من أكاديمية في إحدى جامعات كندا إلى محامية ثم مدعي عام بكاليفورنيا ومنها إلى مجلس الشيوخ وصولًا إلى نائب الرئيس الأمريكي، استطاعت كامالا هاريس (55 عامًا) أن تدخل التاريخ من أوسع الأبواب، لتصبح أول امرأة تشغل هذا المنصب في تاريخ أمريكا.
بعد أقل من عام على توقف حلمها في الترشح للرئاسة، حين أعلنت خوضها الماراثون الانتخابي في 21 من يناير/كانون الثاني 2019، ها هي تحصل على فرصة جديدة لتحقيق حلمها الذي طالما راود خيالها، لتصبح اليوم الشخصية رقم 2 في أمريكا، فضلًا عن تعبيد الطريق أمامها لأن تصبح الرقم الأول بعد 4 سنوات بعدما نالت ثقة الحزب الديمقراطي.
البعض يلقبها بـ”كونداليزا رايس” الجديدة (وزيرة الخارجية 2005- 2009) ربما للتشابه في لون البشرة أو قوة الشخصية، فيما يعتبرها آخرون خليفة الرئيس الأسبق باراك أوباما (2009-2017)، غير أن المقربين منها يرونها حالة استثنائية في عالم السياسة، ومن المرجح أن يكون لها دور مؤثر في صناعة القرار خلال السنوات الأربعة القادمة على أقل تقدير.
أثارت الكثير من الجدل حين وقع عليها الاختيار لتكون نائبة المرشح الديمقراطي جو بايدن، رغم أنها كانت المنافسة الأشرس له على ترشيح الحزب لخوض المعركة الانتخابية الرئاسية، فإن سيرتها الذاتية الدسمة بالخبرات الأكاديمية والقانونية والسياسية، فضلًا عن مراحل نشأتها التي كان لها دور كبير في إصقال شخصيتها، جعلتها مثار ترحيب وإشادة من المراقبين، هذا بجانب دعمها المطلق لـ”إسرائيل” ورفضها للسياسات السعودية خلال الآونة الأخيرة. فمن تكون صاحبة هذه الضجة الكبيرة؟
من رحم العنصرية
وُلِدت هاريس في الـ20 من أكتوبر/تشرين الأول 1964 في أوكلاند بكاليفورنيا، لأبوين أكاديميين من أصول مختلفة، الوالد دونالد هاريس، أستاذ في علوم الاقتصاد بجامعة ستانفورد.
هاجر من جامايكا عام 1961 بهدف إكمال دراساته العليا في الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا ببركلي، أما والدتها فهي شيامالا غوبالان عالمة هندية متخصصة بسرطان الثدي، هاجرت إلى أمريكا من مدينة مدراس بولاية تاميل نادو الهندية عام 1960 بهدف الحصول على درجة الدكتوراه في علم الغدد الصماء من جامعة كاليفورنيا أيضًا، وهناك تعرفا على بعضهما البعض وتزوجا.
لهاريس شقيقة أصغر منها تسمى مايا وقد اختارت الوالدة لابنتيها أسماء سنسكريتية مستمدة من الأساطير الهندوسية بهدف الحفاظ على هويتهما الثقافية، خاصة أن الأسرة الممتدة إلى الأم تتمتع بالالتزام الديني بالهندوسية وهذا ما أثر في كامالا حتى أنها ارتادت العديد من المعابد الهندوسية أكثر من مرة.
انخرطت الفتاة ذات الأصول الهندية مبكرًا في خضم الأزمات العنصرية التي تواجه الأقليات في الولايات المتحدة، حيث التحقت في مرحلة الروضة بإحدى المدارس التي تطبق برنامج بركلي لإلغاء الفصل العنصري في الحافلات المدرسية في محاولة لتحقيق التوازن العرقي بالمدارس، حيث كان يسيطر البيض على أكثر من 95% من مقاعد الحافلات فيما يخصص للألوان الأخرى النسبة الباقية.
وما إن أتمت أعوامها السبع حتى انفصل والدها عن والدتها، لتُمنح الأم حضانتها هي وشقيقتها، وهنا زادت معاناتها من التفرقة العنصرية، حيث روت أكثر من مرة أنه لم يكن مسموحًا لهم اللعب مع أبناء الجيران سواء في البيت أم خارجه وذلك بسبب أنهن من صاحبات البشرة السوداء.
