بلغنا سنة 2020، لكن إلى الآن لا يوجد مستشفى عصري في الجزائر يأتمن فيه قادة البلاد على حياتهم، رغم أن هذا البلد العربي يزخر بثروات كثيرة وبكادر طبي محترف، فما إن يشعر القائد بالمرض وإن كان بسيطا، حتى يسارع إلى التوجه نحو المستشفيات الأجنبية -من روسيا إلى بلجيكا إلى فرنسا إلى سويسرا- للعلاج.
قصة الرؤساء مع المستشفيات الأجنبية
نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أعلن الرئاسة الجزائرية أن الرئيس عبد المجيد تبون، دخل “طوعيا” في حجر صحي لخمسة أيام عقب الاشتباه في إصابة عدة مسؤولين كبار في الرئاسة والحكومة بفيروس كورونا، وطمأنت الرئاسة المواطنين على صحّة تبون.
بقي “تبون” في الحجر ثم نقل إلى وحدة متخصصة بمستشفى عين النعجة العسكري المركزي للجيش في العاصمة الجزائر، بعد ذلك نُقل إلى ألمانيا على متن طائرة طبية خاصة تابعة لشركة “آيرليك آير سبايس” الفرنسية الخاصة، تم استقدامها على استعجال من مدينة بوردو الفرنسية، رغم أن الحكومة الجزائرية تمتلك عدة طائرات طبية.
واقع الصحة في هذا البلد العربي الغني مازال يراوح مكانه ولم يسجل أي تقدم ملحوظ
حال وصوله إلى مطار كولونيا ـ بون ، نُقل عبد المجيد تبون البلغ 74 سنة إلى مستشفى ميرهام العسكري التخصصي في قاعدة عسكرية بمدينة “كولونيا” شمال غرب ألمانيا لتلقّي العلاج بعد ثبوت إصابته بوباء فيروس كورونا.
تبون ليس استثناء، فقبله الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة أيضا، الذي دائما ما يسافر إلى مستشفيات فرنسية، خاصة مجمع غرونوبل الصحّي، وكذلك مستشفى “فال دو غراس”، لإجراء فحوصاته الطبية، وأحيانًا عند اشتداد المرض، يُنقل إلى مؤسسة “زانفاليد الوطنية” المتخصصة في الاهتمام بالحالات الصعبة.
كما ينقل بوتفليقة أيضا إلى سويسرا للعلاج في المستشفى الجامعي في جنيف، الذي يعتبر من أفضل المشافي حول العالم، وسبق أن أمضى الرئيس المستقيل تحت ضغط الشارع، ست سنوات في المنفى السياسي في سويسرا بين 1981 و1987
الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد اختار بلجيكا كدولة تطبب وعلاج بالنسبة له، بالنظر إلى العلاقات الطيبة التي كانت تربطه بالأسرة الملكية هناك، إذ سافر منتصف الثمانينيات للعلاج هناك، كما سافر إلى هناك حتى بعد ابتعاده عن الحكم للعلاج من متاعب في الكلى كان يعاني منها منذ عدة سنوات.
وكان الرئيس الجزائري هواري بومدين أول من دشن قصة رؤساء الجزائر مع المستشفيات الأجنبية، عندما قضى فترة نقاهة في يوغوسلافيا عام 1973، ثم نقل في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 1978 إلى مستشفى في موسكو.
غياب نظام صحي متكامل
يرى البعض أن علاج الرؤساء في الخارج ليس بدعة جزائرية، وله أسباب كثيرة منها العجز المتأخر في النظام الصحي في عدة بلدان عربية وإفريقية، فالأنظمة الصحية المتواجدة جنوب العالم في الغالب هي غير مؤهلة لمعالجة الأمراض المعقدة.
لكن هذا لا يبرر تقاعس النظام الجزائري منذ الاستقلال إلى يومنا هذا في تكوين نظام صحي، وفق الصحفي الجزائري فاتح بن حمو، فقد كان بإمكان سلطات البلاد المتعاقبة منذ الاستقلال أن تبني مستشفيات عصرية تقدّم خدمات جيدة إلي القادة وصناع القرار والمواطنين أيضا لكن ذلك لم يحصل.
بدوره يقول الصحفي الجزائري رياض المعزوزي لنون بوست، قد يكون الأمر عادي لما يلجأ رؤساء الدول الفقيرة للعلاج في المستشفيات الأجنبية، لكنه من غير المنطقي والمعقول، أن يمد رؤساء الجزائر أيديهم إلى المؤسسات الصحية الأجنبية، رغم ما تملكه بلدانهم من مقومات وثروات كانت تسمح بإنشاء وبناء منظومة صحية في غاية التطور.
