منذ عدة أيام خرجت لنا منصة نتفليكس بمنتجها الأكثر إثارة للجدل في الأوساط الفنية العربية سواء في الحقيقة أم على المنصات الاجتماعية، أول مسلسل مصري بالكامل تُقدِم نتفليكس على إنتاجه، من إخراج عمرو سلامة بالمشاركة مع ماجد الأنصاري وبطولة أحمد أمين، مقتبس عن سلسلة مصرية لروايات الجيب تسمى “ما وراء الطبيعة” وهي واحدة من الروايات الأكثر مبيعًا وتأثيرًا في أوساط الشباب، ليجتمع على حبها الكثير من الأجيال سواء الشابة أم المراهقة أم حتى الكبيرة والناضجة، بغض النظر أن محتوى الروايات في أول الأمر كان موجهًا لجمهور المراهقين.
توقع الجميع تلك الفرقعة الإعلامية، فقد حل المسلسل كـ”تريند ـ Trend” على مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصًا تويتر الذي قفز للمرتبة الأولي في دولة مصر كمؤشر على نجاح باهر من الناحية التجارية، بالإضافة لحلوله في مراتب متقدمة في نسبة المشاهدة على منصة نتفليكس نفسها.
الحق يقال أنا لم اقرأ السلسلة ولن أضعها في مشروع قراءاتي المستقبلية، لذا ربما يبدو نقدي غير محايد بالنسبة للمتعلقين بالسلسلة الروائية، فأنا لا أتحدث من خلفية أثارتها عاطفة قراءة السلسلة لسنوات طويلة أو ألهبتها عوالم الدكتور رفعت إسماعيل بجرعات من التشويق والإثارة على مدار أعداد تفوق الثمانين عددًا، فالرأي هنا انطباعي عما رأيته.
لمن؟
في أول الأمر يجب أن نسأل أنفسنا هل المسلسل موجه لفئة معينة أو يستهدف شريحة معينة، هل هم قراء الرواية فقط أم جمهور المراهقين ومحبو الأفلام التجارية؟ هل يستهدف سن معينة؟ الجواب في النهاية هو لا، فقد صنع المسلسل لجميع الفئات كتصنيف غير سائد في الوطن العربي رغم وجود مسلسل سبق أن تناول هذا التصنيف (الرعب) وهو مسلسل “أبواب الخوف” الذي أظنه أفضل من “ما وراء الطبيعة” رغم ضعف الإمكانات.
وأهمية السؤال تقع في فهمنا لطريقة العرض، هل هي مناسبة لإنتاج بهذا الحجم؟ هل طريقة الكتابة هي الأصح والأكثر قربًا للمشاهد، وبناء عليه سيتم وضع نقد موضوعي.
فقد استدعى مسلسل “ما وراء الطبيعة” الروح الجسورة لكل محبي السلسلة وكل عاشقي كتابات الدكتور أحمد خالد توفيق، والحق أن أخذ المبادرة لإنتاج مسلسل مأخوذ عن سلسلة روايات الجيب التي تحمل نفس الاسم ليس شيئًا غريبًا، لأن السلسلة تحظى بشعبية هائلة بين جمهور القراء وما زالت تجد لها مكانًا في قلوبهم وأظن أن هذا ضمن نجاح المسلسل تجاريًا، لذلك لا يوجد الكثير للحديث عنه من الناحية التجارية.
إنما بالعودة إلى السؤال ذاته “لمن؟” فطرح السؤال في البداية بدافع إيجاد مبرر للحبكة الضعيفة والكتابة التي تناسب جمهور مراهقين أكثر منه الجمهور الناضج الواعي الذي لديه خلفية وخبرة بمشاهدات أخرى يستطيع من خلالها الحكم، لكن رغم ذلك، فهناك بعض الحلقات التي مررت شعورًا لطيفًا واتسمت بالصناعة الجيدة والكتابة المتوسطة، إنما بالفرجة والتدقيق، سيجد المشاهد أن أكثر النقاط التي يجب تسليط الضوء عليها هي الكتابة بوجه عام، فالكتابة تصدر لك إيحاءً بالضحالة، يفضي للشعور بركاكة عمل لا يرقى للمستوى المطلوب رغم الإنتاج الفني الهائل، ولم يتمكن من استخدام الخامة المميزة بين يديه وتحويلها لمنتج بصري، ليضيع على نفسه فرصة رائعة لصنع شيء ممتاز.
