في الـ14 من يناير/كانون الثاني 2020 استضافت مدينة “باو” جنوبي فرنسا، قمة قادة دول الساحل الإفريقي (موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد)، بدعوة من الرئيس إيمانويل ماكرون، وذلك لبحث المستجدات الأمنية والسياسية في أعقاب تزايد الهجمات الإرهابية خاصة في مالي والنيجر.
كما استهدفت تلك القمة التي حضرها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش ورئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فكي ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال، استطلاع موقف تلك الدول إزاء الوجود الفرنسي في تلك المنطقة بعد تصاعد الأصوات الرافضة لهذا الوجود سواء على المستوى الداخلي أم الأوروبي.
وكان من بين مخرجات هذه القمة إرسال 600 جندي فرنسي إضافيين ليرتفع عدد جنود فرنسا في هذه المنطقة إلى 4500 جندي يتمركزون أساسًا في مالي والنيجر وبوركينافاسو، وذلك ضمن إستراتيجية تهدف ظاهريًا إلى محاربة الجماعات المسلحة التي يتزايد خطرها شيئًا فشيئًا بما يهدد النفوذ الفرنسي المتنامي في هذه البقعة الإستراتيجية المهمة من القارة الإفريقية.
لكن بعد أقل من عام تقريبًا على هذه الخطوة تفكر باريس في تقليص عدد جنودها المشاركين هناك، جاء هذا القرار بعد عدد من الزيارات المتتالية قام بها مسؤولون فرنسيون إلى الساحل، أبرزها زيارة وزير الخارجية جان إيف لودريان ثم وزيرة الدفاع فلورنس بارلي.
الزيارات جاءت تحت شعار “تقييم المشاركة الفرنسية في منطقة الساحل”، حيث تقوم الدولة الفرنسية بتقييم عام لقواتها في الخارج نهاية كل عام، لمناقشة النتائج التي تحققت ودوافع البقاء عليها أو إدخال تغييرت سواء بالزيادة أم التقليص، خاصة أن تلك المنطقة طوت عام 2019 بحصيلة من العنف غير مسبوقة، إذ تجاوز عدد القتلى 4 آلاف قتيل، بجانب أكثر من 365 عملية مسلحة، تسببت في تشريد ملايين السكان من أماكنهم والإطاحة بما يزيد على 8 ملايين طفل خارج مدارسهم، بجانب استهداف شبه يومي للمساجد والكنائس.
السؤال الذي يفرض نفسه الآن: لماذا لجأت فرنسا إلى تقليص عدد جنودها في تلك المنطقة رغم استمرار عمليات العنف المسلحة وتزايد قوة ونفوذ الجماعات المتطرفة رغم جهود مكافحتها التي كبدتها خسائر كبيرة؟ وهل من الممكن أن تنعكس هذه الخطوة على نفوذ وثقل باريس داخل القارة الإفريقية؟
فرنسا.. اللاعب الأبرز في الساحل
تمثل فرنسا اللاعب الأجنبي الأبرز في منطقة الساحل الإفريقي، حيث تتعامل الحكومة الفرنسية مع بلدان تلك المنطقة على أنها بقايا استعمارية يجب السيطرة عليها للحفاظ على هيبة الدولة الأوروبية التي تعاني من تقليص واضح لدورها وتأثيرها الإقليمي والدولي.
ورغم الفاتورة الباهظة التي تتحملها باريس جراء وجودها العسكري في تلك الدول، حيث تنفق قرابة 700 مليون يورو سنويًّا على أنشطتها العسكرية والأمنية هناك، بجانب الفاتورة البشرية المرهقة (ما يزيد على 50 جنديًا فرنسيًا قتلوا على مدار السنوات الماضية على أيدي مسلحين) بجانب وجود 4500 جندي يتمركزون بصورة دائمة، فإن هناك إصرارًا على المضي قدمًا في هذا الوجود رغم استنزافه المادي والبشري.
خطوة تقليص الوجود العسكري في الساحل أرجعها البعض إلى الضغوط الداخلية التي تتعرض لها حكومة ماكرون، حيث أثار هذا الحضور الكبير، فهو الأكبر بين الدول الأجنبية المشاركة هناك، العديد من التساؤلات على لسان المواطن الفرنسي
وقد حرصت فرنسا على الوجود العسكري عبر إستراتيجيتين: الأولى من خلال عملية “سرفال” التي أطلقتها عام 2013 في مالي، للقضاء على الجماعات المسلحة في مالي، ونجحت في تحجيم تلك الكيانات المتطرفة ودفعها إلى البحث عن ملاجئ جديدة للاختباء، وكانت نيجيريا هي المنصة البديلة للعنف بعد مالي.
وفي أغسطس 2014 تم إطلاق عملية “برخان” لتعزيز الحضور العسكري الفرنسي والأوروبي في تلك الدول بعد النشاط الكبير لأعمال العنف وتمدد الجماعات المسلحة بصورة فاقت قدرات القوات الأجنبية المتمركزة هناك، وعلى مدار السنوات الستة الماضية تواصل تلك العملية جهودها للقضاء على المتطرفين.
