بين إعلان المرشح الديمقراطي جو بايدن فوزه – الاستباقي- في الانتخابات الرئاسية التي تشهدها الولايات المتحدة حاليًا ورفض الرئيس الحاليّ، الجمهوري، دونالد ترامب نتيجة هذا الماراثون، واصفًا النظام الانتخابي بـ “الفاسد”، ومتهمًا القائمين عليه بـ “التزوير”. ومع استمرار عملية فرز الأصوات في بعض الولايات الحاسمة خرج أنصار المرشحين للتظاهر في شوارع المدن الأمريكية، فيما حبس الملايين من الشعب أنفاسه في انتظار ما ستسفر عنه ساحات الحسم القادمة.
حالة من الغليان تخيم على الأجواء مع اقتراب المرشح الديمقراطي من حسم الانتخابات لصالحه، فيما يتوعد الجمهوري باللجوء إلى القضاء واستنفار الشارع ضد النتائج الأولية المعلنة بحسب وسائل الإعلام الأمريكية المنسوبة للطرفين، لتدخل البلاد معركة جديدة من تكسير العظام المتبادل تحت شعار “معركة الإعلان والاعتراف”.
وفي سياق التصعيد المتبادل، تظاهر أنصار بايدن في عدة ولايات، أبرزها نيويورك وأوهايو وماساتشوستش وشيكاغو، للمطالبة بفرز جميع الأصوات الانتخابية منددين بدعوات ترامب وحملته وقف عمليات الفرز واحتساب الأصوات الحالية، وفي المقابل خرج أنصار الرئيس المنتهية ولايته في ميتشغان للمطالبة بوقف عد أصوات الولاية استجابة لمطالب مرشحهم.
لم تكن حالة الفوضى التي خيمت على المشهد مستغربةً على المراقبين، فالإرهاصات الأولى لهذا السيناريو قد فرضت نفسها مبكرًا مع تلويح ترامب منذ البداية بضمان العبور لولاية ثانية، وأن الاحتمال الوحيد للحيلولة دون ذلك أن يكون هناك تزوير لإرادة الناخبين، تعززت بخطاب النصر المبكر الذي استبق به النتائج ليعلن فوزه قبل الانتهاء من عملية الفرز، وصولا إلى إعلان بايدن هو الأخر بأنه حصل على الأصوات التي تؤهله لكرسي الحكم.
وبعيدًا عن النتائج النهائية لتلك المعركة الانتخابية التي حشد فيها كل طرف كافة أوراق الضغط الممكنة لتحقيق الفوز، فإن المخاوف من خروج الوضع عن السيطرة تتصاعد ساعة تلو الأخرى، فيما أعربت بعض الصحف وفي مقدمتها “بولتيكو” عن قلقها من نشوب ما أسمته “حرب أهلية” حال خسارة أي طرف لا سيما وأن كليهما ينظر لهذا المعترك على أنه مسألة حياة أو موت، فإلى أين تسير الأمور؟
بايدن يؤكد فوزه وترامب يرفض
أعلن جو بايدن أنه حصل على ما يكفي من الأصوات للفوز بالرئاسة، وأمام مجموعة من أنصاره قال “من الواضح أننا نفوز في ولايات بما يكفي لتحقيق 270 صوتا من المجمع الانتخابي” موجهًا حديثه لحملة ترامب الرافضة لاستكمال فرز الأصوات قائلا “ولن نقبل بإسكاتنا وانتصاري هو انتصار للديمقراطية الأميركية”.
رفض ترامب النتائج المعلن عنها إعلاميًا، ملمحًا إلى شبهة تزوير ألمت بالعملية الانتخابية
وعن تفاصيل الإعلان عن هذا الفوز المبكر قبل إعلان النتائج الرسمية أضاف المرشح الديمقراطي “هوامش فوزي في ولايتي ويسكونسن وميشيغان أكبر من هوامش فوز ترامب فيهما خلال الانتخابات السابقة”، مؤكدًا في الوقت ذاته أنه حصد أغلبية الأصوات وبفارق كبير عن منافسه الجمهوري “لدينا 3 ملايين فارق في التصويت الشعبي”.
