تتكون منطقة شرق المتوسط من 7 مدن، مقسمة إداريًا إلى قسمين: أنطاليا وأضنة، وطبيعيًا إلى ثلاثة سهول محاطة بسلاسل جبلية، الأول سهل أنطاليا ويشمل المدن والأحياء الواقعة في ولاية أنطاليا، والثاني سهل تشوكوروفا وأهم مدنه أضنة، والثالث سهل العمق وأهم مدنه هاتاي.
ترجع أهمية المنطقة لموقعها الإستراتيجي القريب من الأسواق العربية، وامتلاكها لبنية تحتية مؤهلة لكي تكون مفتاحًا للتواصل بين مدن الأناضول ومدن البحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى دورها الفعال في الاقتصاد التركي عبر السياحة الترفيهية والتاريخية والصناعة وطرق المواصلات.
منطقة شرق المتوسط: البحر والتاريخ
لسنوات طويلة شكل البحر مصدر التهديد والفرصة للوجود التركي في آسيا الصغرى، فالقوة التركية في أقصى توسعها تحت حكم الدولة العثمانية اعتمدت بصورة أساسية على القوة البرية التي تمثلت بقوات الانكشارية الرهيبة، أما البحر فرغم نجاح السلاطين في بناء أساطيل قوية، فإنها ظلت أقل من جيوشها البرية التي وصلت إلى عمق القارة الأوروبية، ولاحقًا تمكنت دول وممالك أوروبا بفضل القوة البحرية من كسر الحصار العثماني وإنشاء طرق تجارة وأسواق جديدة تتجاوز حدود العالم القديم الذي سيطرت عليه الدولة العثمانية العاجزة عن مجاراة أساطيل أوروبا المتقدمة.
أما على صعيد الأتراك فلم يحتفظوا بعلاقة قوية مع البحر الذي شكل مصدرًا لخطر الغزاة والقراصنة، بالإضافة إلى الخطورة المرتبطة بالبحر ذاته، هذا الأمر غيب الأنشطة المائية في ثقافة الترفيه داخل الأناضول المحاط من جهاته الثلاثة بالمياه، ومع نهاية القرن التاسع عشر وازدياد اختلاط النخب العثمانية بالنخب الغربية، بدأت ثقافة الاصطفاف على الشواطئ وزيارتها بالظهور على سواحل هضبة الأناضول.
بعد تولي تورغوت أوزال السلطة بعد انقلاب سبتمبر/أيلول 1980 تبنى سياسات لتشجيع الاستثمار والنهوض بالقطاع السياحي وصلت ذروتها مع تولي حزب العدالة والتنمية للحكم عام 2002.
تحتوي منطقة البحر المتوسط على أهم الوجهات السياحية التي تستقطب جزءًا كبيرًا من السياح الأجانب والمحليين، ومن أهم الجنسيات التي تقصد المنطقة السياح الروس الذين يتوافدون بالملايين والسياح الألمان والإنجليز والأوروبيين بشكل عام، حيث توفر المنطقة سياحة ذات مستوى مماثل لدول جنوب أوروبا كإيطاليا واليونان وبأسعار أرخص.
من أهم وأشهر مدن المنطقة مدينة أنطاليا وهي المقصد الأول للسياح الغربيين والروس، وتعتمد السياحة فيها على الترفيه والاستجمام على شواطئها الرملية والمناظر الطبيعية في جبالها الممتزجة مع الساحل بطريقة مميزة.
وإلى جوار ذلك تشتهر المنطقة بآثارها التاريخية التي تعود إلى العصور اليونانية والرومانية، كمدينة سيدا التاريخية التي بنيت في القرن السابع قبل الميلاد وما زالت آثارها قائمة وتعد مقصدًا للسياح، وتشتهر مدينة مرسين بقلاعها التاريخية وذلك يرجع إلى موقعها الإستراتيجي على الطريق الساحلي بين الأناضول وبلاد الشام، بالإضافة إلى أنها شكلت ميناءً بحريًا مهمًا لمدن الأناضول الداخلية وخاصة سهول تشوكوروفا الممتدة على ساحل المتوسط، ومن أشهر قلاع مرسين قلعة الفتاة التاريخية التي تتشابه أسطورتها التاريخية مع أسطورة برج الفتاة في إسطنبول والمستندة إلى رغبة أحد الملوك في حماية ابنته من قدرها المميت الذي يلاحقها في عزلتها.
وعلى امتداد الساحل ومع التوجه شرقًا تتربع مدينة أنطاكيا التاريخية التي شكلت لسنوات طويلة مركزًا حضاريًا لعدد من الدول والحضارات، وتحتوي المدينة على متحف هاتاي التاريخي الذي يضم في ثناياه عددًا كبيرًا من القطع الأثرية.
الاقتصاد
باستثناء السهل الساحلي المحاذي لساحل البحر الأبيض المتوسط يغلب الطابع الجبلي على المنطقة، هذا أدى إلى تركز الزراعة في المناطق السهلية كسهل توشكوروفا الذي يضم عددًا من المدن التركية كأضنة ومرسين وهاتاي، وسهل أنطاليا، وسهل العمق الذي يمر من خلال نهر عفرين ونهر العاصي ويشكل امتدادًا لسهول محافظة إدلب.
ومن أشهر الأصناف الزراعية المنتجة الحمضيات بأصنافها المختلفة، حيث تنتج المنطقة 89% من إنتاج تركيا، بالإضافة إلى القطن الذي تكثر زراعته في سهل تشوكوروفا حيث يشكل إنتاج المنطقة منه 33% من إنتاج تركيا، والأرز الذي يزرع في سهل العمق.
