حين جاءت حكومة الكاظمي عام 2020 نتيجة لضغط الاحتجاجات التي أزاحت عادل عبد المهدي، كانت التركة التي تحملتها من الحكومة السابقة بالفعل ثقيلة، دولة بلا سلطة تقريبًا أمام المليشيات، قادة لا يأتمرون بأمر القائد العام، سلاح وأقضية بأكملها خارج نفوذ الدولة، لكن الأهم، ما ورثته حكومة الكاظمي من نظام اقتصادي يسير بلا شك نحو خيارين: إما الانهيار المالي وإما إجراءات لا تختلف في نتائجها كثيرًا عن الانهيار!
المشكلة في الاقتصاد العراقي ليست كثرة الديون أو انخفاض النفط فحسب، إنما النظام المالي كله وطريق إدارته الذي حول الاقتصاد إلى أشبه ببالون لا بد من نفخه بالمتعينين الجدد في القطاع العام كل عام، لمنع طوفان الاحتجاجات المطالبة بالتعيين في القطاع الحكومي، عام بعد عام، كان رؤساء الوزارة المتعاقبون يحقنون الاقتصاد العراقي بإبر الاقتراض، لتغطية الزيادة الحاصلة في الجهاز البيروقراطي للدولة، عملية لن تفعل شيئًا إلا تأخير الموت السريري القادم لا محالة، في هذه الأثناء اقتصر عمل الدولة على بيع النفط وتوزيع عائداته على شكل رواتب للموظفين، أمر أصبحت تفعله بصعوبة بالغة وقد تعجز عن فعله قريبًا!
الاقتصاد العراقي: نظرة من أعلى
يعتمد العراق على النفط في 97% من موازنته عام 2020، بزيادة 8% عن العام السابق كمؤشر يعطي فكرة واضحة عن الفشل الكبير في الاقتصاد، وليست هذه المشكلة الوحيدة، فكيفية إدارة الثروات كانت كارثية منذ 17 عامًا، موازنة عام 2019 مثلًا بلغت 112 مليار دولار، وبلغت النفقات الجارية 82 مليار دولار “74%”، يُصرف منها 52 مليار كرواتب للموظفين والمتقاعدين وهو ما يعادل نصف الموازنة تقريبًا بزيادة 15% عن عام 2018، شكلت نسبة العجز فيها 20% غطتها الحكومة بالاقتراض.
بينما أقرت الحكومة مشروع الموازنة الجديد بقيمة 100 مليار دولار، بعجز بلغ 59% تقريبًا، بسبب انخفاض العائدات النفطية، وبنفس طريقة توزيع الموازنة السابقة – والموازنات الأخرى -، الإنفاق على القطاع العام.
في تقرير له، قال معهد كارنيجي للدراسات إن العراق يواجه خطرًا حقيقيًا يهدده بالانهيار المالي إذا ظل الوضع على ما هو عليه. على مدى الحكومات المتعاقبة، نما حجم القطاع العام لدرجة أن العراق يحتاج إلى إنفاق أكثر من إجمالي إيراداته على المدفوعات الأساسية – رواتب القطاع العام والمعاشات التقاعدية والمساعدات الغذائية والرعاية الاجتماعية – لإبقاء غالبية سكان العراق خارج العوز.
عام 2019 ، بلغ متوسط عائدات النفط 6.5 مليار دولار شهريًا، ومع عائدات غير نفطية متواضعة (معظمها من الجمارك، أقل بكثير من مليار دولار شهريًا)، غطى هذا المصروفات التشغيلية مع بقاء مبلغ صغير للاستثمار، ومنذ انتعاش أسعار النفط بعد انهيار مارس/آذار، بلغ متوسط عائدات النفط الشهرية في العراق ما يزيد قليلًا على 3 مليارات دولار شهريًا، لتصل إلى 3.52 مليار دولار في أغسطس/آب.
كشف وزير المالية علي علاوي، في شهادته أمام البرلمان في سبتمبر/أيلول، أنه مع وجود عائدات عند هذه المستويات، لا تزال الحكومة تقترض 3.5 تريليون دينار عراقي – ما يزيد قليلًا على 3 مليارات دولار – من البنك المركزي كل شهر.