وأشار المرشح القريب من الفوز إلى أن أكثر من 150 مليون ناخب أميركي أدلوا بأصواتهم من أجل حكومة منبثقة من الشعب، داعيًا الجميع إلى ما سماه “التخلي عن لغة الحملات الانتخابية” والانتصار لمصلحة البلاد العليا وعدم التعامل مع المعارضين كأعداء، موجهًا رسالة للجمهوريين قال فيها “خلافاتنا لا تعني أننا أعداء وفي حال فوزي سأكون رئيسًا لكل الأميركيين”.
وفي الجهة الأخرى رفض ترامب النتائج المعلن عنها إعلاميًا، ملمحًا إلى شبهة تزوير ألمت بالعملية الانتخابية، حيث قال في تغريدة له “كنت متقدما أمس في ولايات مهمة ثم بدأت هذه الولايات في الاختفاء بشكل سحري” فيما حذر محاميه رودي جولياني “تزوير نتائج الانتخابات هو ما يحصل الآن لكننا لن نسمح بحدوث ذلك” وتابع “هناك حالات خروقات في فرز الأصوات في ويسكونسن ونيفادا وميشيغان”.
وكان ترامب استبق النتائج بالإعلان عن فوزه من خلال كلمة مقتضبة له أشار فيها إلى أنه يتجه نحو ولاية رئاسية ثانية، فيما تلقى التهاني من أنصاره بهذا الفوز، وذلك عقب تغريدته التي أعلن فيها فوزه بولاية ميشيغان، بالإضافة إلى جورجيا وبنسلفانيا ونورث كارولينا وهي الأصوات التي ربما تضمن له تجاوز الـ 270 صوتًا داخل المجمع الانتخابي، لكن موقع التواصل “تويتر” رد على تلك التغريد بوضع إشارة تحذيرية عليها “لتضمنها معلومات قد تكون مضللة”.
وفي محاولة لاستباق النتائج أكدت حملة المرشح الجمهوري أنها ستطلب إعادة إحصاء الأصوات في ولاية ويسكونسن، والتي كان بايدن متقدمًا فيها بشكل طفيف بحسب الحملة، فيما أوضح مدير الحملة بيل ستيبين في بيان له “وردت تقارير عن مخالفات في عدة مقاطعات بويسكونسن مما يثير شكوكًا جادة بشأن صحة النتائج” وأضاف “الرئيس تخطى بفارق كبير مستوى الأصوات الذي يسمح له بطلب إعادة الإحصاء وسنفعل ذلك على الفور”.
سيناريو 2000
ما أشبه الليلة بالبارحة، فما تشهده الساحة الأمريكية الساعات الماضية يعيد الأجواء إلى ماكان عليه المشهد قبل 20 عامًا، حين اجتمع قيادات الحزب الجمهوري في فندق الفورسيزون بمنطقة أوسطن بولاية تكساس، للاحتفال بطريقتهم الخاصة بفوز مرشحهم جورج دبليو بوش، وذلك قبل الإعلان رسميًا عن نتائج الانتخابات.
إن التزمت المحكمة بإعادة فرز الأصوات مرة أخرى فإن هناك متسع كبير بين المرشحين لصالح بايدن
الكاتب الأمريكي ريتشارد وولف في مقاله بصحيفة “الغارديان” يستعرض أوجه الشبه والاختلاف بين انتخابات 2020 وانتخابات 2000، فأجواء التشكيك تخيم على الجولتين، هناك ضغط الديمقراطيون لأجل إعادة أصوات ولاية فلوريدا وذلك بعد ادعاءات شبهة فساد في عملية الفرز لصالح المرشح الجمهوري.
