تداعيات عملية نيس الإرهابية ما زالت إلى الآن تُلقي بظلالها على الصعيد الداخلي لفرنسا والخارجي في علاقتها بدول جنوب المتوسط، وسط مخاوف من تبعاتها وتأثيراتها السلبية على واقع المهاجرين عامة وغير النظاميين على وجه الخصوص، وإمكانية حصول انتهاكات ضد المهاجرين وتضييق الخناق عليهم وفرض إعادة ترحيلهم قسريًا إلى بلدانهم.
وفي هذا الاتجاه، تتنزل الزيارة الرسمية التي من المقرر أن يقوم بها وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان هذا الأسبوع إلى تونس، على اعتبار أن موضوعي الهجرة غير النظامية والتعاون الأمني لمكافحة الإرهاب يتصدران جدول أعمال اللقاءات المبرمجة.
زيارة وزير الداخلية الفرنسي جيرالد درامانان إلى تونس في أعقاب الهجوم الإرهابي الدموي الذي هز مدينة نيس على يد متشدد تونسي، بعد أيام فقط من مقتل المدرس صامويل باتي في ضواحي باريس، تكتسي أهمية كبيرة حيث سيلتقي خلالها بنظيره التونسي ومسؤولي أجهزة الأمن والاستخبارات ويُمكن أن تفضي إلى اتفاقات جديدة أو تُحيي تفاهمات قديمة.
مؤشرات
زيارة المسؤول الأول عن الأمن الفرنسي بإيعاز من الرئيس إيمانويل ماكرون في هذا الوقت تحديدًا تؤشر إلى تفاهمات جديدة بين البلدين ترتبط بمكافحة الإرهاب وملف الهجرة الشائك وعمليات الترحيل المتوقعة لمهاجرين تونسيين مقيمين بشكل غير قانوني، وأساسًا الذين يشكلون مخاطر أمنية على باريس، حيث أكد وزير الداخلية جيرالد درامانان أن الرئيس الفرنسي ”تحدث مع نظيريه التونسي والجزائري، لنتمكن من التوافق على إعادة عدد معين من الأشخاص يحملون جنسية هاتين الدولتين ويُشتبه في أنهم متطرفون في بلدنا”، مضيفًا “هناك 231 أجنبيًا يقيمون بطريقة غير شرعية على الأراضي الفرنسية متهمون بالتطرف ويجب طردهم، من بينهم 180 معتقلًا في السجن حاليًّا”، كما كشف الوزير عن تسجيل 851 مهاجرًا غير شرعي في ملف الإنذارات لمنع التطرف.
يبدو أن جدول أعمال زيارة وزير الداخلية الفرنسي إلى تونس، تم تحيينه لتشمل تفعيل التعاون الأمني في مجال مكافحة الهجرة غير النظامية
ما يلفت الانتباه، هو الزخم الذي رافق الإعلان عن هذه الزيارة المرتقبة والضجة الإعلامية التي تصاعدت بعد عملية نيس الإرهابية، فأغلب وسائل الإعلام الفرنسية عملت على تضخيم الحدث ونتائجه المنتظرة حتى قبل وقوعها، ما يفسر على أنها – أي الزيارة – خطوة جديدة من الإيليزيه لمزيد من فرض ضغوطات إعلامية وسياسية على دول شمال إفريقيا وخاصة تونس على اعتبار أن منفذ العملية الإرهابية تونسي الجنسية.
من جهة أخرى، يبدو أن جدول أعمال زيارة وزير الداخلية الفرنسي إلى تونس، تم تحيينه لتشمل تفعيل التعاون الأمني في مجال مكافحة الهجرة غير النظامية وذلك على حساب مقاربات مختلفة لهذا الملف تركز على الجانب التنموي والاجتماعي وتشجع على الهجرة المنظمة، على غرار ما تضمنته اتفاقيات هجرة تم توقيعها بين تونس وفرنسا وأخرى بين تونس والاتحاد الأوروبي، لكن لم يحترمها الجانب الفرنسي وظلت حبرًا على ورق.
وهو ما يُفسره ضبابية بيان الرئاسة التونسي بشأن الزيارة المرتقبة لوزير الداخلية الذي جاء مخالفًا لبيان الرئاسة الفرنسية ولم يشر أساسًا إلى عملية “تسهيل ترحيل التونسيين من فرنسا”، واكتفى بالإشارة إلى أن الرئيسين ماكرون وسعيد بحثا “قضية الهجرة غير الشرعية وإيجاد حلول مشتركة للتعامل مع هذه الظاهرة التي تتفاقم بين الحين والآخر بهدف تحقيق أغراض سياسية”.
