تُقبل مناطق شمال غرب سوريا التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة على تغييرات عسكرية جديدة وترتيبات تنظيمية من شأنها أن تساهم في الحفاظ على ما تبقى من مناطق جغرافية بيد مقاتلي المعارضة، كما أن هذه الخطوات في حال نجاحها ستدخل المنطقة في مرحلة جديدة من مراحل الحرب السورية تصعيدًا كان أو هدوءًا، لكن هذه الترتيبات تتعرض للعبث مرة جديدة من هيئة تحرير الشام التي طالما حاولت فرض خيارها العسكري على المنطقة.
مجلس عسكري جديد في إدلب تحاول الفصائل المسلحة صناعته وتنظيم الأمور العسكرية على أساسه، إلا أن هناك عقبات في الطريق، وكما العادة نجد هيئة تحرير الشام حاضرة بقوة في الخلافات ومحاولة الاستفراد بالقرارات، إلا أن تركيا الجارة الضامنة للمنطقة تريد الإسراع بتنظيم الخطوات لقطع الطريق على روسيا والنظام السوري من تكرار هجماتهم على المنطقة.
المجلس العسكري
رغم الصمت التركي الرسمي وغياب تصريحات الفصائل، فإن الأخبار المتداولة تتنبأ بوجود تشكيل جديد ناشئ في إدلب تحت مسمى “المجلس العسكري”، لن يكون هذا المجلس هو الأول على مستوى المنطقة إلا أنه أول تشكيل يضم هيئة تحرير الشام “جبهة النصرة” سابقًا إلى جانب فصائل تُصنف على أنها معتدلة منها فيلق الشام المدعوم من تركيا وحركة أحرار الشام.
قبل أن تبدأ فكرة المجلس العسكري بالظهور، عملت تركيا على تنظيم الفصائل العسكرية السورية المعارضة، حيث قسمت منطقة العمل إلى قطاعات وألوية، وبحسب مصادر عسكرية فإن الألوية عددها من 20 إلى 25 لواءً وكل منها سيعمل على استلام قطاع معين، وتملك هيئة تحرير الشام النصيب الأكبر من تعداد هذه الألوية، ووفقًا للقائد العسكري في الجيش الوطني السوري الفاروق أبو بكر، فإن قائد هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني “لا يرتضي إلا أن يكون مسيطرًا في جميع الحالات”.
ولأن الترتيب التركي لم يرق للجولاني ولا يستطيع من خلاله أن يكون “مسيطرًا” على الوضع العسكري بشكل كامل، عمدت هيئة تحرير الشام إلى اقتراح تشكيل “المجلس العسكري” الذي عُرض على حركة أحرار الشام وفيلق الشام وهما أكبر الفصائل إلى جانب تنظيم الهيئة، وخلال حديثه لـ”نون بوست”، يقول القيادي أبو بكر: “المجلس لاقى قبولًا من الجانب التركي، كما أنه يضم 3 قيادات”، ويشير أبو بكر إلى أن الجولاني “يحاول من خلال هذا المشروع أن يستحوذ على كل شيء”.
وبحسب فراس فحام الباحث في مركز جسور للدراسات فإن التصورات بشأن هذا المجلس مختلفة، وفي حديثه لـ”نون بوست”، أشار إلى أن “الجبهة الوطنية للتحرير تريد من هذا المجلس الجديد أن يكون غرفة عمليات للتنسيق بهدف الدفاع عن المناطق المتبقية تحت سيطرتها”، أما هيئة تحرير الشام تهدف من خلال هذا التشكيل الجديد إلى “السيطرة على القرار العسكري في محافظة إدلب وجعلها تحت قيادتها”، ويوضح الباحث فحام إلى أن الهيئة تعمل على “رئاسة” هذا المجلس فيما تكون باقي الفصائل أعضاءً تحت أمرتها.