أفسد هذا التشكيك فرحة الجمهوريين بالفوز، ورغم تأييد حكم المحكمة وقتها لما أُعلن بشأن فوز بوش، إلا أن الجميع كان على صفيح ساخن – يتساوى في ذلك الجمهوريون والديمقراطيون -، في انتظار مراحل العد التي جاءت بمثابة الطعنة في ظهر الديمقراطية الأمريكية.
الأمور اليوم تسير في الطريق ذاته مع تبادل الأدوار، فحملة ترامب الجمهوري تطالب بإعادة فرز الأصوات في إحدى الولايات فيما أعلن الديمقراطيون فوز مرشحهم قبيل الإعلان الرسمي، وتتجه الأمور بنسبة كبيرة إلى تكرار سيناريو انتخابات 2000، سواء في الإجراءات أو النتائج.
الكاتب الأمريكي يرى أنه وحتى إن التزمت المحكمة بإعادة فرز الأصوات مرة أخرى فإن هناك متسع كبير بين المرشحين لصالح بايدن، الأمر الذي يجعل النتيجة المتوقعة لهذا الإجراء ربما تقليل الفارق في عدد الأصوات لكن من المستبعد أن يكون لها دورًا في تحديد هوية الفائز في الانتخابات إجمالا.
اللجوء للمحكمة العليا.. 4 تساؤلات
تشكيك ترامب في نزاهة العملية الانتخابية رغم أنها المرة الاولى في تاريخ البلاد منذ أول رئيس لأمريكا (جورج واشنطن) عام 1789م وتلويحه باللجوء إلى المحكمة العليا يدفع إلى التساؤل عن الأسانيد القانونية لتلك الخطوة وما يمكن أن يتمخض عنها من نتائج.
صحيفة لوباريزيان “Le Parisien” الفرنسية استعرضت هذه المعضلة من خلال 4 تساؤلات تكشف من خلالها النقاب عن كواليس هذا التحرك، الأول يتعلق بالتهديد الخاص باللجوء إلى المحكمة، لافتة إلى أن بايدن كان البادئ بالتهديد حينما أظهر تفاؤله بالفوز قبيل الإعلان الرسمي، مبديًا تخوفه من الهزيمة بفعل فاعل.
ولم يتاخر الرد سريعًا حيث انضم ترامب هو الأخر لقائمة المهددين، وذلك من خلال موقفين مختلفين، الأول حين اتهم بايدن في تغريدة بأنه ينتوي سرقة الانتخابات، والثانية حين أعلن الفوز مبكرًا قائلا “لقد فزنا في هذه الانتخابات، هدفنا الآن هو ضمان نزاهة الاقتراع. نريد أن يتم تطبيق القانون بشكل صحيح. سنذهب إلى المحكمة العليا. سوف نفوز، بل أعتقد أننا فزنا بالفعل”.
أما السؤال الثاني فكان: لماذا يستهدف ترامب التصويت عبر البريد؟ وهنا أشارت الصحيفة إلى أن التصويت عبر البريد هي استراتيجية التصويت المفضلة للديمقراطيين مقارنة بالجمهوريين، زاد من وطأة الأزمة الظروف الناجمة عن فيروس كورونا المستجد والتي زادت من الإقبال على تلك الاستراتيجية التي يتفوق فيها أنصار بايدن بلا شك.
ساعات قليلة تحدد هوية الرئيس الأمريكي القادم، وسط حالة من الجدل والسجال الإعلامي والسياسي
وهنا استقر في يقين ترامب أن الأصوات القادمة عبر البريد دفعة كبيرة لتقريب منافسه من البيت الأبيض، وعليه سارع من أجل إلصاق تهم التشكيك فيها، منوهًا أنها “تفتح الطريق أمام كل أنواع الغش وتؤجل النتائج” وفي المقابل أصرت حملة المرشح الديمقراطي على فرز كافة الأصوات قبيل إعلان النتائج.
