تشكل منطقة وسط الأناضول 21% من مساحة الجمهورية التركية، محتلة الترتيب الثاني في مساحة الأقاليم بعد منطقة شرق الأناضول، وتتكون المنطقة من 13 مدينة، أهمها العاصمة السياسية أنقرة ومدينة قونية كبرى المدن التركية، بالإضافة إلى مدينة أسكي شهير التي تقع على الحدود مع منطقة بحر إيجة.
لعبت وما زالت منطقة وسط الأناضول أدوارًا تاريخية على طول تاريخ هضبة الأناضول بدءًا من الحضارة الحثية وصولًا إلى الدولة العثمانية والجمهورية التركية.
وسط الأناضول: عمق الإمبراطورية ورافعة الجمهورية
شكل انتصار السلاجقة في معركة ملاذكر عام 1071 نقطة التحول الأساسية في تاريخ الوجود التركي بهضبة الأناضول، إذ فتح الباب أمام القبائل التركية الراحلة للاستقرار في مدن الأناضول الداخلية التي اتخذت الدولة السلوجقية منها عواصم لدولتهم الآخذة في التمدد. اندمجت القبائل التركية مع ثقافة وتقاليد بلاد الأناضول منتجة أنماط خاصة من التدين والتسامح مستندة إلى تعاليم الدين الإسلامي والثقافة المحلية، هذا الخليط الثقافي المرتكز في تكوينه على الدين الإسلامي وبقايا الحضارة البيزنطية والثقافات المحلية لأهل الأناضول ظل المميز التاريخي لمدن الأناضول الداخلية.
ومع قيام الدولة العثمانية غرب الأناضول وتوسعها باتجاه مدن الروم في تراقيا والبلقان، شكلت الأناضول العمق الإستراتيجي الذي استندت عليه الدولة في حروبها ومواردها البشرية، أدركت الأسرة العثمانية الأهمية الكبيرة لمدن الأناضول الداخلية لكنها أدركت في الوقت ذاته خطورة قبائل الأتراك على سلامة حكم العائلة، هذا الأمر دفع آل عثمان لتهميش سكان الأناضول عن أي دور في عملية صنع القرار والسياسة، وبينما ازدهرت أنماط الحياة المدنية في مدن الإمبراطورية حافظت مدن وسط الأناضول على طابعها الريفي وطرقها الصوفية.
هذا التناقض بين آل عثمان الحكام وعموم القبائل التركية المحكومة والمستبعدة عن إدارة الدولة العثمانية وجد نهايته مع هزيمة الحرب العالمية الأولى التي تركت الإمبراطورية العثمانية عاجزة أمام شروط الحلفاء ومعاهداتهم، وبموازاة ذلك كان النقيض المقابل لمركز الإمبراطورية يراكم حطب ناره التي أشعلها مصطفى كمال ورفاقه في وجه المحتل بداية وآل عثمان نهاية، فكما يمكن قراءة الحركة الوطنية كحركة مضادة للاحتلال الأجنبي، يمكن كذلك قراءتها في ضوء تناقض تاريخي بين آل عثمان والقبائل التركية.
لاحقًا انتقل مركز الثقل السياسي من العاصمة إسطنبول إلى مدينة أنقرة في وسط الأناضول، لكن علاقة الجمهورية ونخبها مع الأناضول وأهلها سرعان ما تعرضت للانتكاس، لتعود الأناضول إلى خانة الطرف على مستوى السياسة والاقتصاد بل والثقافة بعد أن شكلت الرافعة الأساسية التي قام عليها مشروع الجمهورية التركية، لكن ديناميكيات التفاعل بين أطراف الجمهورية ومراكزها استمرت في الدوران والتفاعل على مدار مئة عام من عمر حركة الجمهورية.
