ترجمة وتحرير: نون بوست
في الوقت الراهن، أضحت “المسألة الإسلامية” مشابهة “للمسألة اليهودية” في أوروبا القرن التاسع عشر. وباتت المواقف السلبية تجاه الإسلام والمجتمعات الإسلامية تضع المزيد من العوائق أمام مبادئ التسامح الديني والتعددية والديمقراطية. ويبدو أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تولى عن وعي زمام المبادرة في شن حملة صليبية علمانية “لإنقاذ روح أوروبا”.
في المقابل، كانت تصرفات الرئيس الفرنسي غير صائبة نظرا لأنها تصب في مصلحة المتطرفين الذين يزعم أنهم يستهدفونهم. كما أن نشر الرسوم الكرتونية غير لائقة لنبي الإسلام والمراهنة عليها، لا يعد دفاعا عن حرية التعبير، وإنما من أحد الممارسات المتطرفة في حد ذاتها.
لاحظت الباحثة بجامعة بنسلفانيا آن نورتون في كتابها الرائع، حول “المسألة الإسلامية”، أن المسألة اليهودية في القرن التاسع عشر كانت اختبارًا لقيم التنوير المتعلقة للعقل والتسامح والشمولية. لم يكن بإمكان أوروبا أن تدعي أنها حضارة قائمة على العقل والفضيلة والحرية سوى من خلال معاملة اليهود، الذين تعرضوا للتمييز والاضطهاد على مدار قرون. أما اليوم، فقد باتت معاملة الإسلام والمجتمعات الإسلامية في الغرب اختبارًا حاسما لقيم الديمقراطية والتعددية التي تدعي المجتمعات الغربية تبنّيها.
تنذر سلسلة العنف التي شهدناها خلال الأشهر القليلة الماضية في أوروبا بوقوع حلقة جديدة وخطيرة من التطرف الديني والعلماني في التاريخ الحديث. وتجدر الإشارة إلى أن التطرف والاستبداد بأشكالهما الدينية والعلمانية لا يعترف بحدود عرقية أو دينية.
من خلال تحذيره بأن “الإسلام في أزمة في جميع أنحاء العالم” ودفاعه عن إعادة نشر رسوم شارلي إيبدو الكارتونية لنبي الإسلام، لم يخلق ماكرون فرصًا جديدة لتنظيمي الدولة والقاعدة والجماعات المماثلة لتجنيد وتصعيد العنف فحسب، وإنما أساء أيضا إلى العالم الإسلامي بأسره.
لا تجعل مطالبة ماكرون الآخرين بالتخلي عن قيمهم الدينية من سياساته ذات طابع منطقي. بالنسبة للمسلمين، يظل النبي محمد الشخص الأكثر قداسة واحترامًا بغض النظر عن مدى العلمانية أو الحداثة أو التنوير أو التقدم التكنولوجي الذي يهيمن على المناطق التي يقطنون فيها. فعلى الرغم من أن احترام دينهم ونبيهم لا يعد بمثابة حل معتدل لمجابهة التطرف العنيف، إلا أنه يُعتبر واجبا أخلاقيا وسياسيا.
لن تؤدي الخنادق السياسية التي أوقع نفسه فيها سوى إلى تقويض التيار السياسي السائد الذي يتعرض بالفعل لهجوم مستمر من اليمين المتطرف في أوروبا
من المحتمل أن ماكرون يسعى إلى تحقيق بعض المزايا السياسية في مناصرة حملة علمانية جديدة ضد الإسلام وتقديم مجتمعات الأقلية المسلمة على أنها “الآخر” في الحضارة الغربية. في المقابل، لن تساعد هذه المساعي على التخفيف من حدة الأزمة التي تعيشها بلاده والتي وجد “الآخرون” أنفسهم طرفا فيها. بالإضافة إلى ذلك، دعا ماكرون إلى إصلاح الإسلام ليكون متوافقا مع “قيم” الجمهورية الفرنسية في وقت فقد مجتمعه الإيمان بهذه القيم. في المقابل، لا يبدو أن الشك الذاتي يشكل رادعا للنزعات الإمبريالية المتجذرة في فرنسا.
