السابقون من المهاجرين والجيل الأول من العمال العرب في فرنسا أصبحوا منسيين وسقطوا من الذاكرة الجمعية لتلك البلد عمدًا وبشكل مخزٍ، ومن الظلم أن ننساهم نحن أيضًا أو نساعد على تغييبهم من صفحات التاريخ وعدم الحديث عنهم، فالبناؤون العرب جاءوا إلى فرنسا المنهكة بفعل الحروب بعد أن استقدمتهم للدفاع عنها وترميم الخراب الذي لحقها، فأعادوا تقويم دعائمها العمرانية والاقتصادية وساهموا في تقدمها واستعادة رفعتها بين دول العالم، بل أصبحوا جزءًا لا يتجزأ من ملامحها الحديثة.
موضوع التقرير يفرض نفسه بقوة في ظل عودة الجدل في فرنسا بشأن المهاجرين وتنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا، ففي وقت يعتبر فيه الفرنسيون أن الأعمال الإرهابية لصيقة بالهجرة غير الشرعية التي تُعاني منها الدولة الأوروبية، تتعالى الأصوات المحذرة من تصاعد موجات العنصرية الموجهة ضد العرب، ومن بينها مدير معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية في باريس، باسكال بونيفاس، الذي أكد أن العرب والمسلمين يعانون العنصرية والتمييز أكثر من غيرهم من الأقليات في فرنسا، وذلك لغياب نخبة مسلمة تفرض نفسها في الأوساط الإعلامية والثقافية لتدافع عن صورتهم ومكانتهم.
العنصرية.. داء قديم
الباحثون في العلاقات بين شطري ضفة المتوسط يؤكدون أن ظاهرة الإسلاموفوبيا التي يتحدث عنها كثيرون تطورت في السنوات الأخيرة لكنها لا ترتقي لحجم العنصرية والتمييز إزاء العرب والمسلمين في السابق، وهو ما أشار إليه الباحث الفرنسي باسكال بونيفاس في حوار نشر بموقع قناة “فرنس 24” عام 2015 بأنه في ثمانينيات القرن الماضي، كان عدد العرب والمسلمين الذين يقتلون في فرنسا سنويًا يزيد على 30 شخصًا، بسبب العنصرية.
السفير الجزائري السابق في فرنسا محمد البجاوي أكد بدوره في تصريح أدلى به لصحيفة “nouvel observateur”، أن بداية عام 1973، قتل أكثر من 50 مواطنًا جزائريًا في فرنسا (واحد كل أسبوع) ولم يتم القبض على أي متهم، ما يُشير إلى تواطؤ الحكومة بقيادة جورج بومبيدو (1969-1974)، وفي ذلك الوقت أيضًا تعرض مقر القنصلية الجزائرية لتفجير أوقع 4 قتلى و12 جريحًا.
وفي الفترة التي سبقت استقلال الجزائر، تعرض العرب وخاصة الجزائريين إلى حملات منظمة تنم عن عنصرية متأصلة لدى المجتمع والحكومة الفرنسية تمثلت في قمع الشرطة والمجزرة التي ارتكبتها بحق الجزائريين (مجزرة نهر السين 1961).
وبالإضافة إلى ذلك، فإن فترة السبعينيات كانت الأشد على العرب، حيث ساهمت موجة لم شمل أسر المهاجرين عام 1973، في تصاعد ذروة العنصرية وبدأ الفرنسيون يتخوفون من بقاء العرب والجزائريين في بلادهم، وانتشرت بفعل ذلك الجرائم العنصرية بين عامي 1971 و1983، راح ضحيتها العشرات خاصة في الجنوب.
استهداف الفرنسيين المتكرر للعرب دفع المهاجرين للخروج في مسيرة الكبرى عام 1983(la marche des beurs) منادية بالمساواة وإيقاف العنصرية، وقع تنظيمها في ربوع فرنسا قبل وصولهم إلى العاصمة، يوم 3 من ديسمبر/كانون الأول بحضور 100 ألف شخص، كان من نتائجها قبول الرئيس فرنسوا ميتران منح بطاقة إقامة عشر سنوات لكثير من أبناء الجالية العربية.
هجرة الجيل الأول
أول المهاجرين العرب إلى فرنسا كان المجندون والعمال في فترة الحرب العالمية الأولى والثانية، ثم تلتها موجة أخرى ساهمت في إعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية للبلاد في الستينيات، والموجة الثالثة تجسدت في لم شمل العائلات وحصول الأطفال على التعليم، فيما تمثلت الموجة الرابعة في وصول خريجين مهاجرين جدد، والفئة الأخيرة من الواضح أنها ستلعب مستقبلًا دورًا رئيسيًا في السياسة الاقتصادية والثقافية الفرنسية.
جاء “المسلمون الفرنسيون” من الجزائر للعمل في فرنسا بعد منحهم حرية التنقل عام 1946، وكان عددهم قبل الاستقلال (1962-1963) 331 ألفًا ليصل عددهم عام 1982 (805 آلاف)، لتتنوع بعدها تدفقات الهجرة وتمتد في الستينيات والسبعينيات إلى بلدان المغرب العربي الأخرى كتونس والمغرب.