الموظفون في وزارة الثقافة والآثار ما زالوا ينتظرون دفع رواتبهم
في 10 من أكتوبر/تشرين الأول، مع اشتداد حدة أزمة السيولة النقدية في العراق، أوضح علاوي أن تعويضات موظفي الدولة ارتفعت من 20% من عائدات النفط عام 2005 إلى 120% اليوم، ولمساعدة الجمهور على فهم سبب انهيار حكومة مثل هذا البلد الغني بالنفط، أوضح أن حكومة بهذا الحجم يجب أن يكون لديها ما لا يقل عن 15 إلى 20 مليار دولار من الأموال لدفع النفقات الشهرية بشكل مستمر، لكن عندما اتخذت هذه الحكومة مكانها خلفًا لسابقتها، كان نحو مليار دولار فقط متاحًا، ويرجع ذلك جزئيًا إلى ضعف الإيرادات نتيجة انخفاض أسعار النفط والتزام العراق بقيود منظمة أوبك على صادرات النفط.
في الماضي، بلغت صادرات العراق النفطية 3.5 مليون برميل يوميًا، لكنها انخفضت إلى 2.5 مليون برميل يوميًا في الأشهر الأخيرة، وطالبت شخصيات بارزة، بما في ذلك وزير النفط السابق إبراهيم بحر العلوم بترك اتفاق أوبك من جانب واحد، ومع ذلك، أوضح علاوي متحدثًا أمام البرلمان، أنه بينما يوافق على أن صيغة حصص أوبك غير عادلة، يحتاج العراق إلى اتفاق أوبك لمنع أسعار النفط من الانهيار.
في الآونة الأخيرة، وفقًا لتقرير وزارة النفط، أشارت الحكومة أنها قد تحاول زيادة الصادرات بمقدار 250.000 برميل يوميًا، وهو مبلغ يزيد على حصتها، لكن لا يزال أقل من ذروة الإنتاج بنحو 750.000 برميل يوميًا، وبالتالي نأمل أن تكون الزيادة طفيفة جدًا لتحمل الانتقام السعودي.
انخفضت عائدات النفط الشهرية للعراق من 6.2 مليار دولار في يناير/كانون الثاني إلى 1.4 مليار دولار فقط في أبريل/نيسان، ثم انتعش الرقم إلى 2.9 مليار دولار في مايو/أيار وتحسن تدريجيًا منذ ذلك الحين، لكن في أغسطس/آب كان لا يزال 3.5 مليار دولار فقط، نظرًا لأن الحكومة لم يكن لديها إلا نحو 3 مليارات دولار من الاحتياطيات القابلة للاستهلاك في مايو/أيار، فقد أصبح من الواضح أن العراق لا يستطيع دفع رواتب موظفي الدولة في يونيو/حزيران.
تم دفع الرواتب خلال الصيف عندما أصبحت الأموال متاحة، وفي وقت متأخر من 28 يوليو/تموز، اعترف المتحدث باسم رئيس الوزراء بأن الموظفين في وزارة الثقافة والآثار ما زالوا ينتظرون دفع رواتبهم.. كل هذا ينبئ بخطر كبير قادم.
الديون أم تعويم العملة؟
ماذا يجب على الحكومة أن تفعل؟ هناك الاقتراض، لكنه إجراء ترقيعي يؤخر المشكلة ويفاقهما بدلًا من حلها، فمنذ العام 2010، بدأ العراق بسياسة ممنهجة للاقتراض في كل موازنة تقريبًا لتغطية النفقات، وهو ما يضع ثقلًا كبيرًا على الاقتصاد في المدى المتوسط والبعيد:
- 2010: قرضان بقيمة 6.5 مليار دولار، وسحب 1.8 مليار من احتياط العراق النقدي في البنك الدولي “SDR”.
- 2011: قرضان بقيمة 6.5 مليار دولار، وسحب 1.8 مليار من احتياط العراق النقدي في البنك الدولي “SDR”.
