يعد الانتقال السلمي للسلطة عبر الانتخابات الحرة والنزيهة أحد الأعراف الديمقراطية التي عرفتها الولايات المتحدة منذ أول برقية تهنئة رسمية أرسلها ويليام جينينغز برايان إلى ويليام ماكينلي بعد انتخابات 1896، ولم يقطع هذا التقليد الممتد عبر سنوات طويلة إلا انتخابات 2000 حين عارض آل غور نتيجة الانتخابات، لكنه اعترف بالهزيمة أمام جورج دبليو بوش بعد أن قضت المحكمة العليا بإيقاف عملية إعادة الفرز في فلوريدا.
يبدو أن أمريكا على موعد جديد مع كسر هذا التقليد مرة أخرى، وذلك في أعقاب تهديد الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، بعدم قبول نتائج الانتخابات الحاليّة التي يحقق فيها المرشح الديمقراطي جو بايدن نتائج متقدمة تجعله على بعد خطوات قليلة من البيت الأبيض.
التصريحات الصادرة عن الرئيس الأمريكي بشأن الاحتكام للقضاء وعدم الاعتراف بالنتائج المعلنة تضع البلاد أمام سيناريو مقلق للبعض، خاصة في ظل الأجواء المشحونة بين أنصار الطرفين التي تمخضت عن مشادات ومناوشات بينهما خلال التظاهرات التي قاموا بها في بعض الولايات لدعم مرشحيهما.
ومن الواضح أن ترامب بدأ بالفعل الاستعداد لخوض معركته القانونية المتوقع أن تمتد لحين تسليم السلطة بشكل رسمي في الـ20 من يناير/كانون الثاني المقبل، وسط إصرار ديمقراطي من حملة بايدن على المضي قدمًا في فرز جميع الأصوات القادمة عبر البريد (التي طالب ترامب بوقف عدها) في محاولة لتوسيع الفارق مع المرشح الجمهوري، لغلق كل النوافذ أمام التحركات القانونية الترامبية.
استباق الجمهوريين النتائج الرسمية بتصريحات التشكيك والإيماء بشبهة تزوير في بعض الولايات لصالح المنافس الديمقراطي يضع المشهد السياسي في مأزق صعب للغاية، ربما هو الأول من نوعه، تعمق تأزمه بتهديد ترامب بتنصيب نفسه رئيسًا للبلاد حال إعلان بايدن ذلك.. وهو ما يدفع للتساؤل: ماذا لو رفض ترامب الاعتراف بالهزيمة وامتنع عن مغادرة البيت الأبيض؟
جدير بالذكر أن رفض نتائج الانتخابات الرئاسية تحول إلى ظاهرة خلال العقود الأخيرة، فمن بين 178 انتخابًا رئاسيًا حول العالم خلال الفترة من 1974-2012 هناك 38 نتيجة تم الاعتراض عليها، أي بنسبة 21% من إجمالي عدد الانتخابات التي جرت في تلك الفترة، الأمر الذي أسفر في بعضها عن اندلاع اضطرابات أمنية وسياسية وأزمات دستورية.
With the attack by the Radical Left Dems on the Republican Senate, the Presidency becomes even more important!
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) November 6, 2020
التقاضي.. بين المناورة وتخفيف الألم
بعد تقلص فرص فوز ترامب في مقابل التقدم الملحوظ لبادين، كثفت حملة المرشح الجمهوري من خطواتها للتقاضي، عبر تقديم العديد من الطعون في النتائج المعلنة في بعض الولايات، البداية كانت الخميس 5 من نوفمبر/تشرين الثاني حين أعلنت الحملة أنها تخطط لرفع دعوى في نيفادا، تلتها دعوات أخرى في ميشيغان وبنسلفانيا وجورجيا هذا بخلاف التلويح بالذهاب إلى المحكمة العليا.
وفي أول رد فعل رسمي على تلك الدعوات، خسرت الحملة دعوتيها في جورجيا وميشيغان فيما ظلت الإجراءات متواصلة في نيفادا دون صدور قرار رسمي من المحكمة، هذا في الوقت الذي انضم فيه العديد من الخبراء إلى فريق ترامب القانوني لتعزيز تحركاتهم.