بعد ذلك التاريخ، أصبحت الزيادة السريعة للجالية المغربية تُؤمن لوحدها نصف الزيادة الإجمالية المسجلة للجاليات الأجنبية في فرنسا بين 1975 و1982، ويعود ذلك إلى صغر سن المهاجرين المغاربة، ما يعني ضعف نسبة الوفيات بينهم وخصوبتهم المرتفعة، وكذلك نجاح سياسات لم الشمل وضعف نسبة التجنيس بينهم، وزيادة توافد التونسيين الذين كانوا يحملون المُـواصفات نفسها، لم تكُن ضئيلة (36% بين 1975 و1982)، رغم أن عددهم الإجمالي بقي متواضعًا.
ذاكرة مرفأ مرسيليا
يُعد مرفأ مدينة مرسيليا شاهدًا على وصول العرب الأوائل إلى فرنسا، وعلى آمالهم في حياة جديدة تمحي آلامهم وأحزانهم التي حملوها على أكتافهم بعد أن تركوا أوطانهم طوعًا (لأسباب اقتصادية) وكرهًا (لأسباب سياسية وأمنية)، فأغلبهم لم يجد من يودعهم ولا من يستقبلهم، هم غرباء ساقتهم مراكب طلب الرزق.
في رحلة بحثهم عن حياة أفضل، هناك من وجد ضالته فاستقر رغم قساوة الغربة ومرارة المبيت في الأكواخ الحقيرة والعشاء البارد كبرودة مدن فرنسا والانتهاكات العنصرية التي تعرضوا إليها والمطالبة برحيلهم إلى أوطانهم، وآخرون فتشوا فأضناهم البحث فلم يجدوا إلا الازدراء والإقصاء الذي لم يستسيغوه فعادوا قافلين إلى المرفأ مرة أخرى.
إن مرارة الغربة التي أحس بها الجيل الأول لم تكن وليدة البعد عن الأهل والأقارب بقدر ما هي متأتية من النظرة الغريبة والمريبة التي ينظر من خلالها أهل البلد الأصليون إلى هؤلاء الوافدين الجدد، وهي أيضًا الصورة التي ترسم جيدًا أحوال المهاجرين الذين كونوا الجيل الأول وأوضاعهم في تلك الفترة.
استغلال المهاجرين
دراسة مسارات الهجرة المغاربية إلى فرنسا تؤكد أن أولى بكراتها كانت مدفوعة في الواقع بالإكراه، ليس فقط لتجنيد الجزائريين من أجل المشاركة في الحرب، بل أيضًا بعد نهايتها من أجل المساهمة في إعادة الإعمار وبناء الاقتصاد الفرنسي وتعويض النقص المسجل في العمالة، والأخيرة تحولت إلى سياسة دائمة لفرنسا التي ارتأت تعويض العمال الفرنسيين الذين تخلوا بشكل نهائي عن العمل في قطاعات شاقة ومضنية وتتطلب جهدًا بدنيًا كبيرًا.
والملاحظ أن الذين استقدمتهم الحكومة الفرنسية، استلموا الوظائف والأعمال “الحقيرة” والمتدنية التي لا تخلو من الخطورة ولا تفرض أي مهارة أو إعداد مسبق، فهي تعلم جيدًا أن الوافدين إليها والهاربين من مستعمراتها التي تسببت في إفقارها لا خيار لهم إلا القبول بالأوضاع المزرية وبمراتب القاع المجتمعية، فاستغلتهم أيما استغلال.
مارست الدولة الاستعمارية على مواطني مستعمراتها أشكالًا مختلفة من الابتزاز والاستغلال الرخيص، فبالإضافة إلى المرتبات المتدنية استعملتهم في حفر الأنفاق تحت الأرض في مدن كباريس وغيرها بوسائل بدائية ولم تمكنهم من الحماية اللازمة، كذلك الأمر في ورش البناءات الكبرى ومصانع الحديد والمناجم.
وفي هذا الإطار، تحدثت في وقت سابق مديرة “قصر البوابة الذهبية ” بباريس، هيلين أوران، عن استغلال فرنسا لسكان المستعمرات قائلة: “أردنا لوقت طويل أن يأتي الناس من مستعمراتنا إلى فرنسا، طلبنا منهم المجيء إلى هنا واستغللناهم في التصنيع والتعدين وصناعة المنسوجات وعملوا جنودًا فكانوا بمثابة وقود مدفع ممتاز في حروبنا”، مضيفة “لقد نهبنا الدول التي استعمرناها للحصول على الموارد البشرية، ولم يكن ذلك أمرًا إيجابيًا، وما نحاول أن نظهره هنا في المتحف هو كيف كانت الهجرة إيجابية لفرنسا وتاريخها”.
