مع قرب انتهاء العام الحاليّ، يعتقد الكثير من الناس أن هذا العام هو الأسوأ على الإطلاق في تاريخ البشرية، وأنهم الأقل حظًا من أسلافهم، كون هذه السنة مليئة بالأحداث والمصائب التي بدأت وتوالت منذ شهر يناير حتى يومنا هذا، من اغتيالات ومناوشات وظروف بيئية متغيرة وتفشي وباء فيروس كورونا الذي نتجت عنه أزمة اقتصادية هائلة ووفاة أكثر من مليون شخص حول العالم.
نبذة عن أسوأ أعوام التاريخ
في حقيقة الأمر، إن العام الحاليّ سيئ بالفعل، لكنه ليس الأسوأ على الإطلاق، فقد مرت أعوامًا أسوأ منه بمراحل، مثل أعوام الحرب العالمية الثانية 1939-1945 التي وصل عدد القتلى فيها إلى 60 مليون شخص أي 3% من سكان العالم آنذاك.
أو عام انتهاء الحرب العالمية الأولى (1918) التي أودت بحياة أكثر من 16 مليون شخص، وما زاد الطين بلة انتشار وباء الإنفلونزا الإسبانية الذي أودى بحياة 100 مليون شخص، أي ما يقارب 5% من إجمالي سكان العالم.
فيما يُعتبر عام 1347 واحدًا من أسوأ وأقسى السنوات التي عايشها الإنسان، حيث ضرب “الموت الأسود” أو الطاعون أوروبا بشدة في هذا العام ليقضي على ما بين 75 – 200 مليون شخص، والمفارقة العجيبة أن هذا الوباء ظهر عام 1331 في الصين، بمقاطعة هوبي، وهي المقاطعة التي ظهر فيها أيضًا فيروس كورونا الجديد وعاصمتها مدينة ووهان، بعدما انتشرت الجرذان بين الناس، إما لأكلها وإما لانتشارها في أثناء المجاعة التي ضربت الصين بين عامي 1333-1337 وأودت بحياة 6 ملايين شخص.
يعتقد المؤرخون أن من المحتمل أن تكون هذه المجاعة التي انتشرت خلالها الأوبئة هي السبب في انتشار الطاعون الأسود وانتقاله إلى أوروبا عام 1347، الذي تسبب في موت ثلث القارة، فقد كان سببه نوع من البكتيريا تسمى يرسينيا طاعونية، تعيش مع القوارض كالفئران وتتكاثر بداخلها وتنمو وتنتقل عدواها إلى الإنسان عن طريق البراغيث التي تلدغ الفأر ثم تلدغ الإنسان.
رغم قساوة هذه الأعوام المشهورة بين الناس، فإن العلماء والباحثين لم يصنفوا واحدًا منها بأنه الأسوأ على الإطلاق
كما كانت سنوات المجاعة الكبرى التي حدثت بين عامي 1315 و1317 أول حدث في سلسلة الأزمات الكبرى التي ألمت بأوروبا في بدايات القرن الرابع عشر، فتسببت في ملايين الوفيات، ولم تتعاف أوروبا بشكل كامل حتى عام 1322، وشهدت هذه الفترة مستويات عالية من الجرائم والأمراض والوفاة الجماعية وحتى أكل لحم البشر وقتل الأطفال الرضع، وجرّت هذه الأزمة عواقب على الكنيسة والدولة والمجتمع الأوروبي، وعلى النكبات التي تبعتها في القرن الرابع عشر.
ورغم قساوة هذه الأعوام المشهورة بين الناس، فإن العلماء والباحثين لم يصنفوا واحدًا منها بأنه الأسوأ على الإطلاق، بل ذهبوا إلى تصنيف عام غير مشهور بين الكثير من الناس، فعدوه الأسوأ في تاريخ الأرض بالنسبة للأحياء من البشر من كل أعوام تاريخ البشر، هذا العام هو عام 536، فماذا حدث في هذا العام ليكون الأسوأ على الإطلاق؟
أسوأ عام في تاريخ البشرية
قال عالم الآثار الأمريكي في جامعة هارفارد ومؤرخ القرون الوسطى مايكل ماكورميك لمجلة “Science” العلمية أن عام 536 “كان بداية واحدة من أسوأ الفترات التي يمكن أن يتمنى فيها الإنسان أن يكون على قيد الحياة، إن لم يكن هو العام الأسوأ على الإطلاق بالفعل”، وأضاف أنه بعد كل كارثة تضرب كوكب الأرض، يحتاج البشر إلى بضع سنوات حتى يستعيدوا عافيتهم وانتعاشهم الاقتصادي من جديد، لكنه لاحظ مع فريقه في بحثهم أنه لم تظهر ملامح الانتعاش والتعافي الاقتصادي حتى عام 640، أي بعد مرور أكثر من قرن كامل، وذلك يبين مدى سوء هذا العام وضرره على البشرية.
