“الشعب المصري متدين بطبعه” .. تعتبر هذه العبارة من العبارات الأكثر تداولاً لوصف الشعب المصري، والتي أصبحت في حاجة لبعض من المراجعة، خصوصًا مع تصاعد حالات الانتحار في الفترة الأخيرة.
وارتفع عدد المنتحرين في مصر مؤخرًا ليصبح إجمالي المنتحرين خلال شهر سبتمبر الماضي 15 حالة آخرها أمس الأول في حالة لمجند بالجيش في مدينة الأقصر جنوبي مصر.
وفي سؤال عدد من الأطباء النفسيين ورجال الدين عن السبب الذي ينتحر لأجله المصريون، قال “هاشم بحري” رئيس قسم الطب النفسي بجامعة الأزهر إن “معدلات الانتحار في مصر لا تقارن بمعدلات الانتحار في العالم رغم الزيادة الأخيرة”
واعتبر بحري أن “الصدفة هي من لعبت دورًا كبيرًا في تزامن حالات الانتحار بمصر بشكل يوحي وكأننا بصدد ظاهرة جديدة غريبة على ثقافة الشعب المصري”.
ومضى قائلاً في تصريحات لوكالة الأناضول إن “هناك 4 أسباب نفسية تدفع الأشخاص للانتحار، أبرزها “الاكتئاب العقلي”، وهو ذلك المرض النفسي الذى يشعر بمقتضاه المريض أنه السبب في كل المآسي التي يعانيها؛ ما يجعله يعتقد بأن وضع حد لحياته سيضع حدًا لتلك المآسي أيضًا”.
والسبب الثاني، حسب بحري، يُعرف بـ “الاضطرابات الشخصية”، التي تصيب شخصيات تعاني من الهشاشة النفسية عقب تعرضها لأزمة تعجز عن إيجاد حل لها، وهنا يفكر المنتحر في طريقة استعراضية ينهي بها حياته كي يلفت أنظار المجتمع إليه لأنه يحمل هذا المجتمع مسؤولية ما آلت إليه أموره”.
أما السبب الثالث، فيعرف بين أطباء علم النفس بـ “فقدان العقل” الذى يدفع المنتحر لإنهاء حياته كي يلفت نظر الناس لقضية يتبناها ويريد أن ينتصر لها لدرجة تفقده عقله وتجعله يقرر إنهاء حياته، كما فعل البوعزيزي في تونس والذي كان بمثابة شرارة ثورة الياسمين هناك في يناير 2011.
وأخيرًا يأتي “الانتحار العاطفي” الذي يُقدم عليه أشخاص مروا بتجربة عاطفية مؤلمة وتكونت لديهم قناعة نفسية بأن حياتهم انتهت مع انتهاء التجربة العاطفية.
ولفت بحري إلى أن احتمالية الانتحار تزيد عشرة أضعاف لدى الأشخاص الذين يعانون من “الاكتئاب العقلي”، وهو المرض الذي يصيب 1% من سكان العالم، ويعاني منه 900 ألف مواطن مصري، وفق أحدث الدراسات، مشيرًا إلى أن “أسباب انتحار غالبية الحالات التي كشفت عنها تحقيقات النيابة كشفت عن أن هذا المرض (الاكتئاب العقلي) هو المسيطر على معظم المنتحرين في مصر”.
ورفض بحري الربط بين انطباع التدين السائد عند الشعب المصري وبين تنامي حالات الانتحار، قائلاً “معظم حالات الاكتئاب التي أُشرف على علاجها ولديها أفكار انتحارية تمتنع عن تنفيذ هذه الأفكار بسبب الوازع الديني ويقولون لي بالنص “يكفينا عذاب الدنيا، لا نريد أن نعذب في الآخرة أيضًا”.
واختتم حديثه بالقول إن “الحد من الانتحار في مصر يرتبط بضرورة تلقي هذه الحالات للعلاج المناسب وهو التحدي الأكبر في دول العالم الثالث بشكل عام، لأن التعامل مع المرض النفسي فيها محفوف بمخاطر نظرة اجتماعية توصم المريض النفسي بالمجنون؛ ما يؤدي لإهمال العلاج الطبي ومن ثم تدهور الحالة لحد التفكير في الانتحار لأنها لم تتلق الدعم النفسي والإيماني والعلاجي المطلوب”.
مدير مركز الاستشارات النفسية والاجتماعية بالإسكندرية “عمرو أبو خليل” اختلف مع الدكتور بحري بقوله إن مصر مقبلة على ظاهرة “انتحار احتجاجي” إزاء الأوضاع “المتردية” حاليًا.