ومع اتساع الفارق بين الأصوات الممنوحة لترامب ومنافسه الديمقراطي، الأمر الذي يقلل من فرص أي تغييرات متوقعة من خلال اللجوء إلى ساحات القضاء، تثار العديد من التساؤلات المتعلقة بدوافع الرئيس الحاليّ من وراء تلك الإستراتيجية، وهل هي مناورة قانونية لكسب المزيد من الوقت أم محاولة لتخفيف آلام الهزيمة النكراء التي يبدو أنه على أبوابها؟
ترامب يسعى – قدر الإمكان – لتخفيف ألم الخروج من هذا السباق بتلك الصورة التي لم يتوقعها هو ولا فريقه، ما دفعه لتسويف عملية الخروج وتفتيت مراحلها بالشكل الذي يقلل من تأثيرها المباشر
البعض يذهب في تأويله لتحركات ترامب أنها مناورة ذات شقين سياسي وقانوني، وفق ما أشار الأستاذ في كلية الحقوق بجامعة ويسكونسن-ماديسون، روبرت يابلون، الذي علق على المشهد بقوله: “المناورة القانونية الحاليّة هي في الأساس وسيلة تستخدمها حملة ترامب في محاولة لإطالة أمد اللعبة على أمل ضعيف للغاية في أن تظهر مخالفات خطيرة. حتى هذه اللحظة، لم نشهد أي مؤشر على وجود مخالفات منهجية في فرز الأصوات”.
فريق آخر يرى أن ترامب يسعى – قدر الإمكان – لتخفيف ألم الخروج من هذا السباق بتلك الصورة التي لم يتوقعها هو ولا فريقه، ما دفعه لتسويف عملية الخروج وتفتيت مراحلها بالشكل الذي يقلل من تأثيرها المباشر، وعليه كان الطلب بإعادة فرز الأصوات لدغدغة مشاعر الهزيمة لدى أنصاره.
الأستاذ في معهد الدفاع والحماية الدستورية بجامعة جورج تاون، جوشوا جيلتزر، يرى أن “هذا التقاضي أشبه ما يكون بمحاولة لإتاحة الفرصة لترامب ليواصل جهوده الخطابية من أجل نزع الشرعية عن انتخابات خسرها” وعن الفرق بين التحرك الحاليّ وسيناريو 2000، أوضح المتخصص في قانون الانتخابات في كلية موريتز للقانون، إدوارد فولي، أن الدعاوى القضائية التي رفعها ترامب لن تؤثر كثيرًا في مسار النتيجة النهائية حتى إن غيرت من بعض ملامح خريطة التصويت، مضيفًا “الوضعية تلك في ضوء النتائج المعلنة حتى الآن تختلف بصورة كبيرة عن النتيجة التي تحصل عليها جورج بوش في معركته ضد آل غور في عام 2000”.
يذكر أن انتخابات 2000 حسمت بفارق 537 صوتًا فقط في فلوريدا، وعليه يرى الخبراء أنه حتى تحقق دعاوى ترامب القضائية نتيجة مؤثرة لا بد أن يكون السباق معلقًا على عدد أصوات ولاية أو ولايتين بفارق بضعة آلاف، غير أن الأمور وحتى كتابة هذه السطور تشير إلى فروق كبيرة في العديد من الولايات وهو ما قد يقلل من حجم وتأثير تلك التحركات.
I know tensions can be high after a tough election like we just had.
But we need to remain calm. Patient. And let the process work out as we count all the votes.
— Joe Biden (@JoeBiden) November 7, 2020
سيناريوهات الخروج
من المتوقع أن تستهلك الدعاوى القضائية بعض الوقت قبيل الإعلان عن الفائز بالانتخابات رسميًا، لكن حين يستهلك ترامب تلك النزاعات فعليه حينها أن يلملم أوراقه ويغادر البيت الأبيض بحلول الـ20 من يناير المقبل، فماذا لو رفض المغادرة؟
هناك ثلاث سيناريوهات رئيسية تسعى للإجابة عن هذا السؤال، طرحتها الصحف الأمريكية وتناقشت فيها مع بعض الخبراء، الذين استبعدوا وصول الأمور إلى النقطة الحرجة التي يخشاها الجميع، فيما أعرب آخرون عن تخوفاتهم في ظل ما بدر عن ترامب من سلوكيات جدلية غير متوقعة طيلة سنوات ولايته الأولى.
السيناريو الأول: (تدخل المؤسسة العسكرية) وإجبار ترامب على الخروج من المقر الرئاسي وهو ما ألمح إليه بايدن حين قال إنه مقتنع تمامًا بأن الجيش سيخرج ترامب بسرعة كبيرة، هذا السيناريو طرحته صحيفة “نيويورك بوست” الأمريكية التي توصلت إلى وجود رغبة كبيرة بعدم إقحام الجيش في هذه المعضلة.
الصحيفة نقلت عن رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة، الجنرال مارك ميلي، تصريحاته لشبكة “إن بي آر”، الشهر الماضي، التي قال فيها إنه ينوي إبعاد الجيش عن أي منازعات متعلقة بالانتخابات، مضيفًا “هذه ليست أول مرة يرجح فيها شخص ما أنه ستكون هناك انتخابات متنازع عليها، وحال حدث ذلك، ستتعامل معها المحاكم والكونغرس الأمريكي بالطريقة المناسبة. لا دور للجيش في حسم نتائج الانتخابات الأمريكية. صفر. لا دور هناك”.