كل الظروف والإمكانيات المالية والبشرية، مواتية كي يكون للجزائر نظام صحي متطور يضاهي الأنظمة الصحية الأجنبية، لكن غياب الإرادة السياسية والفساد جعل الأمر من شبه المستحيلات
يتابع المعزوزي، “الرئيس عبد المجيد تبون الذي أراد أن يكسر منطق التبعية للمستشفيات الفرنسية واختار العلاج في المستشفيات الألمانية، لم يكسر التبعية الصحية للخارج، ولا أمل في الجزائر، ما دام الرؤساء والمسؤولون السامون يلجؤون للعلاج بالخارج، لأنها ببساطة رسالة تيئيس من الوضع الصحي في البلاد، سيما لما يتعلق الأمر برئيس وصف منظومة بلاده قبل أشهر على أنها الأحسن مغاربيا وإفريقيا.
وكان تبون قد قال في لقاء صحفي بثه التلفزيون الرسمي في يوليو الماضي إن بلاده “تمتلك أفضل منظومة صحية في المغرب العربي وإفريقيا، أحب من أحب وكره من كره”، مؤكّدا أن الجزائر سبقت بعض الدول الأوروبية في اتخاذ التدابير الوقائية لمكافحة فيروس كورونا.
ويقول المسؤولين في الجزائر، أن السلطات أنفقت المال الكثير طيلة العقود التي أعقبت الاستقلال لتطوير القطاع الصحي في البلاد، لكن واقع الصحة في هذا البلد العربي الغني مازال يراوح مكانه ولم يسجل أي تقدم ملحوظ.
غياب الإرادة السياسية
رغم الثروات الكبيرة التي تمتلكها الجزائر، نلاحظ أن الرعاية الصحية في بلد المليون شهيد لا تزال بعيدة عـن المستوى المطلوب مقارنة ببعض دول الجوار، نظرًا للعديد من العوامل التي أثرت سلبًا علـى مسار تطورها، ومن أهمها ضعف الاستجابة لحاجات الأفراد وغياب الرقابة واستشراء الفساد، إضافة إلى غياب الرؤية الإصلاحية لواقع الاقتصاد عامة الذي يقوم أساسًا على النفط.
وبلغت صادرات الجزائر من النفط الخام والمتكثفات النفطية خلال تشرين أول/أكتوبر الماضي، وفق بيانات اقتصادية نشرت في وقت سابق، مستويات قياسية، حيث يتم تصدير 475 ألف برميل يوميا، مقابل 313 ألف برميل يوميا خلال أيلول/سبتمبر الماضي.
ويبلغ احتياط الجزائر من النفط بلغ 1340 مليون طن، أي ما يمثل 10 مليارات برميل، لإنتاج يمتد لـ27 سنة، وفق وزير الطاقة الجزائري محمد عرقاب، فيما يبلغ احتياط البلاد من الغاز 2368 مليار متر مكعب و260 مليون طن من المكثفات.
ويؤكّد فاتح بن حمو عدم وجود الإرادة السياسية في النهوض بقطاع الصحة وكثير من القطاعات الأخرى في البلاد رغم توفّر الإمكانيات اللازمة لذلك، ذلك أن السلط الحاكمة لا تمتلك الشرعية الكافية التي تمكن صاحبها من الاستقلالية في القرار بعيدا عن الضغوطات الممارسة عليه.
يحدث هذا الأمر في وقت تصرف فيه ملايين الدولارات في مرافق يراها الجزائريون في الصف ما بعد قطاع الصحة الذي يعد أولوية يطالب بها الجميع، وفق رياض المعزوزي، ويتابع، ” قبل صرف الأموال الضخمة في تهيئة واد الحراش مثلا، أو منتجع دونيا بارك، أو المدينة الذكية سيدي عبد الله والمليئة بالعيوب، كان من الأجدر التفكير في صرح صحي بمقام الجزائر يعالج فيه الرئيس والمرؤوس، بدل رحلات العلاج المتكررة في الخارج.
ويرى فاتح بن حمو أن الاعتماد على المصحات الأوروبية لعلاج الرؤساء والقادة وحتى المواطنين في ظل غياب مستشفيات عصرية في البلاد، فيه هدر كبير للمال الوطني ومكاسب كثيرة لهذه المصحات في نفس الوقت.
كل الظروف والإمكانيات المالية والبشرية، مواتية كي يكون للجزائر نظام صحي متطور يضاهي الأنظمة الصحية الأجنبية، لكن غياب الإرادة السياسية والفساد جعل الأمر من شبه المستحيلات، حتى أضحت المستشفيات الأجنبية قبلة القادة والمواطنين الجزائريين على حدّ السواء.