موقف هش
واقعيًا، عملية نيس الإرهابية الأخيرة لن تؤثر في العلاقات الفرنسية التونسية التي تتشابك فيها المقومات الثقافية والاقتصادية وحتى السياسية كثيرًا، فباريس تعلم جيدًا أنها بحاجة إلى مستعمراتها القديمة وخاصة دول شمال إفريقيا مركز نفوذها الإقليمي، وأن تونس سوق مفتوحة لا تنافسها فيه أي دولة رغم دعوات التونسيين لفض الشراكة في أكثر من مناسبة، لذلك فإن الزيارة لا تعدو أن تكون إلا ورقة ضغط قوية بيد الإيليزيه للتفاوض على أكثر من ملف.
زيارة وزير الداخلية الفرنسي لتونس ستحمل 3 ملفات رئيسية أهمها مكافحة الإرهاب وإعادة المرحلين والهجرة السرية، ويتعلق الأول بالتحقيقات التي تُجريها تونس عن منفذ عملية نيس إبراهيم العيساوي وما إذا كان المشتبه به على علاقة بشبكة إرهابية ذات تفرعات في المنطقة، أما الثاني فمرتبط بإمكانية استجابة تونس لإعادة مواطنيها التي تتعلق بهم شبهة الإرهاب أو من قضوا فترة سجن في قضايا مشابهة، فيما يتلخص الملف الثالث وهو الأهم في مكافحة الهجرة السرية نحو فرنسا وإيطاليا.
يعتقد مراقبون أن ملف ترحيل العشرات من المتهمين بالتطرف ممن يحملون الجنسية التونسية من فرنسا سيكون على رأس جدول أعمال وزير الداخلية الفرنسي في تونس، وسيكون الملف الأكثر تعقيدًا في محادثاته مع المسؤولين الأمنيين في تونس، وهو ما يجدد الجدل بشأن ملف إعادة الإرهابيين التونسيين في الخارج.
أمّا فيما يخص الموقف التونسي، فيمكن التنبؤ به من خلال تفكيك وتحليل سياسة الرئيس التونسي قيس سعيد تجاه الأحداث الأخيرة التي وقعت في فرنسا بداية من الرسوم المسيئة للنبي الكريم وصولًا إلى العملية الإرهابية التي هزت مدينة نيس، وتجلت بوضوح من خلال بيانات وزارة الخارجية.
يعود اقتصار تونس على المنوال الأمني في تعاطيها مع الملف، إلى عجز الدولة عن طرح برامج متكاملة تراوح بين المقاربة الأمنية والتنموية
في قضية رسوم مجلة شارلي إيبدو التي أثارت جدلًا عربيًا ودوليًا تجسم في بيانات وتصريحات منددة ومستنكرة لسياسات باريس المشجعة على استهداف الرموز الدينية وخاصة المسلمين، كان بيان تونس الذي صدر بعد صمت طويل وكأنّه نُشر على مضض لرفع الحرج على ساكن قرطاج، فجاء فارغًا وجاف المحتوى أدانت من خلاله تونس على استحياء المس بالمقدسات الذي يرتكبه به “بعض الأطراف”، متجنبًا نقد سياسة باريس وذكر فرنسا أو رئيسها ماكرون.
في مقابل ذلك، اختلفت ردة الفعل التونسية في حادثة نيس، حيث جاء بيانها صريحًا واضحًا ودقيقًا سمى الأسماء بمسمياتها وحاملًا أقوى عبارات التنديد والتضامن مع الشعب الفرنسي في محنته، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بأن العملية تأتي في سياق إرباك الوضع الفرنسي الداخلي.
فيما يتعلق بالمفاوضات المتوقعة بين الجانبين التونسي والفرنسي، يُمكن القول إن البلد العربي لا يملك من أمره إلا التعامل وفق الحل الأمني سواء لمواجهة الخطر الإرهابي أم لمكافحة الهجرة غير الشرعية، وهي سياسة متوارثة منذ نظام بن علي واعتمدها الرئيس الحاليّ قيس سعيد، والأخير اعتمد هذه المقاربة بقوة عقب مفاوضاته مع الإيطاليين في وقت سابق، وأفضت إلى عودة مئات المرحلين.