قونية وأنقرة: العاصمة السياسية والدينية
ظلت مدينة أنقرة لسنوات الحرب العالمية الأولى قرية صغيرة يعيش فيها مجتمع متنوع من المسلمين والأرمن واليهود وتمر منها سكة حديد تبدأ من محطة حيدر باشا في الجزء الآسيوي من مدينة إسطنبول وتنتهي في بغداد والحجاز، كما ترتبط مع مدن البحر الأسود ومدن الأناضول الأخرى بمجموعة من الطرق البرية الوعرة.
هذا الموقع الإستراتيجي الذي يجمع بين المتعة والتوسط دفع مصطفى كمال إلى اتخاذها عاصمةً مؤقتةً سرعان ما تحولت إلى دائمة، فرغبة قادة الحركة الوطنية التركية كانت منصبة على إيجاد مدينة تقع على خط السكة الحديد، ووقعت أعينهم في البداية على مدينة أسكي شهير لكن قربها من خطوط الجبهة مع اليونانيين صرف نظرهم باتجاه أنقرة، غير هذا القرار وجه المدينة فتحولت بين ليلة وضحاها من قرية صغيرة إلى عاصمة ناشئة استقطبت ملايين الأتراك من مختلف مناطق الجمهورية.
إلى جوار العاصمة السياسية للجمهورية تقف مدينة قونية عاصمة المحافظين الأتراك التي شكلت مركزًا دينيًا وسياسيًا مهمًا في هضبة الأناضول، وتتميز المدينة بكثرة مساجدها التاريخية، ففيها يرقد المتصوف المشهور جلال الدين الرومي وفيها تنشط عدد من الطرق الصوفية، ويتميز سكانها بالطابع المحافظ على المستوى الاجتماعي والديني.
أما على المستوى السياسي فشكلت المدينة المعقل التاريخي للحركة الإسلامية في تركيا، ففيها فاز أربكان للمرة الأولى بعضوية البرلمان وبسبب توجهاتها المحافظة تعرضت المدينة للتضييق الأمني والسياسي من مؤسسات الدولة الأمنية في الفترة التي سبقت تولي حزب العدالة والتنمية الذي تصوت المدينة لصالحه بصورة كبيرة.
مما سبق يتضح أن منطقة وسط الأناضول تجمع مدينتين متناقضين: الأولى أنقرة العاصمة السياسية التي بنيت لتكون عاصمة الجمهورية العلمانية والثانية مدينة قونية التي حافظت على هويتها الدينية المحافظة مشكلة هوية مقاومة ومضادة للهوية الساعية الجمهورية لفرضها.
الاقتصاد
يعتمد اقتصاد منطقة وسط الأناضول على بنية صناعية وزراعية متقدمة، فعلى المستوى الزراعي تشكل الأراضي المزروعة ثلث مساحة المنطقة، ومع ذلك تعاني هذه المساحات من تحديات عديدة مرتبطة بالجفاف والتصحر.
ومن أهم المنتجات الزراعية في المنطقة الحبوب، وعلى رأسها القمح الذي يشكل 31% من الإنتاج الزراعي للمنطقة والشعير الذي يشكل 39% من الإنتاج، وإلى جوار ذلك تنتج المنطقة البقوليات كالعدس والفاصوليا، كما تشتهر بإنتاج البطاطس وخاصة في مدينة نيدا ونيف شهير، كما تنتج كميات كبيرة من بنجر السكر وخاصة في مدينة أكسراي وقونية وأسكي شهير.
تزدهر في المنطقة كذلك تربية الحيوانات وخاصة ماعز أنغورة الذي تعود أصوله لمدينة أنقرة حيث تحتوي المنطقة على 78% من هذا النوع، وتساعد وفرة المراعي الطبيعية في تنمية تربية الحيوانات.
تشهد المنطقة في الفترة الأخيرة ازديادًا في حجم الاستثمارات الزراعية وخاصة في سهل مدينة قونية، وساهمت إجراءات الدولة الداعمة للقطاع الزراعي في توجه المستثمرين الأجانب للاستثمار في هذا القطاع.
