي ميزت المنطقة لم يعد لها مكان وأن ما كسر يصعب إصلاحه، فتم توقيع ملحق خاص باتفاقية لوزان عرف باسم اتفاقية المبادلة، رحلت بموجبها تركيا السكان المسيحيين من الأناضول، فيما ترحل اليونان بدورها السكان الأتراك المسلمين من المناطق التي أصبحت تحت سيطرتها.
وبعد اتفاقية المبادلة قامت الجمهورية التركية بإسكان الأتراك القادمين من اليونان في بيوت وقرى الذين تم ترحيلهم إلى اليونان، وترافق ذلك مع عملية واسعة لتغيير أسماء الأماكن والمدن والقرى.
ورغم عملية التغيير الكبيرة التي شهدتها المنطقة على مستوى السكان والبناء الاجتماعي، فإنها حافظت على بقايا التراث الثقافي الذي أنشأه تفاعل المجتمعات المسيحية والمسلمة واليهودية في هذه المنطقة التي تحولت إلى إحدى أهم المناطق في الجمهورية التركية الجديدة.
الثقافة والناس
رغم عمليات التغير السكاني الكبيرة التي شهدتها المنطقة منذ الحرب العالمية الأولى وما تلاها من تطورات، فإن الذاكرة المكانية للمنطقة ما زالت محتفظة بآثار الأقوام والشعوب التي استوطنت وعاشت بها، وساعد في ذلك طبيعة إدارة الدولة العثمانية التي سمحت بتفاعل المجتمعات المحلية دون أن تتدخل تجاه الآخرين المختلفين دينيًا وعرقيًا.
يشتهر أهل المنطقة برقصة الزيبك “Zeybek” التي تعد العلامة المميزة لهم، وجاءت كلمة زيبك من اللغة اليونانية، وتأتي بمعنى الشجاعة والبطولة، وتظهر الرقصة صفات القوة والشهامة لدى الرجل الذي دائمًا ما يكون معتمرًا سلاحه ويؤدي حركاتها بكل عزة وقوة، أما المرأة فتحرص خلال الرقصة على إظهار اتزانها وجمالها.
تؤدى الرقصة باللباس التقليدي أو من دونه، وعادة ما يتم تأديتها في حفلات الزفاف والخطوبة والمناسبات الوطنية، وتتنوع أشكالها وفقًا للمنطقة وعدد الأشخاص، ومما يميزها كذلك أنه عند تأديتها لا يكون هناك أي تلامس بين الراقصين الذين ينقسموا وفقًا لمهارات الراقص، وتعتمد الرقصة على موسيقى حماسية يتم عزفها بواسطة الطبول والمزمار التي تحتل موقعًا مميزًا في العادة في الأغاني التقليدية الخاصة بمنطقة بحر إيجة.
تعود حكايات الزبيك إلى الأبطال المحليين الذين تمردوا في عهد الدولة العثمانية على الحكام المحليين والباشوات وإجراءاتهم الظالمة بحق الفلاحين، فشكلوا مجموعات مسلحة اتخذت الجبال مسكنًا لها، فكانوا خارجين عن القانون من وجهة نظر الدولة وأبطالًا في نظر الشعب الذي تعاطف معهم ومنحهم دعمهم، هذا الأمر دفع الدولة العثمانية إلى حظر زي الزيبك وملاحقة مرتديه، الأمر الذي جعل الزي رمزًا لرفض الظلم المقرون بالشجاعة والتضحية.
وخلال حرب الاستقلال التركية اعتمدت الحركة الوطنية التركية بشكل كبير على المجموعات المحلية غير النظامية التي كانت رائدة المقاومة التركية في مواجهة القوات اليونانية الغازية، حيث خاضت هذه القوات حرب عصابات خلف خطوط القوات الغازية، وبعد الحرب كرمت الجمهورية التركية هؤلاء المقاتلين على تضحياتهم، كما احتفظت الذاكرة الشعبية بحكايا هؤلاء المقاتلين التي شكلت مصدر إلهام لعدد من الروائيين وصناع الأفلام والمسلسلات الأتراك.