أما سهل أنطاليا فهو المنطقة الوحيدة في تركيا التي تنتج الموز المحلي، ونتيجة لطبيعة المنطقة الجبلية فإنها تشتهر بزراعة أشجار الزيتون، كما تحتل المنطقة المرتبة الأولى في إنتاج الفستق والفاصوليا والذرة، حيث تتوافر الأجواء المناسبة لنمو وازدهار هذه الأصناف، أما فيما يتعلق بتربية الحيوانات فتشتهر المنطقة بتربية أنواع معينة من الماعز القادرة على التكيف مع البيئة الجبلية للمنطقة، بالإضافة إلى ذلك يزدهر قطاع صيد الأسماك.
وإلى جوار القطاع الزراعي تحتوي المنطقة على قطاع صناعي قوي، خاصة في مدينة أضنة التي تحتوي على عدد من مصانع النسيج والكيميائيات والزجاج والصناعات الغذائية، وفي مدينة إسبرطة تزدهر صناعات السجاد والعربات الزراعية، أما مدينة بوردور فتضم عددًا من مصانع السكر والألبان والمواد الغذائية.
ومن القطاعات الأخرى المزدهرة في المنطقة قطاع النقل والتوصيل، إذ سمح وجود المنطقة على البحر الأبيض المتوسط وقربها من الأسوق العربية والمناطق الصناعية داخل الأناضول بلعب دور محوري في نقل البضائع التركية إلى الأسواق الشرق أوسطية واستيراد احتياجات تركيا من هذه المناطق.
ومن أهم الموانئ الموجودة في المنطقة: ميناء جيهان التركي الذي يستمد أهميته من كونه النقطة النهائية لخط كركوك – جهيان لتصدير النقط الخام، كما تخطط تركيا لاستخدام الميناء لربط إنتاج غاز شرق المتوسط مع خطوط نقل الغاز القائمة في الجمهورية التي تنقل الغاز الأذري والروسي إلى أوروبا، حيث سبق لتركيا أن دخلت في مفاوضات مع “إسرائيل” لتصدير الغاز الطبيعي عبر ربط حقول الغاز الطبيعي مع ميناء جيهان كمشروع بديل عن مشروع إيست ميد المدعوم يونانيًا.
وإلى جوار ذلك بدأت تركيا في السنوات الأخيرة مشروعها النووي الذي من المقرر أن تكون مدينة مرسين مقره، حيث يتم بناء مفاعلات نووية للطاقة السلمية في المناطق التابعة للمدينة، وتعول تركيا كثيرًا على المشروع في سد احتياجاتها المتصاعدة من الطاقة، واستبدال البترول والغاز المكلف بالطاقة النووية الأرخص.
الثقافة والناس
تتميز منطقة البحر الأبيض المتوسط كباقي المناطق الساحلية في هضبة الأناضول بالتنوع العرقي والديني الذي تعرض خلال الحرب العالمية الأولى وما تبعها من أحداث لضربات حقيقية أفضت إلى إضعافه والتأثير عليه، بدءًا من الحرب اليونانية التركية واتفاقية المبادلة التي أفضت لرحيل قسم كبير من الجالية اليونانية من الأناضول وليس انتهاءً بالاحتلال الفرنسي للمنطقة والمدعوم من قوات أرمينية ربطت مصيرها في سهل تشوكوروفا بقوات الاحتلال الفرنسي التي تقهقرت أمام مقاومة الحركة الوطنية التركية، هذا الأمر ترك أثرًا كبيرًا على الطبيعة السكانية للمنطقة، ومع ذلك تحتفظ المنطقة بتنوع عرقي مميز، انعكس على ثقافتها ومعاشها.
ومن الأمثلة المهمة على حالة التعايش هذه مطبخ المنطقة المميز والمكون من امتزاج عدد من المطابخ، خاصة في ولاية هاتاي التي يعد مطبخها امتدادًا للمطبخ الشامي، وتشتهر المدينة بكونها موطن الكنافة في تركيا – ينحدر الطباخ التركي الشهير بوراك صاحب مطعم المدينة من هاتاي وهو ذو أصول عربية -، وتشتهر المنطقة بعدد من الأغاني الشعبية التي تمتزج فيها المفردات العربية بالتركية والكردية، كما يحتفظ سكان المنطقة بعدد من الرقصات الشعبية كرقصة المينغو “mengi oyunu” الجماعية التي يمارسها سكان المنطقة في حفلات الزفاف وحفلات السمر، ورقصة التيكي “teke oyunu” وهي شبيهة برقصة الزبيك الرائجة في منطقة إيجة.
ختامًا، شهدت السنوات الماضية تنامي النفوذ السياسي والاقتصادي التركي في منطقة الشرق الأوسط، ترافق ذلك مع تنامي أدوات الدولة التركية، وعلى رأسها بنية تحتية متقدمة قادرة على ضمان تواصل فاعل بين الجمهورية ودول المنطقة.
تلعب منطقة البحر الأبيض المتوسط دورًا مركزيًا في السياسة التركية تجاه المنطقة لما تملكه من مقدرات مرتبطة بطبيعة موقعها الإستراتيجي وطبيعة سكانها وثقافتهم، لذلك من المتوقع أن تلعب المنطقة دورًا مهمًا في السياسة التركية خلال السنوات المقبلة.