تمتلك المنطقة قطاعًا صناعيًا قويًا يستند على عدد كبير من مصانع السيارات وقطع الغيار وصناعة الأسمنت والصناعات الغذائية وصناعة الأثاث المزدهرة في المنطقة، كما تحتوي المنطقة على عدد من مصانع السلاح والصناعات الدفاعية بالإضافة إلى مصانع النسيج والسجاد.
وعلى رأس الأسباب التي تجعل القطاع الصناعي مزدهرًا، رغبة الدولة التركية في توزيع عمليات التنمية وعدم قصرها على مناطق الغرب، بالإضافة إلى توافر الأيدي العاملة والمساحات الملائمة والأهم وجود شبكة مواصلات قادرة على ربط مناطق وسط الأناضول بمنافذ التصدير.
والى جوار ذلك لعبت ظاهرة “نمور الأناضول” دورًا اساسيًا في تطور ونمو القطاع الصناعي في المنطقة، وترجع جذور الظاهرة لسنوات طويلة في مدن الأناضول التي شهدت ازدهار عدد من الأعمال الحرفية الصغيرة التي استمرت لعدد من الأجيال ومع النهضة الصناعية التي شهدتها تركيا منذ نشأة الجمهورية بدأت هذه الأعمال بالتوسع لتصل إلى ذروتها مع الأجيال الثانية من أبناء الجمهورية الذين نالوا تعليمًا غربيًا وبدأوا في تحويل أعمالهم الصغيرة إلى شركات كبيرة ازدهرت مع سياسات الرئيس الراحل تورغوت أوزال الاقتصادية القائمة على تشجيع الصادرات.
لاحقًا لعب نمور الأناضول دورًا مهمًا في تطوير عدد من القطاعات الاقتصادية في تركيا كالصناعات الدفاعية والأثاث والإنشاءات والنسيج وغيرها.
السياحة التاريخية في المنطقة
من أهم المعالم السياحية في منطقة وسط الأناضول منطقة كبادوكيا بالقرب من مدينة نيف شهير، وتحتوي المنطقة على معالم أثرية تعود إلى عصر الإمبراطورية الحثية، وتشكل المنطقة الآن مقصدًا لفئات كثيرة من السياح من مختلف دول العالم.
تحتوي مدينة جوروم على آثار عاصمة الإمبراطورية الحثية “هاتوشا” التي صنفتها اليونيسكو في قائمة التراث الإنساني العالمي، أما مدينة أنقرة فتضم عددًا من المعالم التاريخية المرتبطة بتاريخ الجمهورية التركية كضريح مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال، بالإضافة إلى حي بي بازاري التاريخي الذي يتميز بمعماره الفريد.
تشتهر مدينة قونية بخاناتها وحماماتها التاريخية، حيث شكلت المدينة نقطة مهمة على خطوط المواصلات في الأناضول، كما تشتهر المدينة بمساجدها التاريخية كمسجد علاء الدين الذي بني في العهد السلجوقي، بالإضافة إلى مرقد مولانا جلال الدين الرومي الذي أُلحق به متحف خاص بمولانا أنشئ في سنوات الجمهورية الأولى.
ختامًا، نجحت منطقة وسط الأناضول خلال العقود الماضية في التحول من منطقة زراعية تسود فيها حياة الريف إلى منطقة صناعية رائدة، ومع ذلك حافظت على طابعها التركي الإسلامي المحافظ، كأنها بذلك تمارس وظيفتها التاريخية كعمق ثقافي وإستراتيجي لهضبة الأناضول.
ففي الوقت الذي تمارس فيه مدن الساحل دورها في التواصل والتأثير والتأثر بالمدن والثقافات الأخرى، تتحصن مدن الأناضول الداخلية خلف قيمها المحافظة وتراثها الثقافي الممتد على طول تاريخ الأناضول.