توصف مقدونيا الشمالية، وهي دولة صغيرة في شبه جزيرة البلقان بجنوب شرق أوروبا، بأنها فسيفساء متعددة الإثنيات والديانات، فعلى الرغم من قلة عدد سكانها – يبلغ نحو مليوني نسمة فقط -، فهي حاضنة للعديد من المجتمعات العرقية والدينية والثقافية، ومع ذلك فإن هذا التنوع صاغ العديد من التحديات والتعقيدات أمام عمليات الاندماج والإشراك في الجمهورية اليوغوسلافية السابقة، ونخص بالذكر الأقلية المسلمة التي تشكل ما يقارب ثلث سكان مقدونيا الشمالية.
الصورة العامة
وفقًا لآخر تعداد سكاني عام 2002، كانت أكبر مجموعة عرقية في مقدونيا هم المقدونيون ويتبعهم الألبان الذين يتركزون في الجزء الشمالي الغربي من البلاد، فيتبع ما يصل إلى 65% من السكان المسيحية الأرثوذكسية، وتمثل الطوائف المسيحية الأخرى (الكاثوليك والبروتستانت وغيرهم) 0.4% من السكان، بينما يشكل المسلمون 33% من السكان مما يجعلها خامس أعلى نسبة من المسلمين في أوروبا.
الآن يتركز العدد الأكبر من مسلمي مقدونيا في العاصمة سكوبيا ومدن مثل كومانو وديبرو وستروغو وأوهريدو وريسينو وغوستيفارو وتيتوفو، وينتمون إلى خلفيات عرقية متنوعة، حيث يمثل المقدونيون من أصل ألباني أغلبية بنسبة 72%، أي ما يقرب من 500 ألف نسمة من إجمالي عدد المسلمين المقدونيين البالغ عددهم أكثر من 700 ألف، في حين تقدر نسبة المقدونيين من أصل تركي بنحو 11% أو 78 ألف، بينما تبلغ نسبة الروما 8% أو 54 ألف، أما نسبة البوشناق 4% أو 25 ألف، فيما تصل نسبة الفلاش (يُطلق عليهم أيضًا الأرومانيون) والبوشناق والتورباشيين والغورانيين والمقدونيين المسلمين إلى 5% أو 35 ألف.
يصلي الجمعة أسبوعيًا ما يقرب من 350 ألف مصلٍ، وتؤدى خطب الجمعة والتعليم الديني في المساجد والمدارس الإسلامية باللغات الألبانية والتركية والمقدونية
وُيعتقد أن أعداد المسلمين في هذه البلاد كانت أكثر بكثير مقارنة بالوضع الحاليّ، إذ بدأ تناقصهم وتغير مراكز انتشارهم تدريجيًا مع انتهاء حكم الإمبراطورية العثمانية وفرض صربيا سيطرتها على مقدونيا، الواقعة التاريخية التي عرضت المسلمين إلى التهجير القسري والمطاردة المستمرة، ودفعت البعض إلى الهجرة لتركيا خوفًا من التضييقات الشديدة والممارسات المعادية ضدهم.
فيما يخص المساجد وممارسة الشعائر الدينية، فثمة نحو 600 مسجد في مقدونيا، ووفقًا لتقرير أعده الكاتب فريد موهيتش، فإن عدد المسلمين الممارسين لطقوس دينهم بشكل منتظم يوميًا يبلغ نحو 230 ألفًا، في حين يصلي الجمعة أسبوعيًا ما يقرب من 350 ألف مصلٍ، وتؤدى خطب الجمعة والتعليم الديني في المساجد والمدارس الإسلامية باللغات الألبانية والتركية والمقدونية والبوسنية والغجرية (الرّوما).
مفاهيم وتعقيدات: “مقدونيون مسلمون” وليس “مسلمون مقدونيين”؟
مصطلح “مسلم” في المفهوم اليوغوسلافي السياسي، له معنى مزدوج، حيث يشير إلى كل من الدين والانتماء العرقي، ففي عام 1969، اعترفت الحكومة اليوغوسلافية بوجود أمة مسلمة تشمل مسلمي البوسنة والهرسك، إلا أن جمهورية مقدونيا بعد الاستقلال، رفضت رسميًا توسيع مفهوم الأمة المسلمة خارج حدودها واعتبرت المواطنين الناطقين باللغة المقدونية من أصل سلافي مقدونيين حتى لو انتموا إلى الدين الإسلامي.
