قبل الـ16 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لم يكن كثير من مستخدمي شبكة الإنترنت يسمعون عن شخص يدعى “أولوداه إيكيوانو”، لكن حين احتفى محرك البحث “جوجل” بميلاده كأحد أبرز كتاب القارة الإفريقية غير المعروفين لشريحة كبيرة من أبناء القارة، سارع الجميع للبحث عن السيرة الذاتية لهذا الكاتب الذي دفع المحرك العالمي لإحياء ذكرى مولده.
معظم من حملوا لواء الدفاع عن قضايا الحريات كانوا من أبناء الطبقة الوسطى وبعضهم خرج من رحم النخبة، لكن الاستثناء أن تكون عبدًا ثم تصبح شعلة التحول العظمى لمناهضة الرق وتساهم في إلغاء قوانين الرق في واحدة من أعظم إمبراطوريات العالم، بريطانيا العظمى.
أولوداه إيكيوانو (1745 – 1797م) الكاتب والشاعر الإفريقي الذي خلّد اسمه بأحرف من نور في سجلات القارة السوداء، حين واجه العبودة بشراسة، مؤمنًا بعدالة قضيته، زاهدًا في حياة لا تداعبها نسمات الحرية، هذا العبد الذي أجبر سيده على منحه حريته ثم لعبت سيرته الذاتيه دورًا في توجيه الرأي العالم البريطاني ضد ظاهرة الرق التي كانت منتشرة في أوروبا في هذا الوقت.
نشأ الطفل الإفريقي نشأة صعبة، حيث الفقر المدقع الذي يخيم على أرجاء القرية التي ولد بها
إيمانه بقضيته تواصل حتى بعد وفاته، فحين رحل الجسد في 1797م ظلت روايته التي وثق فيها مسيرة حياته “القصة المثيرة للاهتمام لحياة Olaudah Equiano” مسمارًا ينخر في عظم قوانين العبودية البغيضة، وبعد مرور 10 أعوام تقريبًا على رحيله سنت بريطانيا العظمى قانون تجارة الرقيق عام 1807، لتخلد بهذا القانون مسيرة الكفاح الطويلة لهذا العبد الذي صار سفيرًا للكرامة الإفريقية في مجتمع البيض.. فماذا نعرف عنه؟
في كنف العبودية
ولد إيكيوانو في منتصف أكتوبر/تشرين الأول 1745م في قرية “إيساكا” الواقعة جنوب شرق نيجيريا، لقبيلة تدعى “الإيبو” أو “إبواي” وكان الابن الأصغر لعائلة مكونة من 6 أبناء ذكور وأنثى واحدة، ورغم تباين الآراء بشأن موطنه الأصلي بين بنين ونيجيريا، فإن الكثير من الروايات رجحت ما قاله بنفسه في مذكراته أنه ولد في نيجيريا.
نشأ الطفل الإفريقي نشأة صعبة، حيث الفقر المدقع الذي يخيم على أرجاء القرية التي ولد بها، فكان يُترك في المنزل رفقة شقيقته فيما يتولى الأشقاء الكبار مسؤولية العمل في الخارج لتوفير لقمة العيش، واستمر دوره في رعاية شؤون المنزل حتى بلغ من العمر 11 عامًا.
وفي ذات يوم فوجئ بقوة من المسلحين يقتحمون بيته ليتم اختطافه وشقيقته، ثم بيعهما عن طريق تجار رقيق أوروبيين في سوق العبيد، فحملته سفينة لنقله لأوروبا عبر المحيط الأطلسي رفقة 244 عبدًا آخرين، ومنها إلى باربادوس في جزر الهند الغربية البريطانية، ثم في النهاية إلى مستعمرة فرجينيا.
ما إن وصل إلى هناك وهو ابن الأحد عشر عامًا حتى لفت أنظار ضابطًا بالبحرية الملكية البريطانية يدعى مايكل هنري باسكال، الذي سرعان ما اشتراه ليغير اسمه إلى “غوستافوس فاسا”، وهو اسم ملك السويد الشهير “غوستاف الأول” الذي انتخب بعد حرب التحرير السويدية 1523.
