أشارت التصريحات التي عبر عنها المرشح الديمقراطي جو بايدن في المناظرة الرئاسية الأخيرة – أنه سيكون حريصًا على أن تدفع إيران الثمن نتيجة تدخلها في الانتخابات الأمريكية -، إلى طبيعة السياسة الخارجية التي من الممكن أن يعتمدها المرشح الديمقراطي حيال إيران بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية.
عملت إيران خلال الفترة الماضية على صياغة فرضيات سياسية عن طبيعة المشهد القادم، هل ستكون أمام استمرار لسياسة التصعيد أم سيلجأ بايدن نحو سياسة تهدئة، تعقبها مرحلة الدخول في مفاوضات جديدة حيال ملفها النووي؟ فمما لا شك فيه أن بايدن ليس صديقًا لإيران كما يشاع، كما أنه ليس عدوًا لها، كما أن الذي سيحدد مسار بايدن هي إستراتيجية الأمن القومي التي يرسمها الرئيس مع فريقه الرئاسي بعد تسلمه رئاسة البيت الأبيض، فكيف سينظر بايدن لإيران؟ وهنا من المفيد الإشارة إلى أن إستراتيجية الأمن القومي عام 2017، اعتبرت إيران دولة عدوة وسخرت الإدارة الأمريكية في سبيل ذلك، مجمل الأدوات السياسية والاقتصادية والعسكرية، لمواجهة إيران في الشرق الأوسط.
بالنظر إلى المآزق الداخلي والخارجي الذي تعانى منه إيران اليوم، يبدو أن الوقت حان للتوصل إلى اتفاق أمريكي إيراني جديد، حيث أثارت تغريدة نشرها المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي في أكتوبر 2020، تكهنات في وسائل إعلام إيرانية معارضة، بشأن إمكانية عودة طهران لإظهار “مرونة” مجددًا حيال واشنطن حال فوز بايدن في الانتخابات الرئاسية، والمرونة التي تحدث عنها خامنئي، تعكس بدورها الضعف الذي يعتري النظام الإيراني بعد مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني ومحاولة إنتاج صيغة سياسية تنقذ إيران من كماشة العقوبات الاقتصادية المشددة التي أحاطت بها خلال ولاية ترامب.
إن نجاح الولايات المتحدة في توسيع مسارات الضغط على إيران، سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، قد تؤدي إلى هذه النتيجة بالنهاية، خصوصًا إذا تمخضت اتفاقات السلام مع “إسرائيل” عن دخول “إسرائيل” في شراكات أمنية موسعة مع دول الخليج العربي، ومن ثم الوقوف قبالة السواحل الإيرانية، عندها ستفقد إيران الميزة الجغرافية التي حصلت عليها في سوريا ولبنان، أو حتى في مضيق باب المندب، وستتفرغ عندها الولايات المتحدة لمواجهة الصعود الصيني في آسيا والمارد الروسي في الشرق الأوسط، بالإطار الذي يحقق بيئة إقليمية شرق أوسطية قادرة على الاستقرار والتنمية.
ما الصفقة التي تبحث عنها مع بايدن؟
مما لا شك فيه أن الصفقة النووية التي توصلت إليها إيران مع القوى الكبرى والولايات المتحدة، عندما كان بايدن آنذاك نائبًا للرئيس باراك أوباما في أبريل 2015، شكلت أحد أبرز المتغيرات الإستراتيجية في الشرق الأوسط، وتحاول إيران اليوم، ومع قرب فوز بايدن بانتخابات الرئاسة الأمريكية، إعادة إنتاج ذات الصفقة مع الولايات المتحدة، تحفظ من خلالها حقوقها النووية مقابل تأمين النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط والكف عن الهجمات التي تطال المنشآت النفطية في دول الخليج العربية أو تهديد أمن “إسرائيل”.