الاقتصاد والسياحة
تمتلك منطقة بحر إيجة اقتصادًا متقدمًا يعتمد على ثلاثة قطاعات أساسية، القطاع الأول الزراعة: تمتلك المنطقة مناخًا مناسبًا وموقعًا مميزًا يسمح للمزارعين بالوصول إلى كل الأسواق الداخلية والخارجية بسهولة ويسر، مستفيدين من شبكة الطرق التي تربط المنطقة بمناطق الأناضول الأخرى، وتنتج المنطقة عددًا من المنتجات كالقمح والشعير والذرة في السهول الداخلية للمنطقة، بالإضافة إلى ذلك يتم إنتاج عدد من المحاصيل الموسمية كالبطيخ والطماطم والحمضيات، كما تشتهر المنطقة بعدد من الصناعات الغذائية كإنتاج السجق في مدينة أفيون وصناعة الأغذية المجففة كالتين في مدينة أيدن، أما المنتج الزراعي الأهم فيتمثل في الزيتون والعنب الذي تقوم عليه صناعة النبيذ والتين، حيث تنتج المنطقة 81% من الإنتاج التركي، وإلى جوار الإنتاج الزراعي تتنج المنطقة عددًا من المنتجات الحيوانية كالعسل والدواجن.
القطاع الثاني الصناعة: تحتل المنطقة المرتبة الثانية بعد منطقة مرمرة من حيث الصناعة، وتأتي مدينة إزمير في الصدارة، حيث تحتوي على عدد من المناطق الصناعية وميناء تاريخي ذي اتصال مهم مع المدن الأوروبية على شاطئ بحر إيجة والأبيض المتوسط، بالإضافة إلى ذلك تحتوي المنطقة على عدد من الصناعات الرائدة كصناعة المنسوجات والرخام والأسمنت والسجاد، بالإضافة إلى الصناعات الكيمائية، حيث تصنف مدينتا إزمير ودينزلي ضمن أول عشرة مدن مصدرة في تركيا.
القطاع الثالث السياحة: يعد من أكثر القطاعات ازدهارًا في المنطقة التي تعد وجهة لأنواع متعددة من السياحة، منها السياحة العلاجية في مدينتي دينزلي وأفيون حيث يتم زيارة ينابيع المياه المعدنية للتداوي والعلاج، والسياحة التاريخية حيث تضم المنطقة عددًا كبيرًا من الآثار اليونانية والعثمانية، بالإضافة إلى ذلك تزدهر السياحة الترفيهية حيث تستقبل مدن المنطقة ملايين السياح سنويًا، كمدينة بودروم الشهيرة ومدينة فتحية ومرمريس وغيرها من المدن الساحلية.
هذا الأمر جعل المنطقة من أغنى المناطق في تركيا، ومنحها إضافة مهمة على مستوى المساهمة في الاقتصاد التركي.
ختامًا، لعبت منطقة إيجة أدوارًا مهمة في تاريخ الحضارات التي قامت على هضبة الأناضول، فكانت نقطة اتصالها مع العالم وممرها نحو سواحل أوروبا، هذا الأمر مكن مدن المنطقة من تشكيل اتصال حقيقي مع مدن البحر الأبيض المتوسط الأخرى، وانعكس ذلك على ثقافة سكانها واقتصادها.
بعد الحرب العالمية الأولى تعرضت المنطقة لضربة حقيقية أفقدتها الكثير من مميزاتها وإمكاناتها السكانية والاقتصادية التي مكنتها من دورها التاريخي، واليوم وبعد سنوات من قيام الجمهورية التركية وفي ظل تطلع رجال الدولة الأتراك لمستقبل أفضل للجمهورية تكمن المساهمة الحقيقية لمنطقة إيجة في قدرتها على استعادة هذا الدور التاريخي في أن تكون بوابة اتصال الجمهورية بمدن البحر المتوسط، فهل تستطيع إزمير الجمهورية أن تكون إزمير العثمانية أم سوف يقتصر دور المنطقة على كونها الحد الجنوبي الغربي للجمهورية؟