لم يكن غوستاف الاسم الوحيد الذي سمي به الشاب الإفريقي، حيث أعيدت تسميته مرتين: فسمي على متن السفينة الأوروبية التي جاء عليها باسم “مايكل” ثم “يعقوب” الذي أطلقه عليه مالكه الأول الذي اشتراه من التجار الأفارقة قبل ترحيله إلى أوروبا.
لم يكن “يعقوب” الاسم المفضل لإيكيوانو وطالما اعترض عليها، غير أن النتيجة كانت دائمًا التنكيل به ومعاقبته بالصفع والضرب وفق ما ذكر هو في شهادته، لكن ما إن اشتراه الملازم البريطاني حتى أسماه تيمنًا بملك السويد، وهو الاسم الذي عُرف به حتى وفاته.
شراء حريته
تلقى إيكيوانو العديد من الخبرات في مجالات العلوم المختلفة لا سيما علوم البحار على يد مالكه باسكال، الذي لازمه في جولاته البحرية، هذا بجانب فنون الحرب والقتال خلال حرب السنوات السبعة التي خاضتها بريطانيا مع فرنسا، وكان متخصصًا حينها في جلب الأسلحة والبارود للجنود البريطانيين.
ظل قرابة 20 عامًا بعد حصوله على حريته يتنقل في العديد من مجالات العمل المختلفة
وكان نتيجة لذلك أن اكتسب احترام سيده الذي أرسله إلى لندن للحصول على تعليمه الأساسي هناك، حيث كان مقتنعًا بقدراته ومؤهلاته مقارنة بغيره من العبيد الآخرين، وفي هذه الفترة، وتحديدًا عام 1759 اعتنق الشاب الصغير المسيحية وتعمق في دراستها، وهو ما ساهم بشكل كبير في تشكيل معتقداته الرافضة للعبودية.
كان باسكال قد وعده بالحرية بعد انتهاء الحرب، لكن لم يف بوعده معه، حتى تم بيعه إلى الجنرال جيمس دوران في منطقة الكاريبي، الذي عقد معه صفقة بأن يلزم خدمته لعدة سنوات نظير نيل حريته، وبالفعل التزم البحار الأمريكي بوعده، حيث سمح له بشراء حريته.
لم يشأ الشاب المحرر حديثًا أن يغادر مالكه القديم، فظل بجواره في أمريكا لمساعدته في شؤون التجارة كشريك وليس عبدًا، وهو ما أثار حفيظة تجار الرقيق في أمريكا الذين حاولوا اختطافه أكثر من مرة وإعادته لحياة الرق مرة ثانية، لكنه نجح في الإفلات منهم.
وظل قرابة 20 عامًا بعد حصوله على حريته يتنقل في العديد من مجالات العمل المختلفة، بين التجارة والبحرية والزراعة، حيث عمل كعضو طاقم سفينة ومساعد القبطان في بريطانيا 1768، سافر بعدها على متن سفينة البحرية الملكية (HMS Racehorse) إلى القطب الشمالي في رحلة لإيجاد طريق شمالي شرقي مؤدٍّ إلى الهند، ثم عمل مشرفًا على مشروع مزرعة لإنتاج القطن وزيت الخروع على شاطئ “موسكيتو” الذي كانت بريطانيا تسيطر عليه في الساحل الشرقي لنيكاراغوا الحاليّة وكان ذلك عام 1775م.
سيرته الذاتية ومحاربة الرق
آمن Equiano بأن الحرية حق إنساني أصيل ولا وجود لقوانين الرق والعبودية، وظل يحاربها على مدار سنوات طويلة، فيما حثه أصدقاؤه المقربون على توثيق تجربته في الرق في شكل كتاب، كونه أحد أبناء تلك التجربة المريرة، على أمل أن يحرك أصحاب الضمائر في المجتمع الأوروبي.
في البداية لم يلق لهم بالًا بشأن إصدار كتاب توثيقي لتجربته في الرق، لكن مع استمرار الضغوط وتغول تجار الرقيق، اضطر للاستجابة لهذا المطلب وألف كتابه الشهير “The Interesting Narrative of the Life of Olaالudah Equiano, or Gustavus Vassa, the African. Written by Himself” وكان ذلك عام 1789.