كانت هناك أيضًا محاولات سياسية لجعل المقدونيين المسيحيين يقبلون المسلمين المقدونيين كمواطنين مثلهم، ومع ذلك، كانت هذه العملية صعبة إلى حد ما، ورغم أن المجتمعين يشتركان في نفس اللغة، فإن المسيحيين المقدونيين يفترضون أنه لا يمكن أن يكون المرء “مقدونيًا” دون أن يكون مسيحيًا أرثوذكسيًا، إذ إنهم يعتبرون الأرثوذكسية عنصرًا ضروريًا، إن لم يكن عنصرًا كافيًا، للهوية الثقافية والمجتمعية المقدونية.
زاد حظر الحجاب الإسلامي من إحساس بعض المسلمين الناطقين باللغة المقدونية بأن الهوية المقدونية هي هوية مسيحية
وعلى الرغم من أن نحو 40 ألف مواطن من جمهورية مقدونيا وصفوا أنفسهم بأنهم ينتمون إلى الأمة الإسلامية في تعداد عام 1981، فقد انخفض العدد في آخر تعداد عام 1994 إلى 15 ألفًا، وأحد أسباب ذلك أن القيادة المقدونية شجعت المسلمين الناطقين باللغة المقدونية على الانتماء إلى “الأمة المقدونية” الأم، على اعتبار أنهم “مقدونيون مسلمون” وليس “مسلمون مقدونيين”، ومن باب إشراكهم في جمهوريتهم وإعادتهم إلى “المقدونية”.
وتأتي هذه المعطيات بناءً على مجموعة من الرسائل التي استقبلها المسلمون في مقدونيا من خلال تركيز المسيحيين المقدونيين والسياسيين المقدونيين القوميين على العلاقة بين الكنيسة الأرثوذكسية المقدونية والجنسية المقدونية، الأمر الذي زاد من نفور بعض المسلمين المقدونيين. وما زاد الطين بلة، أن حظر الحجاب الإسلامي (zar and feredže) في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي أدى إلى نشوء عزلة كبيرة لبعض المسلمين الناطقين باللغة المقدونية عن الدولة وزاد من إحساسهم بأن الهوية المقدونية هي هوية مسيحية.
الهوية: العرق واللغة والدين
بعيدًا عن الإملاءات السياسية، ما زال من الصعب تحديد هوية المسلمين المقدونيين، حيث تنشأ المشاكل الحاليّة بين المجموعات المتنوعة من المسلمين أنفسهم، فالـ”توربيش” مثلًا هو الاسم الذي يطلق على الأقلية المسلمة في جمهورية مقدونيا، ويعني “حاملات الحقائب”.
ولا يخفى على أحد أن الكثير منهم لا يستمتعون بهذا المصطلح لأنهم يعتبرونه إهانة وإشارة إلى شخص “متشرد وبائس وغير حضاري”، ويذكر بعضهم أن سبب استيائهم أن التسمية أعطاها لهم المسيحيون لتحط من قدر السلاف الذين اعتنقوا الإسلام، وذلك بالإضافة إلى مساهمة الاضطهاد والترهيب في ظل جمهورية يوغوسلافيا السابقة في تكوين “شعور بالخزي” إزاء هويتهم التوربية.
وما زالت مسألة الهوية العرقية لطائفة “توربيش” محل نزاع، فعلى الرغم من أن الغالبية تعتبر نفسها تركية الأصل، فإن مجموعة صغيرة منهم تتخذ اللغة معيارًا أساسيًا لتحديد أو تعريف هويتهم أكثر بكثير من الدين، لذلك يعتقدون أنهم أقرب إلى المقدونيين الأرثوذكس، مع العلم أن البعض يُعرفون أنفسهم كمسلمين ألبان لأسباب براغماتية أو إيديولوجية.