تسعى باريس من خلال هذا الوجود العسكري بجانب الحفاظ على حضورها الإفريقي واستعادة نفوذها القاري في محاولة لإحياء أمجاد الاستعمار القديم، إلى حماية مصالحها الاقتصادية كذلك، لا سيما أن تلك المنطقة من أغنى مناطق القارة من حيث الموارد الطبيعية والثروات المعدنية، هذا بخلاف مصادر الطاقة الثرية التي تسيل لعاب الكثير من القوى الدولية.
ضغوط داخلية
خطوة تقليص الوجود العسكري في الساحل أرجعها البعض إلى الضغوط الداخلية التي تتعرض لها حكومة ماكرون، حيث أثار هذا الحضور الكبير، فهو الأكبر بين الدول الأجنبية المشاركة هناك، العديد من التساؤلات على لسان المواطن الفرنسي عن أسباب ودوافع هذه المهمة رغم كلفتها الباهظة.
القتل المتكرر للجنود الفرنسيين هناك بجانب إرهاق خزانة الدولة التي تعاني من أزمات اقتصادية طاحنة بسبب تداعيات فيروس كورونا المستجد أحدثت حالة من التململ الداخلي حيال سياسة ماكرون الإفريقية، حيث يراها الكثيرون تفتقد لفقه الأولويات في التعامل مع المسائل الملحة.
نجحت فرنسا خلال السنوات الماضية في توظيف الحركات المسلحة والمتطرفة في تلك المنطقة لشرعنة وجودها العسكري الذي تسعى من خلاله لإحياء أمجاد الماضي الاستعماري
النائب توماس غاسليو في تعليقه على هذا الملف علق قائلًا: “بعد سبع سنوات، على الرغم من نجاحاتنا الإستراتيجية الكبيرة، فإن الوضع لا يتطور ميدانيًا. نشهد حصيلة ثقيلة، وثقيلة للغاية، وتكلفة مالية كبيرة على كاهل الأمة”، إلا أنه رفض فكرة الابتعاد عن المشهد بصورة كلية، مقترحًا “البقاء بشكل مختلف، في منظور انتقالي وفق صيغة أخف”.
ورغم ما تمثله هذه البقعة الإستراتيجية من أهمية سياسية لفرنسا كونها تضعها في مصاف القوى الدولية ذات النفوذ الإفريقي، فإن الضغوط الاقتصادية ربما تكون هي الأقوى، لكن ليس معنى ذلك أن تغادر الدولة الساحة بأكملها، ملقية بذلك سنوات طويلة من المحاربة لاستعادة النفوذ المفقود إفريقيًا، وهو ما وضعها في موقف حرج للغاية، فكيف يمكن لها تحقيق تلك المعادلة؟
اللجوء إلى الشركاء الأوروبيين
وجدت فرنسا في الشركاء الأوروبيين الحل الأكثر قبولًا للحفاظ على وجودها مع تقليص الميزانية المرهقة المخصصة لهذا الوجود الضخم، وعليه استندت إلى محورين: الأول يتعلق بتعويض غيابها العسكري بقوات من بعض دول أوروبا للحفاظ على مساحة الأمن والسيطرة الموجودة في مواجهة الجماعات المسلحة.
ومن المقرر أن يعتمد ماكرون على قوات “تاكوبا” وهي القوات الخاصة الأوروبية المساندة للقوات المالية في القتال، التي تلعب دورًا كبيرًا في تأهيل الجيش وإعادة بناء الثقة بين الجنود والسكان، وتعتمد باريس كذلك جدًا على تاكوبا، وهي مجموعة من القوات الخاصة الأوروبية التي من المفترض أن تساند الماليين في القتال وتساعد في إعادة بناء الثقة بين هؤلاء الجنود والسكان، مع الوضع في الاعتبار أن مئة جنجي من فرنسا وإستونيا أنهوا مهمتهم الأولى في ليبتاكو (شمال شرق) أكتوبر الماضي، وسينضم إليهم 60 تشيكيًا قريبًا ثم 150 سويديًا في عام 2021.
أما المحور الثاني فهو تقديم الدعم قدر المستطاع لجيوش دول الساحل، في محاولة للحيلولة دون أي تطورات مفاجئة تهدد مصالح فرنسا في إفريقيا، يتضمن ذلك دعم الأنظمة السياسية كذلك والتصدي لأي اختراقات على الصعيد السياسي تهدد المصالح الفرنسية في دول تلك المنطقة.
وفي الأخير لا تتوانى فرنسا عن استخدام الأساليب غير الأخلاقية كافة من أجل الحفاظ على استعمارها لدول إفريقيا ونهب ثرواتهم وحلب مواردهم، وقد نجحت خلال السنوات الماضية في توظيف الحركات المسلحة والمتطرفة في تلك المنطقة لشرعنة وجودها العسكري الذي تسعى من خلاله لإحياء أمجاد الماضي الاستعماري.