أثار الكتاب ضجة كبيرة في المجتمع الأوروبي لما به من تجارب مأساوية تعرض لها إيكيوانو على أيدي أسياده من الأحرار، مستعرضًا صور التنكيل والتعذيب التي واجهها طيلة سنوات الرق، وهو ما دفع الكتاب لأن يحقق أرقام مبيعات جيدة جدًا في طبعته الأولى.
نجحت السيرة الذاتية التي كتبها المؤلف الإفريقي عن حياته الخاصة في مخاطبة ضمائر السادة وملوك أوروبا وعلى رأسهم ملوك وأمراء بريطانيا العظمى، فيما اتسعت دائرة التعاطف مع الرسالة الأساسية للكتاب وهي إلغاء نظام الرق في الإمبراطورية التي كانت إحدى أبرز ساحات الرق في العالم في هذا الوقت.
وقد استغل الناشط الحقوقي كتابه للترويج لفكرته، وهو ما ساعده في تعزيز نشاطه المجتمعي في هذا المضمار من خلال عضوية العديد من الكيانات والجمعيات الحقوقية، فشغل منصب قائد المجتمع الأسود الفقير في لندن، وحصل على عضوية جمعية المراسلات، هذا بجانب دعمه المعلن لعدد من الجمعيات ذات الأهداف المشتركة ومنها “جمعية لندن التبشيرية”.
سفير الكرامة الإفريقية
رغم غيابه عن موطنه الأصلي، إفريقيا، وهو في سن صغيرة “11 عامًا” متجهًا إلى أوروبا، فإن ذلك لم يمنع أن تظل القارة حاضرة في ذهنه وعلى قائمة أولوياته، فكان خير سفير لها في المجتمع الأبيض، وقدم صورة مشرقة عن القارة وإسهاماتها في الحضارة الإنسانية.
تركت وفاته أثرًا كبيرًا في نفوس الأوروبيين، حيث بقيت دعوته لمحاربة الرق باقية رغم الرحيل
في مذكراته التي حققت شهرة كبيرة خصص Equiano مساحات كبيرة لإبراز الصور الإيجابية للمجتمعات الإفريقية، حيث استعرض أخلاق بعض القبائل وعلى رأسها قبيلته “الإيبو” وما يتمتعون به من مكارم الضيافة وحسن الاستقبال، هذا بخلاف نقل تراثهم الشعبي في الأزياء والأغاني إلى أوروبا.
كما تطرق إلى الدور الكبير الذي لعبته إفريقيا في إثراء الحضارة الإنسانية على مدار عقود طويلة مضت، وكيف أن بعض دول القارة في حضارتها تسبق الحضارة الغربية بمئات السنين، وأنه لولا يد الاستعمار التي خنقت إفريقيا لكان لها مكانة أخرى غير التي تتبوأها الآن.
وردًا على الصورة الذهنية التي انتشرت في أوروبا في هذا الوقت عن جهل إفريقيا والظلام الذي تحياه شعوبها، ظلام الجهل والتكنولوجيا في آن واحد، أكد الكاتب النيجيري المولد كذب تلك الادعاءات التي تجافي الحقيقية، لافتًا إلى أنه يحسب لتلك القارة أنها تميّزت بعالَمها من الحكم الأخلاقي في وجه العالم القاسي والحكم الأوروبي المتغطرس.
وقد تزوج المناضل الحقوقي الإفريقي من البريطانية سوزانا كولين التي توفيت في فبراير 1796 عن عمر يناهز 34 عامًا بعدما أنجبت له ابنتين: آنا ماري وجوانا، فيما توفيت ابنته الكبرى بعد وقت قصير من وفاته هو، في الـ31 من مارس/آذار 1797م عن عمر يناهز 52 عامًا في مدينة وستمنستر البريطانية.
تركت وفاته أثرًا كبيرًا في نفوس الأوروبيين، حيث بقيت دعوته لمحاربة الرق باقية رغم الرحيل، وفي عام 1807 أقرت بريطانيا قانون إلغاء الرق الذي كان من أبرز دوافعه مذكرات الكاتب الإفريقي الذي وثق تجربته المريرة في الرق.