لم تتحمل الأم وابنتاها تلك المعاملة، حيث انتقلت للعمل في جامعة ماكجيل بكندا، وكانت هاريس حينها في الثانية عشرة من عمرها، لتلتحق بمدرسة ويستماونت الثانوية في مدينة ويستماونت بمقاطعة كيبك، وقد كانت تتمتع بشعبية كبيرة هناك، كما أنها شاركت في تأسيس فرقة رقص وأدت معهم بعض العروض الراقصة في الجمعيات الخيرية بكندا.
وما إن انتهت من الثانوية حتى عادت إلى أمريكا حيث التحقت بجامعة كاليفورنيا لتحصل على درجة البكالورويس ثم الماجستير ومعه الدكتوراه عام 1989، وبعد ذلك بعام واحد فقط انضمت إلى نقابة المحامين في الولاية، لتخطو أولى خطواتها على طريق أحلام الزعامة التي كانت تراودها، حيث كانت تعتبر القانون الطاولة التي تتخذ عليها القرارات السيادية في البلاد.
القانون.. الباب الكبير
بعد عام واحد فقط من الانضمام لنقابة المحامين عُينت هاريس كنائب للمحامي العام في مقاطعة ألاميدا، بولاية كاليفورنيا الأمريكية، متخصصة في قضايا الاعتداء الجنسي على الأطفال، لما تمثله من صعوبة في ظل ميل هيئة المحلفين لكلام الكبار أكثر من الأطفال، وهو ما قد يؤثر على سير العدالة في مثل هذه القضايا.
فرضت نفسها بما لديها من كاريزما قوية ومؤهلات مقنعة على المجتمع الكاليفورني بأكمله، لا سيما في أوساطه القانونية والسياسية، وبات اسمها يتردد على مسامع الكثيرين، خاصة خلال الفترة التي عملت فيها بمهنة التدريس في جامعتي ستانفورد وسان فرانسيسكو.
وخلال عامي 1994 و1995 قدمها رئيس جمعية ولاية كاليفورنيا، حينها، ويلي براون، إلى شبكته السياسية، وهو ما ساهم في تسليط الضوء الإعلامي عليها، لتبدأ مرحلة جديدة من حياتها المهنية، متخلية عن التدريس الجامعي، لتعين في لجنة طعون التأمين ضد البطالة، وكان راتبها في ذاك الوقت 100 ألف دولار سنويًا.
بزع نجم هاريس في الأوساط القانونية بصورة لافتة للنظر، محققة شعبية جارفة، ساعدتها في الفوز بانتخابات المدعي العام لكاليفورنيا عام 2010 ثم أعيد انتخابها مرة أخرى في 2014، وقبل أن تتم دورتها الثانية ارتأت القانونية الشهيرة أن تدخل السياسة من بابها الواسع، الكونغرس.
في 8 من نوفمبر/تشرين الثاني 2016 حققت هاريس فوزًا مفاجئًا على لوريتا سانشير في انتخابات مجلس الشيوخ عن ولاية كاليفورنيا، لتصبح أول امرأة سوداء تشغل منصب السيناتور خلفًا لباربرا بوكسر الذي انتهت فترة ولايته البرلمانية، ومن هنا بدأت ترسم طريقها الكبير لتحقيق الحلم الأكبر.
تعرضت النائبة الهندية الأمريكية الجامايكية للعديد من الملفات الحساسة خلال عملها بالكونغرس، أبرزها الرعاية الصحية ومشروع إزالة القنب من الجداول الصحية، هذا بجانب دعمها لحصول المهاجرين غير المسجلين على الجنسية والتمتع بالحقوق الصحية والاجتماعية، وهو ما زاد من جماهيريتها على مستوى الولاية وخارجها.
ومن الملفات التي زادت من شعبيتها وفرضت سمعتها الطيبة على الجميع استجواباتها داخل الشيوخ لا سيما حين استجوبت مرشح المحكمة العليا، آنذاك، بريت كافانو، والمدعي العام ويليام بار، وهو ما زاد من رصيدها وجعلها محط أنظار الحزب الديمقراطي الذي فكر في الاستعانة بها وتهيئتها لمكانة أكثر أهمية خلال المرحلة المقبلة.
الانتخابات الرئاسية 2020
في يوليو/تموز 2018 نشرت هاريس مذكرة تشير من خلالها إلى احتمالية خوضها الانتخابات الرئاسية 2020، وهي التي كانت قد قالت في تصريحات لها أنها لا تستبعد ذلك، وبالفعل في يناير 2020 أعلنت بشكل رسمي ترشحها لمنصب رئيس الولايات عن الحزب الديمقراطي.
وحضر حفل إطلاق حملتها الرسمية أكثر من 20 ألف شخص، في مسقط رأسها أوكلاند بكاليفورنيا في 27 من يناير/كانون الثاني، كما نجحت في تجاوز الرقم القياسي الذي سجلة بيرني ساندرز عام 2016 لأكبر عدد من التبرعات، حيث سجلت في أقل من 24 ساعة فقط رقمًا قياسيًا جديدًا في إجمالي التبرعات.