يعود اقتصار تونس على المنوال الأمني في تعاطيها مع الملف، إلى عجز الدولة عن طرح برامج متكاملة تراوح بين المقاربة الأمنية والتنموية، وتجمع بين آليات مختلفة تشمل الثقافة والتعليم والدين وهي حلول طويلة المدى، وإلى عجز الحكومات المتعاقبة بعد ثورة 14 يناير على فرض الاستقرار السياسي وغياب رؤية وإستراتيجية واضحة للتعامل مع قضايا الهجرة غير الشرعية والإرهاب الذي أصبح عابرًا للحدود.
ملف بملف
على خلاف تونس، فإن زيارة المسؤول الفرنسي للجزائر ستكون مغايرة تمامًا لعدة أسباب سياسية واجتماعية، فعلاقة باريس ببلد المليون ونصف شهيد تعرف في الآونة الأخيرة توترات على جميع الأصعدة، وهو أمر تُفسره عدد الزيارات (3 في عام) التي أجراها وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى الجزائر آخرها كان في 15 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وتصريحات المسؤولين بشأن تدخلات باريس في الشأن الداخلي وصل إلى حد استدعاء السفير الجزائري للتشاور على خلفية التقارير التي بثتها قنوات فرنسية عن الحراك الشعبي.
وفي ذات السياق، يُمكن وصف المفاوضات المرتقبة بين المسؤولين الفرنسيين والجزائريين بالعسيرة وأنها لن تفضي إلى توافقات أو اتفاقات لعدة أسباب أولها غياب الرئيس عبد المجيد تبون عن البلاد (التداوي في ألمانيا)، والعلاقات المتسممة بينهما بفعل الملفات الثقيلة كإشكال مخلفات الاستعمار (جماجم المقاومين) والتعويضات.
وتصطدم باريس بعوائق أخرى تمنعها من فرض أجندتها على الجزائر كالاقتصاد والمبادلات التجارية، ففرنسا تسعى بكل قوتها إلى استرجاع مكانتها كشريك رئيسي التي تنازلت عنها لصالح الصين الصاعدة بقوة، وسيكون ملف أملاك النظام الجزائري السابق وأصولهم موضع مقايضة، فالجزائر أعلنت في وقت سابق أن لا مجال لاستقبال 40 ألف مواطن تعتزم باريس ترحيلهم.
على الصعيد الأمني، ستجد أسئلة وزير الداخلية الفرنسي المتعلقة بالهجرة والإرهاب أسئلة مضادة وأكثر حدة، فالجانب الجزائري سيطالب فرنسا بتفسيرات تتعلق بقضية تمويل الإرهاب عن طريق دفع الفدية وتبادل 208 إرهابيين مع رهائن بينهم مواطنة فرنسية، كما حدث مؤخرًا في صفقة مالي، ما دفعها إلى انتقاد باريس بحدة خاصة بعد تمكنها من القبض على الإرهابي مصطفى درار.
الاستثمار في الإرهاب
لا شك أن هذه الزيارة تعتبر مناورات وحركة دبلوماسية لتسجيل نقاط أكثر منها موقف سياسي، وتأتي أولًا في سياق سياسي محلي منقسم مع أطروحات اليمين المتطرف وباقي مكونات الأحزاب المؤثرة في فرنسا، وضمن محاولات ماكرون لإخماد صوت المعارضة التي تكاثرت في فرنسا ضد سياسته تجاه المهاجرين.
هذه النقاط ستتجاوز حتمًا المجال الجغرافي الفرنسي لتشمل مراكز نفوذها التاريخي وهي الضفة الجنوبية من المتوسط وخاصة تونس والجزائر التي ترتبط معهما في أكثر من محور اقتصادي وسياسي وثقافي، وخاصة في مجال الهجرة غير الشرعية الذي بات يرهق كاهل القارة العجوز، ففرنسا ومن ورائها أوروبا تنظر إلى دول الجنوب على أنها البوابة الأولى لمنع المهاجرين وأن تلك البلدان يجب عليها أن تتولى مسؤولية الدفاع عن الحدود “حراس أوروبا”.