وبالمثل، ثمة مصطلح آخر، غير مرغوب أيضًا داخل دوائر المسلمين المقدونيين ويمكن اعتباره ازدرائيًا أيضًا، وهو “poturi/poturlu” الذي يستخدم لوصف السلاف البوسنيين الريفيين الذين تُرِكوا/تتركوا أو تأسلموا لكنهم احتفظوا ببعض الممارسات المسيحية.
وفيما يتعلق بـ”الغوران”، فهم مجموعة صغيرة من المسلمين الذين يعيشون في الجبال في أقصى جنوب كوسوفو ويتحدثون لغة سلافية ترتبط ارتباطًا وثيقًا باللغة المقدونية، وتحاول الحكومات المقدونية تسجيل هؤلاء الأشخاص على أنهم “مقدونيين” من خلال منحهم الجنسية المقدونية وجوازات السفر.
التحديات: الإهمال والإسلاموفوبيا
شأنهم شأن كل المسلمين في أوروبا، يحاول مسلمو مقدونيا تخطي التحديات والصعوبات التي تعرقل النمو الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، إذ تشير المصادر المتوافرة أن المسلمين المقدونيين يفتقرون إلى التحصيلات العلمية، كما أنهم من أكثر الفئات المجتمعية فقرًا في مقدونيا، وذلك عدا عن أن مشاركتهم السياسية وتفاعلهم في هذا الحقل أقل بكثير من نظرائهم.
ومع ذلك، فإن المسلمين من أصول ألبانية أفضل من المنحدرين من أصول تركية، بينما يعد وضع المسلمين البوشناق والتورباشيين والغورانيين والروما في مؤخرة السباق.
وتكمن بعض الصعوبات في مطالبات التعليم باللغة الأم، ففي خلال السنوات الأخيرة، حاول ممثلو الجالية التركية في الجزء الغربي من الجمهورية الحصول على إذن رسمي لفتح فصول دراسية تركية في المدارس الابتدائية، لكن هذه الجهود قوبلت بإجابة سلبية، بحجة أن نظرًا لكونهم مسلمين مقدونيين، فعليهم الدراسة باللغة المقدونية.
كما يطالب الألبان منذ عقود بتعديل الدستور لينص على أن الألبان يشكلون مع العرق السلافي الأمة المقدونية، حيث يشير الدستور إلى أن السلاف هم الأمة التي تشكل مقدونيا، وإلى جانب ذلك، يسعى الألبان للحصول على الاعتراف باللغة الألبانية لغة رسمية إلى جانب السلافية، لكن إلى الآن لم تترجم هذه المحاولات إلى إنجازات على أرض الواقع.
إلى جانب ذلك، يواجه مجموعة كبيرة من المسلمين الأصليين في مقدونيا تحديات يومية، ففي عام 2019، ألقى تقرير ممول من الاتحاد الأوروبي من مؤسسة فكرية تركية الضوء على مدى انتشار العنصرية ضد المسلمين في أوروبا، بما في ذلك منطقة البلقان، ووجد التقرير، بحسب ندى دوستي التي ساهمت في القسم الألباني من التقرير، أن “الإسلاموفوبيا شهدت في ألبانيا تكثيفًا في مختلف مجالات الحياة، بما في ذلك التوظيف والتعليم والتمثيل الإعلامي ونظام العدالة وما إلى ذلك مع الآراء السلبية والقوالب النمطية، فضلًا عن خطاب الكراهية على وسائل الإعلام الرئيسية ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من المنصات عبر الإنترنت”.
مشيرة إلى أن المشاعر المعادية للمسلمين في ألبانيا يغذيها “الصحفيون والسياسيون”، مما أدى إلى “تطبيع” الخطاب المعادي للإسلام، ما يعني أن مسلمي مقدونيا يواجهون شكلًا مألوفًا من العداء الذي يواجهه المسلمون بشكل عام في المجتمعات الأجنبية. إلى ذلك، تبقى الأقلية المسلمة مشتتة بينها الانتماء الديني ومعايير القومية التي تفرضها حكومة سكوبيا كنوع من أنواع الولاء للأمة المقدونية.