- 2012: قرضان بقيمة 6.5 مليار دولار، وسحب 1.8 مليار من احتياط العراق النقدي في البنك الدولي “SDR”.
- 2013: قرضان بقيمة 6.5 مليار دولار، وسحب 1.8 مليار من احتياط العراق النقدي في البنك الدولي “SDR”.
- 2015: 3 قروض بقيمة 7 مليارات دولار، وسحب 1.8 مليار دولار من احتياط العراق النقدي في البنك الدولي.
- 2016: 3 قروض بقيمة 1.3 مليار دولار.
- 2017: 20 قرضًا بقيمة 25 مليار دولار.
- 2019: 27 قرضًا بقيمة 23.3 مليار دولار.
مع تراكم تلك الديون وفوائدها، يعاني العراق اليوم من عبء كبير على كاهله، يشير تقرير صندوق النقد الدولي منتصف 2019 أن مجموع ديون العراق بلغت 115.3 مليار دولار – منها 72.2 مليار دولار قروض أجنبية – بما يشكل 51.4% من الناتج المحلي، وهذه الأرقام بالطبع لا تشمل الديون المقدمة من الصين بموجب الاتفاقية الأخيرة التي تقدر بين 4-10 مليارات دولار سنويًا مقابل مشاريع البنى التحتية.
كل هذه الحلول تنطوي على نتائج سياسية وأمنية واجتماعية وخيمة لن يجرؤ أي سياسي على فعلها
قد لا يتخيل البعض مدى خطورة هذا الكم الهائل من الديون على مستقبل العراق القريب، فهي قد تفضي بالبلد في النهاية إلى بيع منشآته أو عائداته النفطية أو مينائه للدول الدائنة، بالضبط كما حصل مع سريلانكا التي اضطرت لإيجار 70% من ميناء “هامبانتوتا” عام 2017 لصالح الصين لمدة 99 عامًا بعد عجزها عن سداد دين بقيمة 1.1 مليار دولار، أو مع الإكوادور التي ستسلم 90% من صادرتها النفطية للصين خلال عام 2024 عن دين بقيمة 6.5 مليار دولار أو دول تواجه نفس المصير بعد غرقها في بحر من الديون مثل جيبوتي وموزمبيق وبوروندي وتشاد وزامبيا.
الحل البديل الآخر هو تعويم العملة وتقليل قيمتها جزئيًا، وقد يقلل هذا من الأعباء طالما أن الواردات بالدولار والنفقات بالدينار، لكن لهذا أثرًا سيئًا آخر على التضخم الذي سيقود لغلاء الأسعار، وسيصبح الراتب مؤمنًا اسميًا، لكن على الناحية العملية يعني هذا نقل جزء من عجز الموازنة، لتتحمله العوائل على شكل عجز في مدفوعاتها للكهرباء والنقل والصحة، وكلها خدمات لا تقدمها الحكومة بما يكفي.
إذن لم يتبق أمام العراق إلا إجراء إصلاحات قاسية جدًا تتمثل في خفض الاعتماد على النفط وتطوير موارد أخرى مثل القطاع الزراعي وما يرتبط به في مجالات الموارد المائية والنقل والصحة الغذائية والتوجه نحو إصلاحات طويلة ومتوسطة الأمد بإشراك القطاع الخاص وتقليل الملاك الحكومي البالغ 6.5 مليون موظف ومتقاعد، وهو ما يطابق توصيات قدمتها ممثلة البنك الدولي في العراق يارا سالم إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء مطلع 2018، أشارت فيها إلى أن “الشركات العامة تعاني من تكاليف إنتاج عالية تمثل عائقًا رئيسًا يعترض الإصلاح وإعادة الهيكلة”.
لكن كل هذه الحلول تنطوي على نتائج سياسية وأمنية واجتماعية وخيمة لن يجرؤ أي سياسي على فعلها بافتراض امتلاكه القدرة على اتخاذ قرار منفرد.. فهل أصبح الطوفان في العراق مسألة وقت؟ لنأمل أن تحول معجزة دون ذلك!