فيما جاء التساؤل الثالث الذي طرحته الصحيفة الفرنسية تحت عنوان “على أي أساس يريد ترامب اللجوء إلى المحكمة العليا؟” وقد استندت الصحيفة في الإجابة عنه برأي الأكاديمي المحاضر في جامعة باريس، إريك برانا، الذي قال إن”ترامب ما كان ليصدر هذا الإعلان باللجوء للمحكمة العليا لو كان يعتقد أنه سيفوز، وهو بذلك يقدم كل ما لديه لأنه يريد بأي ثمن منع الولايات المتأرجحة من إكمال عد الأصوات، وما دام قد أعلن ذلك فإنه سينفذه”.
وهنا سؤال ضمني أخر: هل يكون الطعن على أصوات كافة الولايات؟ بمعنى هل يمكن للمحكمة أن تعيد فرز أصوات كل الولايات أم ولايات بعينها؟ وهنا تجيب أستاذة الحضارة الأميركية في جامعة تولوز، فرانسواز كوست، قائلة بأن الإجابة لا، معللة ذلك بأن “المحكمة العليا في الولايات المتحدة، لا يمكن اللجوء إليها للطعن -خلال المرحلة الأولى من التقاضي- في الاقتراع بأكمله” وتابعت “التصويت المسبق موجود منذ 150 عاما في الولايات المتحدة، وأن لكل ولاية قوانينها الخاصة، بحيث يقبل بعضها بطاقات الاقتراع المدلى بها في يوم الاقتراع مع ختم البريد، والبعض الآخر لا يقبلها”.
وعليه فإن ترامب ربما يطعن في أصوات ولاية واحدة فقط أو ولايتين على حد أكثر، ومن ثم فإن النتائج المتوقعة لا يمكن أن تؤثر في النتيجة الإجمالية وتحديد هوية الفائز وفق ما ذهب الكاتب الأمريكي ريتشارد وولف في “الغارديان”.
ويقودنا هذا التساؤل إلى الرابع والأخير: هل ستفيد التشكيلة الجديدة للمحكمة ترامب؟ علمًا بأن ترامب قام بتعيين 3 من قضاة المحكمة التسعة، والذي من بينهم 6 من المحافظين، الأمر الذي ربما يكون عاملا مؤثرًا في الميل نسبيًا نحو الرئيس الجمهوري من باب “رد الجميل”.
غير أن أستاذة الحضارة الأميركية في جامعة تولوز تعتقد أنه في الوقت الذي من الممكن أن يكون لهذا البعد فوائد إيجابية يمكن لترامب الحصول عليها، إلا أن “رئيس المحكمة العليا جون روبرتس يُنظر إليه على أنه شخص ملتزم بالمؤسساتية ويرفض مس صورة أعلى هيئة أميركية، ولكن الخمسة الباقين قد يتصرفون دونه ويخدمون دونالد ترامب”، بحسب تعبير كوست.
وفي المجمل فإن خطوة اللجوء إلى المحكمة ربما تمنح ترامب بعضًا من الوقت لتجهيز قائمة تبريرات يفسر بها فشله في الفوز بالانتخابات رغم الصلاحيات الممنوحة له، إلا أنها لن يكون لها تأثير جوهري في حسم المعركة التي تذهب وبحسب المؤشرات الأولية إلى المرشح الديمقراطي.
ساعات قليلة تحدد هوية الرئيس الأمريكي القادم، وسط حالة من الجدل والسجال الإعلامي والسياسي، ربما لم تشهدها أمريكا منذ عقود طويلة، فيما تذهب التقديرات إلى أن الإعلان الرسمي عن النتائج النهائية ربما يتأخر بعض الشيئ في ظل استمرار فرز أصوات بعض الولايات مع احتمالية اللجوء إلى منصات القضاء.