ومضى قائلاً إن “ثمة قاسمان مشتركان بين كل حالات الانتحار في مصر؛ الأول هو العوز والحاجة نتيجة لتردي الأوضاع المعيشية حتى المنتحرين لأسباب تبدو عاطفية، التدقيق فيها يكشف أنها اقتصادية في المقام الأول، لأنه لولا ضيق ذات اليد لارتبط المحبوب بمحبوبته ولتمكن الشاب من تحقيق طموحاته في الحياة بشكل يجعله يتمسك بها لا أن يهرب منها منتحرًا”.
وأضاف أن “الإنسان لا يجد سوى روحه ليحتج بها، وهي صورة احتجاج إنسانية معروفة في كل العالم تكررت كثيرًا أمام السفارات ومبنى الأمم المتحدة، وكأن المنتحر يأبى إلا أن يرسل بموته رسالة احتجاجية لشعبه وحكومته”.
ولفت أبو خليل إلى أن “موجة الانتحار حرقًا تفشت في مصر أيضًا أواخر عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك عقب انتحار البوعزيزي التونسي مباشرة؛ وذلك لأن المصريين آنذاك شعروا بأن الحياة المهينة التي ارتضوها منذ سنوات ضاقت بهم ولم تعد ترتضيهم”.
أما القاسم الثاني فهو أن “المنتحرين غالبيتهم من الشباب؛ وذلك لأن هذه المرحلة العمرية مرتبطة بتحقيق الإنجازات والأمل والتفاؤل لتحقيق الذات، فإذا ما عجز الشاب عن تحقيق كل ذلك أصبح عمره دافعًا مثاليًا للانتحار”.
واختتم تصريحاته بالتأكيد على أنه كطبيب نفسي لمس بنفسه كيف تفشى مرض الاكتئاب بين حالاته مؤخرًا وأنه بفحص الحالات يتبين أن المكتئب بات يعاني من أسباب عامة تتعلق بالوضع الحالي في مصر، تمامًا كما يعاني من أسباب تتعلق بحياته الخاصة على عكس ما حدث إبان ثورة 25 يناير 2011، حينما انحسرت أعداد مرضى الاكتئاب وباتت مهمته كطبيب في علاج الاكتئاب أسهل لأن روح التغيير التي دبت في العروق بفضل الثورة كانت تقنع الناس بأنه لا داعي للاكتئاب فالقادم أفضل.
من جانبه، قال “فكري حسن إسماعيل” عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية التابع لوزارة الأوقاف المصرية إن”الدين الإسلامي يفرق بين المنتحر عن عمد والمنتحر الذي يعاني من أمراض نفسية”.
وأضاف أن “من يصاب بمرض نفسي يؤثر على كيانه ويقدم على الانتحار فهو في هذه الحالة نرجو ألا يقع عليه العقاب الذي يناله المنتحر عن عمد مصداقًا لحديث الرسول الكريم [من تردى من فوق جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم خالدًا فيها مخلدًا .. ومن ضرب نفسه بحديدة ليقتل نفسه فهو في نار جهنم خالدًا فيها مخلدًا .. ومن تعاطى سُمًا فقتل نفسه فهو في نار جهنم خالدًا فيها مخلدًا] ما يعني أن المنتحر عن عمد بأي وسيلة كانت سيلقى هذا المصير”.
وكانت مصر شهدت خلال شهر سبتمبر الماضي، 15 حالة انتحار (بينهم 3 سيدات وطفلة) لمصريين لأسباب متعلقة بسوء الأوضاع المعيشية ومشاكل اجتماعية أخرى، وأثار هذا العدد الكبير للمنتحرين صدمة باعتبار أن الإقدام على الانتحار غير شائع بين المصريين.
وبحسب وكالة الأناضول فإن أبرز حالات الانتحار كانت في محافظة المنيا -وسط مصر – والتي شهدت 7 حالات انتحار (بينهم 3 سيدات وطفلة)، خلال سبتمبر، ففي 5 سبتمبر انتحر طالب يدعى “ممدوح فراج” بإطلاق الرصاص على نفسه، لتكرار رسوبه في الثانوية العامة.
وبعد هذه الحادثة بيومين، انتحرت طفلة تدعى رحمة علاء (13 عامًا)، شنقًا بحبل يتدلى من شجرة أمام منزلها، بسبب شعورها بالتجاهل والرفض من زوجة أبيها.
وفي 18 سبتمبر أقدمت ربة منزل على الانتحار شنقًا بمدينة العدوة لقيام زوجها بحرمانها من رؤية أولادها وخلافاتها المتكررة مع الزوج، كما انتحر شاب شنقًا داخل الشقة التي يقيم بها، بمدينة الأمل بالسويس، شمال شرقي مصر، لمروره بأزمة نفسية بسبب تعطله عن العمل.
أما حالة الانتحار الأبرز والتي تحولت لحديث مواقع التواصل الاجتماعي فكانت لمواطن يدعى فرج رزق (48 سنة) انتحر شنقًا على إحدى اللوحات الإعلانية بطريق مصر – الإسماعيلية شمال شرق البلاد.