أسلوب السرد
مشاهدة الحلقة الأولى أعطتني انطباعًا سلبيًا لطريقة الحكي التي اختارها كاتب السيناريو والمخرج للتعبير عن البطل رفعت إسماعيل، وهي تقنية الصوت الداخلي، والحق أن هذه التقنية تحتاج إلى قلم ماهر وجودة توظيف هائلة لكي تقوم بدورها الطبيعي كتقنية موظفة بشكل جزئي للتعبير عن دواخل الشخصية، لأن تقنية الصوت الداخلي على وجه الخصوص سلاح ذو حدين، إما أن يرفع النسق ويعمل كوعاء شفاف للبطل لا يراه المتلقي أو يشعر به وإما يشد العمل إلى الأسفل ويعمل كأداة زائدة يمكن التخلي عنها بسهولة، وهذا لأن فن السينما أو التليفزيون هو فن بصري في المقام الأول، فأنا لا أود أن أسمع ما يمكن أن أراه، والسيناريست الجيد هو الذي يمرر المعلومات للمتلقي في هيئة صور وليست أصوات.
وهذه أول عثرة وقع فيها الكاتب، وهي التماثل بين القراءة والعرض، فقراءة الرواية غير عرضها على الشاشة، فيمكن التخلي عن أجزاء كثيرة من الأصوات الداخلية لأجل صورة أو موقف يوضح بعدًا شخصيًا أكثر عمقًا من الكلمات الممزوجة بالعاطفة، وإنما وباستمرار المشاهدة ربما هدأ رتم الصوت الداخلي ووضِع في شبه نصابه الصحيح.
النقطة الثانية التي يمكن أن نضمها إلى الأسلوب السردي، هي تلفيق الجمل من الروايات مباشرة نحو وجه المتلقي، ونعم أنا شعرت بهذا، تلك “المنولوجات” الداخلية المأخوذة نصًا من أسطر الروايات لتعطي انطباعًا عميقًا بالدفء وتحرك النوستاليجا في قلوب محبي السلسلة كانت شيئًا أكثر ابتذالًا من أي شيء آخر، ووقعت في فخ التسطيح، لتكون علامة استفهام في ذهن المشاهد، هل تلك الاقتباسات هي كل ما له علاقة بالسلسلة المكتوبة؟ هل هي مجرد مداعبة لمحبي أحمد خالد توفيق ليصفقوا ويتذكروه باحترام؟
والحق أن تلك الاقتباسات كان لها أثر عكسي بالنسبة لي، ولم يكن لها دور في دفع الحبكة أو حتى تطور علاقة الشخصية بنفسها أو بالشخصيات الأخرى، إنها مجرد كلمات عابرة مثل التي نسمعها في الموالد أو يقولها الزجالون في أزجالهم المحلية، فقداسة النص أو قيمته تأتي من الحالة، التي لم تكن موجودة من الأساس، لذا فتلك الاقتباسات ليست لها قيمة حتى بالنسبة لمحب السلسلة لأنها لا ترتبط بحالة أو موقف بصري يستدعي هذا الاقتباس.
وأنا هنا لا أهاجم الصورة ككيان منفصل عن الحكاية، فالواقع يقول غير ذلك، فالصورة هي أفضل شيء في المسلسل على كل المستويات بجانب الموسيقى التصويرية، وأنا هنا أحيل الفضل لمدير التصوير الذي كان يعرف عمله جيدًا لينتج لنا صورًا وكادرات وألوانًا توحي بالحقبة الزمنية والحالة الشعورية، بالإضافة أن المزاج اللوني السائد الـ(Mode) كان جيدًا.
وهنا ينقلنا التيار لنقطة مهمة، وهي الحبكة، هل الحبكة كانت على المستوى المطلوب؟ الحق أن الحبكة مائعة ليس لها طعم، في أول الأمر يقذفك في وسط الأحداث وفي النهاية يغلق المسلسل بنهاية تشبه بعض الأفلام الهندية، فالأحداث في الحلقة الأخيرة مكثفة ولا تخدم البنية الأساسية ككل.
وخلال حلقات المسلسل نجد الكثير من الوحوش تظهر ويتم القضاء عليها في مدة مضغوطة كأننا في سباق، لا توجد “فرشة” لتمهيد الحدث القادم، كل ما هو موجود لا يؤسس لحبكة رئيسية يبني عليها مسلسل لعدة مواسم إنما يؤسس لقصص جانبية لا تظهر إلا وتقع بعد عدة دقائق، لذا فالحبكة داخل الحلقات مؤقتة لا تخدم إلا الموقف الدائر أو الصراع القائم، وهذا الموقف يخدم لحظته هو فقط، فالدكتور رفعت هذا الرجل المهزوم يظهر في بعض الأحيان المخلص، لكن في النهاية يظهر أن كل هذه الأشياء من فعل مخلوق ميتافيزيقي آخر، صراعات تصعد بذروة جزئية ثم تخبو، وحوش تظهر من العدم وتخبو في العدم أيضًا، دون تاريخ أو تمهيد، أخطار تقفز للأمام ثم تذوي بتقنية (المدد الغيبي ــ Deus Ex Machine) المعتادة، وذلك انعكس على أغلب الشخصيات، فتبدو ورقية، دون روعة أو عمق أو دوافع منطقية تخدم الفكرة.