ورغم سعي إيران إلى تقديم العديد من الرسائل الإيجابية في هذا الإطار، منها الدور الذي لعبه اللوبي الإيراني في الولايات المتحدة، وتحديدًا في واشنطن العاصمة وميشيغان، من دفع الجاليات الإيرانية هناك للتصويت لبايدن، فإن واقع السياسة يبدو غير ذلك، خصوصًا في موقف قادة الحرس الثوري الذين يصرون أن الولايات المتحدة لا بد أن تدفع ثمن اغتيالها لسليماني، كما عبر عن ذلك القيادي في الحرس الثوري العميد رضا نقدي.
نجاح الولايات المتحدة في توسيع مسارات الضغط على إيران، سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا ستؤدي إلى دخول “إسرائيل” في شراكات أمنية موسعة مع دول الخليج العربي
فأي صفقة لن تفضي لخروج القوات الإيرانية من سوريا وضمان أمن “إسرائيل” ونتائج حاسمة للحوار الإستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة، لن تكون هناك مبادرات أخرى قد تدفع بايدن للحديث عن اتفاق جديد مع إيران، ورغم تمسكه بالاتفاق النووي، فإنه يرى في الوقت ذاته أن الواقع الإقليمي الذي أسسته سياسة ترامب لن يسمح له بالعودة لاتفاق 2015، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بسياسة التطبيع التي تشهدها المنطقة اليوم أو الاعتراف بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل”، فهي كلها ملفات تتداخل بصورة وأخرى، بسياسة المواجهة مع إيران.
ما شكل ردة الفعل الإيرانية إذًا؟
تنطوي عملية دراسة الاحتمالات المستقبلية للسياسة الأمريكية حيال إيران، على أهمية كبيرة، كونها ستحدد شكل التفاعلات الأمريكية الإيرانية وتداعياتها ونتائجها اللاحقة وانعكاساتها على مجمل المستويات الإقليمية والدولية، وعليه يمكن القول إن هناك العديد من الاحتمالات المستقبلية في هذا الإطار، سوف يتم تناولها على النحو الآتي:
السيناريو الأول: استمرار الإدارة الأمريكية الجديدة في الإبقاء على العقوبات الاقتصادية، ويعكس هذا السيناريو حقيقة عدم رغبة الولايات المتحدة التوجه نحو خيار الحرب المفتوحة، وهو خيار استبعدته الولايات المتحدة في أكثر من مناسبة خلال ولاية ترامب، كما أنه يعكس رؤية أمريكية أن الاستمرار بنهج العقوبات المفروضة على إيران، قد يجبر إيران بالنهاية على الانصياع للمطالب الأمريكية، خصوصًا أن إيران تواجه أوضاعًا اقتصادية واجتماعية وصحية صعبة، وما زاد من حدة هذا الأمر، التداعيات الخطيرة التي أفرزتها جائحة كورونا، وهو ما أشار إليه المسؤولون الإيرانيون في أكثر من مناسبة.
السيناريو الثاني: تدرك إيران أن استمرار الولايات المتحدة بنهج العقوبات الاقتصادية سيجعلها خاضعة لضغوط كبيرة، وهو ما يستدعي منها مواجهة هذه الضغوط بضغوط مقابلة، عبر تنشيط جهود الوكلاء، وهو سيناريو مطروح بقوة أمام المسؤوليين وقادة الحرس الثوري في إيران، من أجل الحفاظ على مصالح إيران ونفوذها الإقليمي في الفترة المقبلة.
السيناريو الثالث: يفترض أن إيران ستعيد النظر بسياستها، وذلك انطلاقًا من رؤية أن تصاعد الضغوط الأمريكية على إيران وتزايد مؤشرات الإخفاق الإيراني في استيعاب تداعيات انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، سوف تؤدي بمجملها بصانع القرار الإيراني إلى تبني سياسات جديدة، تهدف من خلالها إلى إعطاء قوة دفع جديدة لإستراتيجيتها في المنطقة، بالشكل الذي يحفظ نفوذها ومصالحها، عبر إتمام صفقة جديدة مع إدارة بايدن.