ظهور منكسرة
منور بن صالح (75 عامًا) تونسي عائد حديثًا من المهجر بعد تقاعده، أكد في حديثه لـ”نون بوست” أن ما يعيشه العرب الآن في فرنسا لا يمثل إلا نسبة ضئيلة لا تتجاوز الـ1% من العنصرية والانتهاك الذي تعرضوا إليه منذ أن وطئت أقدامهم إلى “العكري” (تسمية يطلقها التونسيون على فرنسا)، مضيفًا “أذكر اليوم الأول الذي سافرت فيه إلى مرسيليا عبر الباخرة كانت التذكرة بـ5 دنانير تونسية (1.5 دولار)، لحظة وصولي لم يكن بانتظاري أي أحد انتابني خوف شديد، تخيل ريفي من جبال الشمال الغربي ألقى بعصاه التي كان يهش بها الأغنام يجد نفسه في فرنسا لا يفقه لغة أهل البلد ولا يعرف من طباعهم شيئًا”.
يتابع بن صالح (كنيته في فرنسا): “تنقلت بين مدن فرنسية عديدة بداية من الكورس وانتهاءً بمرسيليا وتحديدًا (aix en provence)، لقد تعرضنا نحن الجيل الأول إلى العنصرية المميتة أحيانًا، فالتهديدات بالموت تقريبًا كانت يومية في الشارع وحتى في موقع العمل، كنا نخاف ونحن أقلية (عشرات) في كورسيكا أن نُطالب بمستحقاتنا فأغلبهم مسلحين ويتخذون من العنف وسيلة للتملص من واجباتهم”.
أما عن الأعمال التي مارسها، يسترجع مخاطبنا شريط ذكرياته بعسر وكأنه مخيلته تأبى أن تزيح الغبار عن ماضٍ أراد له النسيان، قائلًا: “لم يكن للعرب في تلك الفترة الخيار في ممارسة المهن التي تناسبهم، جيء بنا لممارسة الأعمال الشاقة والمتدينة التي لا يرضى بها الفرنسيون كالبناء والنظافة والمصانع وسكك الحديد”، مضيفًا “تنقلت بين أعمال عديدة بحثًا عن الرزق لإعالة أهلي في تونس، اشتغلت في ورشات إصلاح الحافلات وعاملًا في الحظائر، لو تنطق بعض المدن الفرنسية لشهدت بأني شيدتها على ظهري وإخواني العرب، أعاني الآن من تداعيات صحية (عمليات الأذن والعمود الفقري) جراء الأعمال الشاقة وظروف العمل اللاإنسانية، وتقريبًا الجيل الأول كله يُعاني من آثار جسدية وقلما تجد مهاجرًا ظهره لا يحمل قطع الدعم المعدنية”.
وحوش
“في الستينيات وبداية السبعينيات، كان السواد الأعظم من العرب يتجولون مطأطئ الرأس حتى لا يتعرضون للسب والوصم، لا يختلطون بالفرنسيين ولا يعيشون في مدنهم بل في أحياء هامشية وأكواخ أو في حظائر البناء التي يعملون فيها”، جملة استهل بها بلقاسم الطالبي (80 عامًا) حواره مع “نون بوست” وهو أيضًا من الرعيل الأول للمهاجرين التونسيين في فرنسا.
يكشف الطالبي بعض ذكرياته التي أصر على أن لا أحدًا من عائلته يعرف معاناته في سنواته الأولى خارج الوطن، قائلًا: “كنا نعيش بالعشرات مكدسين داخل كوخ خشبي مغطى بالقصدير لا يحمي من البرد والثلوج، حين نغسل ثيابنا لا يُمكننا انتظارها حتى تجف في كثير من الأحيان نلبسها مبللة ولا هم لنا إلا يوم عمل إضافي وما سنجنيه لنرسله إلى أهالينا”.
وعن العنصرية والتمييز، أكد محدثنا أن الانتهاكات تجاه العرب كانت بشكل لا تتحمله طاقة بشر، إلا أن الخوف من ردة فعل السكان الأصليين كانت تمنعهم من التصرف إزاء هذه التصرفات، قائلًا: “نتعرض للسب والشتم كانوا ينادوننا بالبربر المتوحشين والعرب المتسخين، يطردوننا من المقاهي ويبصقون علينا في الشوارع”.
وأشار الطالبي أن معاناة الجيل الأول من المهاجرين لم تنته بمجرد حصولهم على التقاعد، متابعًا القول: “في فرنسا كان همنا الأول العمل دون توقف لجمع المال تمهيدًا للعودة نهائيًا إلى أرض الوطن، لكن الوقت سرق منا باقي الحلم، لا عدنا إلى بلادنا ولا بقينا في المهجر، نحن الهنا والهناك، لم نتأقلم في تونس ونخاف الموت في فرنسا”.
بالنهاية، إن سعي المهاجرين والفرنسيين من أصول عربية في وقتنا الحاليّ لأن يكونوا مركز نفوذ وأن يفرضوا وجودهم في مجتمع غريب العادات والتقاليد لا يريد في أحيان كثيرة الاعتراف بهم بسبب حملات معروفة وفي طليعتها الحملات العنصرية بأشكالها العنيفة والساخرة (شارلي إيبدو)، ولد من رحم معاناة آبائهم وأجدادهم البناؤين الأوائل ممن سقطوا في عمليات إنزال نورماندي أو ممن قضوا في الأنفاق المظلمة التي أخرجت مترو باريس إلى النور.