خاضت مناظرتين أمام نائب الرئيس السابق جو بايدن، وهاجمته في المناظرة الأولى التي أجريت في يونيو/حزيران 2019 بسبب تصريحاته التي أدلى بها وقتها التي وصفتها بـ”المؤذية”وهو ما أدى إلى زيادة أسهمها والنقاط التي حصلت عليها، لكن الحملة الإعلامية التي استهدفتها بسبب بعض ملفات عملها كمدعية عامة كان لها تأثير سلبي في تراجع معدلات الثقة فيها بعد تصاعد حدة الانتقادات الموجهة لها.
وفي الـ3 من ديسمبر/كانون الأول الماضي أعلنت انسحابها من ترشحها لانتخابات الحزب، معللة ذلك بنقص التمويل، فيما أيدت بايدن لخوض هذا الغمار، ليختارها بعد ذلك نائبة له بناء على اقتراح من مراقب مجلس النواب جيم كلايبورن الذي علق قائلًا: “يجب مكافأة النساء الأمريكيات من أصول إفريقية على ولائهن”.
وبعد مقتل جورج فلويد في مايو/أيار الماضي تصاعدت الدعوات الموجهة لبايدن لاختيار نائبة له من أصول إفريقية، كنوع من الدعاية الانتخابية المرجح تأثيرها في ذلك الوقت، وبالفعل في 11 من أغسطس/آب تم الإعلان عنها رسميًا لتصبح أول أمريكية من أصل إفريقي، ولها أصول هندية، وثالث امرأة بعد جيرالدين فيرارو وسارة بالين يُخترن كمرشحات لمنصب نائب الرئيس من قائمة الحزبين الكبيرين، الديمقراطي والجمهوري.
دعم “إسرائيل”
خلال مسيرتها السياسية تبنت هاريس العديد من المواقف السياسية التي تناهض في مجملها سياسات إدارة الرئيس المنتهية ولايته، أبرزها معارضتها لقرار ترامب في يناير/كانون الثاني 2017 بشأن حظر دخول المسلمين من عدة دول، كذلك معارضتها للسياسات الصينية الانتهاكية ضد مسلمي الإيغور غرب البلاد، هذا بجانب مناصرتها لحقوق سكان هونغ كونغ في الاستقلال.
أما فيما يتعلق بالموقف من الصراع العربي الإسرائيلي، فكانت من أشد المؤيدين لـ”إسرائيل”، فبعد أيام قليلة من أدائها اليمين الدستورية في مجلس الشيوخ عام 2017، ألقت خطابًا في لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (AIPAC)، شددت فيه على عمق العلاقات بين أمريكا و”إسرائيل” التي وصفتها بـ”غير القابلة للكسر”.
كذلك أكدت استمرار دعمها لـ”إسرائيل” دون شرط أو قيد إذ أضافت في خطابها: “لا ينبغي أن تكون “إسرائيل” قضية حزبية على الإطلاق. وما دمت عضوًا في مجلس الشيوخ عن الولايات المتحدة، فسأفعل كل ما في وسعي لضمان الدعم الواسع والحزبي لأمن “إسرائيل” وحقها في الدفاع عن النفس”.
كما أنها كانت أحد النواب الذين شاركوا في صياغة مشروع قانون يعترض على قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي يدين المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وحين سئلت عن مدى التزام تل أبيب بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان كانت إجابتها “نعم”.
وفي بدايات العام الماضي انضمت هاريس إلى 22 نائبًا ديمقراطيًا آخر في التصويت ضد مشروع قانون يشجع الدول تقييد الحق في مقاطعة “إسرائيل”، كما أنها في الوقت ذاته تبنت رأي معظم الديمقراطيين في معارضة مخططات حكومة بنيامين نتنياهو لتوسيع نطاق الاستيطان في الضفة الغربية، واصفة هذا المخطط بأنه عمل “أحادي” يضر بـ”إسرائيل”.
مناهضة السياسات السعودية
تتبنى هاريس موقفًا حازمًا ضد الانتهاكات الحقوقية السعودية، على المستوى الداخلي أو الخارجي، إذ كانت من الرموز السياسية التي طالبت باتخاذ مواقف مشددة ضد الرياض بعد مقتل الكاتب الصحفي السعودي جمال خاشقجي في مقر قنصلية بلاده بإسطنبول أكتوبر/تشرين الأول 2018.