ومن هذه الزاوية، ستحاول باريس توظيف الحادثة الإرهابية بنيس لممارسة المزيد من الضغط على تونس من أجل التعاون في قضايا الترحيل القسري ومراقبة الحدود وإنشاء منصات إنزال للمهاجرين وتكريس المقاربة الأمنية في قضايا الهجرة، وستعمل أيضًا على ممارسة بعض الضغوط السياسية وإغراءات اقتصادية في شكل مساعدات، معتمدة في ذلك على ضعف الدولة التونسية المتمثلة في رأس السلطة (الرئاسة) وعلى تنازلات قيس سعيد الأخيرة في أثناء زيارته لباريس واعتباره الاحتلال حماية لا تستوجب التعويضات، وستراهن أيضًا على تصريحاته الأخيرة التي ساهمت في فك عزلة ماكرون الدولية.
هجوم نيس جاء بعد أيام فقط من زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان لتونس وإعلانه عن حزمة مساعدات طبية ومالية
فرنسا تراهن أيضًا في مفاوضاتها على ورقة الاقتصاد على اعتبار أنّ تونس تُعاني أزمة حادة عمقتها جائحة كوفيد-19 وهي بحاجة إلى شريكها الرئيسي، ففرنسا تعد السوق السياحية الأولى والشريك التجاري الأول، حيث تعمل أكثر من 1400 شركة في تونس بطاقة تشغيل تعادل 140 ألف عامل، بحسب بيانات وزارة الخارجية الفرنسية، كما يعيش أكثر من 20 ألف فرنسي في تونس.
الجدير بالذكر أيضًا أن هجوم نيس جاء بعد أيام فقط من زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان لتونس وإعلانه عن حزمة مساعدات طبية ومالية وصرف قسط أول من قرض بقيمة 350 مليون يورو لدعم الإصلاحات في الديمقراطية الناشئة.
مخاوف حقوقية
دعا بعض السياسيين التونسيين إلى عدم القبول بأن تصبح تونس منفى للجرائم الإرهابية، وما على السلطات الفرنسية إلا أن تطبق قوانينها على كل من يهدد أمنها واستقرارها، داخل أراضيها لا في مستعمراتها القديمة، وذلك في وقت يحذر المراقبون من أن عجز السلطات الفرنسية عن إثبات تهم جنائية أو إرهابية ضد بعض مواطنيها أو المقيمين فيها والاكتفاء بمجرد الاشتباه لإدانتهم، هو الذي يدفعها للبحث عن حل خارج حدودها وبالتالي بعيدًا عن المجال الترابي لقانونها.
وفي الإطار ذاته، يرى البعض الآخر أن طرح باريس لإجراء الترحيل هو تهديد لكل المسلمين في فرنسا وبأن باستطاعتها اتخاذ إجراءات تعسفية في حقهم بعيدًا عن رقابة القانون الفرنسي، وعليه فإن السلطات التونسية إذا وافقت على ذلك فستكون شريكة في جريمة يعاقب عليها القانون الدولي.
يأتي هذا التوجه من خوف نشطاء حقوق الإنسان والمدافعون عن حرية التنقل أن يتحول هجوم نيس إلى ذريعة لشن حملة ترحيل جماعية، ومن ثم يؤخذ الآلاف من التونسيين المخالفين لقانون الإقامة بجريرة المتطرفين، إضافة إلى خوفهم من عمليات ترحيل مكثفة ومزيد من القيود على الهجرة والمهاجرين القادمين من تونس، أو حتى أولئك الذين يملكون إقامات دائمة في فرنسا.
وبتلك المعطيات، يخشى النشطاء أيضًا من احتواء الحكومتين الإيطالية والفرنسية للضغوط الداخلية بفرض إجراءات جديدة ضد المهاجرين، مثل الترحيل القسري، والأسوأ أن يتحول الترحيل إلى إجراء إداري وليس قضائيًا كما ينص على ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
بالمحصلة، يُمكن القول إن الزيارة المرتقبة لوزير الخارجية الفرنسي إلى تونس والجزائر لن تحمل جديدًا إلا المراهنة على الرئيس التونسي قيس سعيد الذي يسعى إلى تثبيت تبعية بلاده لباريس، ودون ذلك فهي مجرد توصيات بضرورة التعاون في المجالين الأمني والاستخباراتي، وتعزيز لأواصر روابط الصداقة المعتادة بين الشطرين الشمالي والجنوبي للمتوسط، لكنها أيضًا تذكير بمشروع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي للهجرة الانتقائية الذي يقوم أساسًا على قول “نعيد لهم المهاجرين غير الشرعيين قسريًا ونأخذ منهم زبدة مجتمعاتهم، الأطباء والمهندسين”.