أنا لا أقول إن المسلسل يخلو من الإيجابيات والمشاهد المصنوعة بفن وحرفنة، لكن الأخطاء كانت كثيرة وغريبة، فالحبكة يتم تصديرها ككيان منفصل عن الحكاية الأصلية، وهذا يضعف البنية التأسيسية غير المدعومة بشريط من اللقطات التي تمهد المشاهد للعالم، فرفعت يقع في المشكلات دون سبب معين، بالإضافة لمحاولة نقل بعض الثيمات المعروفة في أفلام رعب مشهورة، لكن هذا ليس حديثنا، لذا كان من الممكن للمخرج أن يعطي لنفسه مساحة أكبر ويفرش للأحداث ويأخذ حكايتين بدلًا من خمس ويهدئ الرتم قليلًا في بعض الحلقات ليبني دوافع حقيقية وعالم يمكن تصديقه والدخول فيه.
الشخصيات
معالجة الشخصيات داخل حبكة روائية شيء بالغ الصعوبة، لأن الرواية كيد عليا وضعت حدودًا مسبقة للشخصيات ورسمت ملامحها، لذا فالمعالجة شيء ليس سهلًا، فالخطأ الذي يقع فيه أغلب كتاب السيناريو هو أخذ الشخصية بحدودها، لكي تشبه الشخصية الروائية، وهذا لعدة أسباب، منها المحافظة على جمهور العمل الأدبي والإخلاص للروايات والكاتب وهكذا، لكن الشيء المبهم وغير المعروف هو أن حدود الرواية تختلف تمامًا عن حدود المنتَج البصري، لذلك فقد يبدو الأداء ممتازًا ويصل إلى شيء استثنائي لكن محدد، الشخصية ورقية، بمعنى أن اجتهادها الشخصي لا يضيف شيئًا جديدًا حصريًا للشاشة، فالشخصيات جميعها لا تتسم بالديناميكية والحيوية نفسها التي تتسم في بقية الأعمال، فالتطورات طفيفة وأحيانًا غير موجودة، والرتم السريع يقلل من فرص نضج الشخصية أكثر في عقل المتلقي.
يظهر أحمد أمين بشخصية رفعت إسماعيل شخصية باهتة، هل كان يود المخرج أن يلعب في منطقة البطل المهزوم، بيد أن شعور الاتقاد والخفة والذكاء الذي يتسم بهم رفعت إسماعيل ليسوا موجودين، كل ما هو ظاهر على ملامح الشخصية هو الخطأ، الخطأ في تقدير نفسه، الخطأ في تقدير الآخرين، كل ما يفعله هو الخطايا، شخصية كابوسية تجاه نفسها، لم يضف لها أحمد أمين سوى بعد يثقل الشخصية أكثر ما يخدمها، لكنه شخص موهوب، وأغلب من رأوا الشخصية شعروا بالاستحسان.
التخوف الكامن من أتباع العمل الأدبي أحدث اضطراب في الكتابة ظاهر بوضوح في تطور الشخصيات، لكن لا أنكر أن شخصية رفعت هي الشخصية الوحيدة التي تم التخديم عليها بشكل جيد، لكن في بعض الأحيان شعرت بآليته في الحوار وهذا شيء مزعج.
شخصية ماجي المدفوعة بحبها، كانت جيدة، لكنها شبح لصيق لرفعت بشكل لا يصدق، وضعها في كل حلقة شيء أعطاني إيحاءً أنها بطلة المسلسل، لكنها لم تضف له أي شيء إلا بعض اللقطات العاطفية، لم تدفع الحدث، وحتى لم يكن لها أثر جانبي على حياة رفعت بشكل يجعلنا نشعر بأهميتها، لذلك كان يمكن الاكتفاء بحلقتين فقط، بيد أن أداء الشخصية كان جيدًا وحاضرًا، باللهجة والمحاولات الصعبة في فرض السيطرة.
عنصر الموسيقى
هو العنصر الأقوى والأفضل في المسلسل، فالنغمات ناعمة وتساعد المتلقي أن يخوض أكثر في عالم المسلسل، بالإضافة أنها أنقذت مشاهد كثيرة جدًا جدًا، ورفعت الرتم في بعض اللقطات، فأظن أنها أفضل شيء في المسلسل.
في النهاية، المسلسل مسلٍ وهذا شيء جيد، إنما الرعونة في الكتابة جعلت الحكايات مضحكة في بعض الأحيان، بالإضافة أن البنية التأسيسية كانت مهترئة وتحتاج إلى الكثير من التخديم، لتعطي دوافع لخدمة أفعال وردود فعل الشخصيات، لكن في المجمل تجربة تستحق المشاهدة.