وفي السياق ذاته تعارض الانتهاكات التي يمارسها التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات ضد المدنيين في اليمن، كما أنها كانت أحد الداعمين لقرارات حظر تصدير السلاح للمملكة بسبب مخالفاتها الجسيمة في تلك الحرب، وهو الموقف ذاته الذي يتبناه بايدن، ففي 2019، صوّتت لصالح قرارات لإنهاء الدعم الأمريكي للحرب التي تقودها السعودية والإمارات في اليمن.
يذكر أنه في تصريحات لها خلال حملة ترشحها للرئاسية يناير/كانون الثاني الماضي قالت: “الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية لديهما مجالات ذات اهتمام مشترك، مثل مكافحة الإرهاب، حيث كان السعوديون دومًا شركاءً أقوياءً. وعلينا أن نستمر في التنسيق على هذا الصعيد، لكننا بحاجة إلى إعادة تقييم علاقتنا بشكل أساسي مع المملكة العربية السعودية، باستخدام نفوذنا للدفاع عن القيم والمصالح الأمريكية”.
وفيما يتعلق بالموقف من الاتفاق النووي الإيراني فكانت من أشد المعارضين لأسلوب تعامل إدارة ترامب معه، فقد وبخت الرئيس على قرار الانسحاب الأحادي وقالت في بيان بعد الانسحاب “قرار اليوم بانتهاك الاتفاق النووي الإيراني يهدد أمننا القومي ويعزلنا عن أقرب حلفائنا”.
وفي أعقاب مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني أوائل 2020 شاركت هاريس في صياغة تشريع يهدف إلى منع استخدام أموال وزارة الدفاع الأمريكية في عمل عسكري ضد إيران، في محاولة لتجنب الحرب معها بما يهدد مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
“السيد الثاني” في البيت الأبيض
في الظل، يأتي زوجها دوغ إيمهوف ليفرض هو الآخر كأحد أبرز اللاعبين المحتمل تأثيرهم في المشهد، بحكم علاقته بزوجته، نائبة الرئيس، الوضعية التي تجعله في قلب دائرة صنع القرار، شاء أو أبى، ليصبح الرجل الثاني داخل البيت الأبيض أو “الزوج الثاني” بعد بايدن مباشرة.
تزوجت هاريس في 2014 وهي الزيجة الأولى لها بينما الثانية لإيمهوف، يهودي الديانة، الذي كان له دور كبير في تلميع صورة زوجته حيث وُصف خلال حملة زوجته الانتخابية بأنه “سلاح سرّي” داخلها، هذا بجانب أنه يعمل مثلها في حقل المحاماة، ومتخصص في قضايا الرياضة والترفيه على وجه التحديد.
في أغسطس/آب الماضي أخذ الزوج المحامي إجازة من شركته التي يعمل بها وتسمى “دي ال آيه بايبر” وهي إحدى الشركات المتخصصة بحملات الضغط في واشنطن، الأمر الذي أثار بعض التساؤلات بسبب التعارض المحتمل بين عمله في تلك الشركة ومنصب زوجته الجديد.
ورغم يهودية إيمهوف، ومرافقته لهاريس في زيارتها إلى “إسرائيل” والضفة الغربية المحتلة في العام 2017، فإنه لم يكن الرجل الملتزم دينيًا، فهو يهودي بالوراثة، ليس له أجندات سياسية غير ولعه بعمله وطموحه في المسار القانوني، إذ يصفه أصدقاؤه بأنه “شخص مرتبط باليهودية التي تشكل وعيه”، لكنه “أقل التزاما”.
هذا بجانب عشقه للرياضة والترفيه، ما دفع البعض إلى توقع إمكانية أن يكون له دور في تبني مشروع مجتمعي بدعم زوجته يساعدها على الحضور بشكل أكثر فاعلية داخل الشارع الأمريكي.
البعض يرى تشابهًا كبيرًا بين هاريس من جانب وباراك أوباما وكونداليزا رايس من جانب آخر، تشابه مرجعه الظاهري لون البشرة السمراء، لكن يبقى في المضمون سمات الشخصية والحضور المؤثر والتوغل في قضايا الشرق الأوسط خصيصًا، وهو ما سيتم تقييمه بشكل مرحلي خلال الانخراط رسميًا في عملها كنائبة للرئيس.
ربما يعزز ذلك طموحها اللامتناهي في أن تصبح رئيسة للبلاد الدورة المقبلة، ما يساعدها على تقديم أوراق اعتمادها رسميًا للشارع الأمريكي والقوى الدولية.. اختبار يحتاج إلى مزيد من الوقت لتقييم صدقه من عدمه.. وهو ما ستكشفه الأيام القادمة.