كان عام 536 هو عاشر سنة من حكم الإمبراطور البيزنطي جستينيان الأول، ولم تحدث في العالم أحداث ذات قيمة حقيقية إلا بعض المناوشات المعتادة بين الناس أو الدول، ولم تضرب أي نوع من الأوبئة أو المجاعات البشرية في ذلك الوقت، بمعنى أن العالم كانت ظروفه عادية جدًا لا يشوب صفوها شيء.
لكن بشكل مفاجئ، بدأ شيء غريب يحدث في السماء، إذ ظهر ضباب غامض ومغبر في أوروبا والشرق الأوسط وأجزاء من آسيا لدرجة أنه حجب الشمس وصارت السماء قاتمة ليلًا ونهارًا لمدة 18 شهرًا، الأمر الذي أدى إلى انخفاض درجات الحرارة، حيث انخفضت درجات الحرارة في صيف عام 536 بمقدار 1.5 درجة مئوية إلى 2.5 درجة مئوية، ليبدأ العقد الأبرد خلال الـ2300 عام الماضية.
وما إن جاء هذا اليوم، حتى دخلت جميع أنحاء الأرض في سنوات من الفوضى مثل الجفاف وفساد المحاصيل وهبوط الثلوج في الصين في فصل الصيف وانتشار المجاعات بشكل واسع النطاق، في مشاهد مفزعة جدًا.
في هذا العام وقع أشد النُّذر ارْتِياعًا، إذ حل ضوء الشمس بلا سطوع وكأنه ضوء القمر
وفي وصف هذا العام الرهيب والمفزع، يقول المؤرخ السرياني زكريا أسقف مليتين “زكريا البليغ” الذي عاصر هذا العام، وهو من قطاع غزة، في كتابه “التاريخ السرياني”: “بدأت الشمس تُعتم نهارًا ويتلاشى ضوء القمر ليلًا، في حين هاج المحيط ونضحت منه المياه، بدءًا من 24 من مارس من هذا العام حتى 24 من يونيو من العام اللاحق، وكان الشتاء قارسًا حتى إن الطيور نفقت نتيجة وجود كميات كبيرة غير معتادة من الثلج، ونزلت بالناس المحن، بسبب الشر المنتشر”.
كما كتب المؤرخ البيزنطي بروكوبيوس: “وقد كان في هذا العام أن وقع أشد النُّذر ارْتِياعًا، إذ حَلّ ضوء الشمس بلا سطوع، وكأنه ضوء القمر، واستمر هذا العام كله، وبدت لنا الشمس كأنها في كسوف، فلم تكن أشعتها بقوتها ولا وضوحها الذي عهدناه.. ما حدث هذا العام كان فزعًا ورعبًا بلا حدود”.
فيما أوضحت السجلات الأيرلندية الغيلية أبرز الأحداث التي وقعت في هذا العام الشاق، مثل نقص الخبز منذ 536 وحتى 539، وأوضحت عدد من المصادر المعاصرة الأخرى بعض الظواهر الأخرى مثل هطول الثلوج في شهر أغسطس بالصين خلال فترة حكم السلالتين الشمالية والجنوبية، ما تسبب في تأخر الحصاد هناك وانتشار المجاعات، كما أثر الجفاف الكبير على حضارة “موتشي” في شمال بيرو وتسبب في انهيارها.
وفي عام 541 أصاب نوع من الطاعون، يعرف بالطاعون الدملي، ميناء بيلوسيوم الروماني في مصر وانتشر ذلك الطاعون الذي عرف باسم طاعون جستنيان، بسرعة كبيرة، وقضى على ما بين ثلث إلى نصف سكان الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وسارع بانهيارها، بحسب ما يقوله ماكورميك.