في حال كان الأمر يتعلق بتصرف ماكرون بشعور من الانتقام السياسي فحسب، لكان من الأسهل تسوية الأمور، وإنما اتخذت المسألة مسارا أعمق. في الواقع، يعكس سلوكه وخطابه الغطرسة العقلانية التي تتسم بها مرحلة ما بعد التنوير، وهي عقلية تسعى إلى إنقاذ العقلانية الغربية من انهيارها من خلال مهاجمة الإسلام والمسلمين باعتبارهم أعداء العالم العلماني الحديث.
تعتبر هذه العلمانية الغاشمة والوسطية الأوروبية جزءا لا يتجزأ من المشكلة. من هذا المنطلق، لسائل أن يسأل كيف يمكن للمرء أن يفسر بشكل مختلف الدعوات إلى “الإسلام الفرنسي”، في وقت لا نسمع فيه عن انتشار دعوات للمسيحية الفرنسية أو اليهودية الفرنسية أو الهندوسية الفرنسية؟
من المرجح أن ينجح ماكرون أو يفشل في تحقيق مساعيه. في المقابل، لن تؤدي الخنادق السياسية التي أوقع نفسه فيها سوى إلى تقويض التيار السياسي السائد الذي يتعرض بالفعل لهجوم مستمر من اليمين المتطرف في أوروبا. إذا كانت هذه الأفكار تنبع من روح سياسة ماكرون، فهي بالتأكيد بعيدة كل البعد عن السياسات المدروسة للفيلسوف الفرنسي بول ريكور الذي درس ماكرون تحت إشرافه في الجامعة.
يدين المسلمون في جميع أنحاء العالم الأعمال التي يرتكبها المتطرفون والإرهابيون الذين يتلاعبون بدينهم تحت مسمّى محاربة شرور الثقافة الغربية العلمانية الحديثة ويستنكرونها. وبصفتي مسلما، تقع على عاتقي مسؤولية إدانة الأعمال الوحشية التي يرتكبها قلة من المتطرفين العنيفين. ينبغي أن أحارب البيئة الاجتماعية والدينية التي تمثل أرضا خصبة لتنظيم الدولة والقاعدة والجماعات الإرهابية الأخرى التي تقتل المسلمين أكثر من أي جماعة أخرى وتؤذي الإسلام أكثر من أي خصم آخر.
لا يعني انتقاد هذا النوع من جرائم العنف تبييضًا لجرائم الإرهابيين في فرنسا والنمسا وأماكن أخرى
تعتبر عملية نشر ومعاقبة النخب السياسية لرسوم شارلي إبدو الكارتونية باسم حرية التعبير شكلا آخر من أشكال العنف ضد قلوب وعقول جميع المسلمين في جميع أنحاء العالم. كما أن مثل هذه الممارسات لا تساهم في رفع أسوار تفصل بين المجتمعات الإسلامية والغربية فحسب، وإنما تعمق الشعور بعدم الثقة في وقت نحتاج فيه بشدة إلى الثقة المتبادلة.
لا يعني انتقاد هذا النوع من جرائم العنف تبييضًا لجرائم الإرهابيين في فرنسا والنمسا وأماكن أخرى، لكن نبذ التطرف بجميع أشكاله سواء الديني أو العلماني، يعتبر واجبا مدنيا وسياسيا. ونظرا لأن العنف يولد العنف، فينبغي كسر هذه الحلقة المفرغة بجميع أشكالها. على العموم، لن يقع حلّ “المسألة الإسلامية” المزعومة لأوروبا الحالية عن طريق شن حملات صليبية علمانية جديدة، وإنما يتطلب ذلك وضع سياسات أكثر حكمة وإحساسًا حقيقيًا باحترام الآخر وإيلاء أهمية أكثر لقيمنا المشتركة ومستقبلنا المشترك.
المصدر: الجزيرة