في هذه الأثناء تنتظر أنقرة أن تفرغ الفصائل من تشكيل المجلس حتى تدعمه لوجستيًا بحسب تقارير صحفية، ووفقًا لذات التقارير فإن “الخطة تتلخص بتشكيل 10 ألوية من تحرير الشام و10 ألوية من فصيل فيلق الشام و5 ألوية من حركة أحرار الشام ولواء من جيش الأحرار ولواء من فصيل صقور الشام”، ومن المقرر أن يتكون كل لواء من 600 إلى 800 عنصر، موزعين: 200 قوات خاصة نخبة و200 قوات مشاة عادية و100 صنوف عسكرية و100 شؤون إدارية.
كما عرضت هيئة تحرير الشام على الفصائل بأن يجمع المجلس كامل السلاح الثقيل تحت إمرته في المنطقة وإقامة معسكرات لجميع المقاتلين، إلا أن الفصائل بحسب فراس فحام تخوفت من هذه الدعوات التي تجعلها تفقد قرارها العسكري.
هذه الخطوات التي تنتهجها الهيئة يراها البعض محاولة جديدة منها لإعادة اعتبارها والسيطرة على الوضع، وفي هذا الصدد يقول الباحث السوري عبد الوهاب عاصي: “لم يعد أمام الجولاني إلا تعويم نفسه من خلال المجلس العسكري في إدلب”، مضيفًا “الجولاني يسعى للسيطرة على قرار المجلس عن طريق دعم انقلاب على قيادة حركة أحرار الشام كما يأمل الجولاني أن يتجاوز بذلك استحقاق حل تحرير الشام، وبالتالي مشكلة التصنيف على قوائم الإرهاب”.
من جهته قال مصطفى سيجري القيادي في الجيش الوطني: “يأتي العمل على تشكيل المجلس العسكري في إدلب كخطوة لتوحيد الجهود العسكرية وإنهاء السيطرة الفصائلية، ولقطع الطريق على الذرائع الروسية، إلا أن مساعي الجولاني للسيطرة على المجلس عبر أدواته وقبل ولادته ستعيدنا للمربع الأول”.
انقلاب في أحرار الشام
الأسماء التي اختيرت لمهمة تمثيل الفصائل في هذا المجلس هي أبو الحسن الحموي القائد العسكري لهيئة تحرير الشام وأبو المنذر عناد درويش من حركة أحرار الشام ومحمد حوراني ممثلًا عن فيلق الشام، إلا أنه وفي الأيام الأخيرة تلقت حركة أحرار الشام ضربة قوية من خلال انقلاب على القيادة الرسمية لها، ومن بين المنقلبين أبو المنذر عضو المجلس العسكري ممثلًا عن الحركة.
هذا الانقلاب الذي يقوده قائد الحركة السابق حسن صوفان، تحركه هيئة تحرير الشام بغرض الاستيلاء على قرار الحركة ومقدراتها، لكن مع تمسك القيادة الحاليّة بأحقيتها في القيادة لم يستطع حسن صوفان وأبو المنذر السيطرة على القيادة الرسمية، وهو الأمر الذي قطع الطريق على الجولاني من جعل حركة الأحرار تابعًا جديدًا له بعد أن فكك أكثر من 20 فصيلًا ثوريًا في المنطقة خلال السنوات الماضية.
هذه التطورات شكلت حجر عثرة يمنع تقدم المفاوضات بشأن وجود المجلس العسكري، خاصة أن أبو المنذر ممثل حركة الأحرار أصبح تابعًا للجولاني، ومن هنا يتضح دور هيئة تحرير الشام في إدارة الانقلاب في الحركة عبر أدواتها، وتهدف الهيئة من هذا التحرك وتسليم قيادة الحركة إلى أتباع لها إلى أن تستفرد بقيادة المجلس العسكري ويكون القرار الفصل لها.