“سوف يرافقه جهاز المخابرات، وسيعاملونه مثل أي رجل عجوز كان يتجول في الممتلكات”.. مسؤول سابق كان قد شارك في نقل السلطة من الرئيس السابق باراك أوباما إلى ترامب يعلق على مسألة رفض الأخير الخروج من البيت الأبيض
السيناريو الثاني: (الحرس الرئاسي – الخدمة السرية) بحسب ما نقلت مجلة “نيوزويك” عن مسؤول أمريكي سابق، فإنه من الصعب رفض ترامب الخروج من البيت الأبيض حال استنزاف محاولاته القضائية كافة، خاصة أنه لم يشر إلى أنه سيواصل البقاء في مقره بعد استنفاده طعونه القانونية.
لكن في حال تمكسه بالبقاء أيًا كانت الأسباب، فهنا يتم الاحتكام لنص التعديل العشرين للدستور الأمريكي الذي أشار إلى أن “ترامب، أو أيّ رئيس آخر، يفقد ولايته الرئاسية في 20 يناير ظهرًا، وإذا حاول البقاء بعد ذلك فإن الحارس نفسه الذي كان مكلفاً بحماية صاحب المنصب الأعلى في البلاد عليه أن يطرده” بحسب تعبير المجلة الأمريكية.
ووفق هذا السيناريو فإنه حال رفض ترامب المغادرة سيجبره الحرس الرئاسي على الخروج، فيما نقلت المجلة عن مسؤول سابق كان قد شارك في نقل السلطة من الرئيس السابق باراك أوباما إلى الحاليّ ترامب قوله: “سوف يرافقه جهاز المخابرات، وسيعاملونه مثل أي رجل عجوز كان يتجول في الممتلكات”.
السيناريو الثالث: (العزلة القانونية) وهو السيناريو الأكثر جدلًا، فإن رفض ترامب مغادرة البيت الأبيض، فعلى عناصر الخدمة السرية التابعة لترامب أن ترافق الرئيس الجديد وتعلن الاعتراف به، هذا بجانب كل المسؤولين في مختلف الكيانات الحكومية، عليهم أن يرفعوا تقاريرهم للرئيس الجديد.
في هذه الحالة لن يجد ترامب مبررًا لوجوده خاصة بعد سحب صلاحياته كافة، الأمر الذي يمهد الطريق نحو حكماء الساسة وخبرائها من الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، لإزاحته عن المقر الرئاسي، وهو الأمر الذي ربما يكون مستبعدًا وفق ما ذهبت بعض الصحف الأمريكية التي ترى بأن الارتكان لتلك السيناريوهات يضع مصداقية مؤسسات الدولة على المحك، كما يثير الشكوك بشأن قدرتها على إدارة الأزمة وهو ما سيتم تجنبه بالطبع.
هناك سيناريو رابع ربما يكون مستبعدًا في ضوء معطيات النتائج الحاليّة، وذلك في حال وجود خلاف على التصويت النهائي، ففي هذا السيناريو سيكون أمام الولايات التي بها خلاف وعلى رأسها (بنسلفانيا وكارولينا الشمالية وميشيغان وويسكونسن) تعيين مجموعتين منفصلتين من ناخبي المجمع الانتخابي، فيما سيكلف نائب الرئيس، مايك بنس، رئيس مجلس الشيوخ بحل المأزق.
ومع صعوبة حصول أي مرشح من المجموعتين على الـ270 صوتًا المطلوبة للوصول للرئاسة، سيصوت أعضاء الكونغرس لاختيار الرئيس ونائبه، ومن المتوقع تصاعد الخلافات بين الديمقراطيين والجمهوريين كذلك، وفي حال عدم الوصول إلى النتيجة المطلوبة بحلول يوم التنصيب (20 من يناير/كانون الثاني) فستكون رئيس مجلس النواب – حاليًّا نانسي بيلوسي – هي الرئيس المؤقت لحين حلة الأزمة.
سابقة غير متكررة يشهدها الشارع الأمريكي الذي يحبس الأنفاس في انتظار ما ستسفر عنه الساعات القادمة، إذ يبدو أن إعلان بايدن فوزه بصورة رسمية والمتوقع أن يكون بحلول مساء اليوم أو صباح الغد، لن يكون النتيجة النهائية لتلك الانتخابات، فمن المتوقع أن المشهد سيزداد سخونة خلال الأيام القادمة.