أسباب هذه الأحداث المرعبة
يعرف المؤرخون منذ فترة طويلة أنه كانت هناك في منتصف القرن السادس الميلادي فترة حالكة فيما كان يعرف آنذاك بـ”العصور المظلمة”، لكن مصدر السحب الغامضة ظل لغزًا لفترات طويلة، ومؤخرًا وجد الباحثون في جامعة هارفارد تفسيرًا بعد أن أجروا تحليلًا شديد الدقة للثلوج التي أخذوها من الأنهار الجليدية السويسرية، في “مبادرة ماضي العلوم البشرية”.
وعثر العلماء في الثلوج، التي ترجع إلى ربيع عام 536، على جزيئات زجاج بركاني دقيقة من مُثلجة Colle Gnifetti ووجدوا فيها رماد وحطام يدعى “تفرا”، تشير إلى حدوث انفجار بركاني فادح في أيسلندا أو ربما في شمال أمريكا، أدى إلى انبعاث رماد كثيف غطى الجزء الشمالي من الكرة الأرضية، ومن المرجح أن الرياح حملت الضباب البركاني عبر أوروبا، وفي وقت لاحق إلى آسيا، وكان ذلك مصحوبًا بطقس بارد.
الاقتصاد بدأ يتعافى، وقد استغرق الأمر نحو مئة عام أو أكثر
ثم تبع ذلك انفجاران كبيران آخران في عامي 540 و547 أطالا مدة ومدى البؤس والمعاناة على كوكب الأرض، فضلًا عن تفشي وباء طاعون جستينيان عام 541 الذي أدى إلى إغراق أوروبا في جمود اقتصادي استمر نحو قرن من الزمن، حتى عام 640 بعد الميلاد.
وبذلك سارت الأمور على نحو سيئ بشكل متراكم على كوكب الأرض، فوجد الباحثون أن هناك علامات تغير طرأت على الجليد في نحو عام 640، إذ وجدوا فيه آثار زيادة كبيرة في مستويات الرصاص في الهواء وفي الأنهار الجليدية، لكن تلوث الرصاص هذا لا يعني أمرًا جيدًا، لكن الجيد في الأمر هو ما يدل تلوث الرصاص عليه، وهو أن البشر بدأوا في التنقيب عن الرصاص لسبك الفضة من خام الرصاص، وهو ما كان قد تقلص كثيرًا في السنوات العشرة الأولى من القرن السادس.
وذكر الباحثون في ورقتهم البحثية: “هذا يدل بشكل لا لبس فيه، جنبًا إلى جنب مع أي بقايا الذهب الروماني والمعادن المستوردة، أن عمليات التعدين الجديدة سهلت إنتاج العملات الذهبية في فترة ما بعد الدولة الرومانية مما قلل من قيمتها مع وجود كميات متزايدة من الفضة، وبالتالي حلت الفضة محل الذهب فيما يعرف بالعصر الفضي، وتظهر سجلات العينات اللبية الثلجية عالية الجودة، تسلسلًا زمنيًا جديدًا ومستقلًا لتجدد في إنتاج الفضة في الغرب في العصور الوسطى المبكرة”.
وفي هذا الخصوص يقول كايل هاربر، المتخصص في تاريخ الرومان والعصور الوسطى في جامعة أوكلاهوما في نورمان: “سجل الكوارث الطبيعية المفصل والتلوث البشري المجمد في الثلوج، يعطينا سجلًا جديدًا نفهم منه سلسلة الأسباب البشرية والطبيعية التي أدت إلى سقوط الإمبراطورية الرومانية والتقلبات المبكرة في اقتصاد العصور الوسطى”.
وهذا يعني أن الاقتصاد بدأ يتعافى، وقد استغرق الأمر نحو مائة عام أو أكثر، ومن الأمور العلمية المثيرة للدهشة أن عينة اللب الجليدي تظهر تراجعًا في تلوث الرصاص بين عامي 1349 و1353، وهذه الفترة تتزامن مع ظهور الطاعون الأسود، وبالفعل تسمح تلك المعلومات المجمدة للعلماء بإلقاء الضوء على الفترات الغامضة في الحضارة الإنسانية.