في هذا الصدد يقول الباحث عبد الوهاب عاصي: “يعكس إعلان حسن صوفان تنصيب نفسه قائدًا عامًا لحركة أحرار الشام، القلق المتنامي لديه من إخفاق محاولة الانقلاب التي يقودها بدعم من أبي محمد الجولاني، خصوصًا بعد رفض معظم قطاعات وكوادر الحركة الانضمام له، وغياب دور حاسم لتركيا في صالحه رغم الدعاية المضللة التي سوّقها لنفسه حاليًّا”، كما يحاول صوفان وفقًا لعاصي “كسب فرصة جديدة بفرض أمر واقع جديد، مستفيدًا من تباطؤ اتخاذ القرار لدى قيادة أحرار الشام، واستمرار دعم الجولاني له، ووجود حاجة ماسة لاستعجال بدء العمل بالمجلس العسكري في إدلب”.
يرى الباحث محمد سرميني أن المجلس العسكري على الأرجح وسيلة من وسائل تكريس “تحرير الشام هيمنتها في إدلب على حساب الفصائل الأخرى، التي سيضعف نفوذها وثقلها العسكري، خاصة مع وجود جناح داخل أحرار الشام يؤيد التماهي الكامل مع رؤية تحرير الشام بما يخص عمل المجلس العسكري”، وهذا الجناح بات يلقى دعمًا من تحرير الشام، واستأثر بتمثيل أحرار الشام ضمن المجلس العسكري، أي يمكن القول إن تحرير الشام أصبح لها ضمن المجلس العسكري صوتان مقابل صوت واحد للجبهة الوطنية للتحرير.
جدوى المجلس
“المجلس العسكري في إدلب ضرورة إستراتيجية”، هذا ما قاله مصطفى سيجري القيادي بالمعارضة السورية، لكنه أردف قائلًا: “لا بد من منع الجولاني أن يسيطر عليه، أي عرقلة الانقلاب على قيادة أحرار الشام باستحواذ الجولاني على قرار أحرار الشام يكون المجلس العسكري قد خضع له أيضًا نتيجة إضعاف تمثيل الجبهة الوطنية للتحرير”.
وتبرز جدوى هذا المجلس في المقام الأول لهيئة تحرير الشام التي تخطط أن تخلق من المجلس تمثيلًا سياسيًا لإدلب وفصائلها ويتجاوز كل المظلات السياسية السورية المعارضة وفقًا للباحث فراس فحام، ويشير فحام في حديثه لـ”نون بوست” إلى أن “الفصائل الأخرى لديها إشكالية كبيرة بطرح هيئة تحرير الشام لأنها تملك ممثلين في منصات مختلفة مثل الائتلاف السوري المعارض”.
يطمح أبو محمد الجولاني من خلال هذا المجلس أيضًا إلى تجنب المطالب المتكررة بحل فصيله، إلا أن تركيا لديها تعهدات لدول العالم وتحتاج إلى الوفاء بها ومن أبرزها “حل عقدة هيئة تحرير الشام” وفقًا لفحام الذي يرى أن أنقرة التي تحاول رسم تحولات في بنية الفصيل المتشدد تعمل على إزاحة شخصيات الصف الأول المصنفين على لوائح الإرهاب مثل أبو ماريا القحطاني ومظهر الويس وغيرهم.
إلى ذلك، تعتبر خطوة المجلس العسكري صعبة التنفيذ في الوقت الحاليّ، فلم يسبق أن نجح تحالف بين الفصائل تكون هيئة تحرير الشام طرفًا فيه، ولطالما حاولت تفتيت الأجسام التي لم تستطع الوصول إليها، غير أن الهيئة يومًا بعد يوم تحاول التقرب من تركيا والغرب أكثر فأكثر من خلال الترويج لهم بأنها الفصيل الوحيد القادر على ضبط الأمن في المنطقة لكسب النفوذ والسيطرة دون التدخل العسكري لحلها.