في سبتمبر/أيلول 2018، اعتقلت الشرطة التركية شخصًا نمساويًا يدعى كوجتيم فاجزولاي، عندما كان يحاول السفر إلى سوريا للانضمام إلى تنظيم داعش الإرهابي، تم توقيفه يومًا واحدًا هناك، ثم حكم القضاء التركي بترحيل الشخص المذكور إلى بلاده، فيما حذرت السلطات التركية النمسا من مخططات فاجزولاي وزودتها بوضعه الأمني عند ترحيله إليها.
كما قالت شرطة سلوفاكيا أن السلطات النمساوية تلقت معلومات سرية من براتيسلافا خلال الأشهر الأخيرة بشأن منفذ هجوم فيينا، بعدما حاول شراء ذخائر في سلوفاكيا، وكتبت مديرية الشرطة السلوفاكية في مدينة براتيسلافا على موقع التواصل الاجتماعي إنه “تم إبلاغ الشرطة السلوفاكية في الصيف بأن مشتبه بهم من النمسا حاولوا شراء ذخائر في سلوفاكيا. غير أنهم لم يتمكنوا من ذلك”.
وذكر البيان أنه تم نقل المعلومات بشكل مباشر إلى الشرطة النمساوية، مضيفًا أن الأسلحة التي تم استخدامها في النمسا – وهي مسدس وبندقية هجومية – لم تكن من سلوفاكيا. ومع ذلك لم تحرك الاستخبارات النمساوية ساكنًا، وكانت نتيجة ذلك عودة كوجتيم فاجزولاي للظهور مجددًا بعد مرور سنتين تقريبًا، لكن هذه المرة في العاصمة النمساوية فيينا، حيث نفذ عملية إرهابية راح ضحيتها العشرات بين قتيل وجريح.
وتعقيبًا على هذه التطورات، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان: “لا يمكن أن نفهم كيف للإرهابيين الذين رحلتهم تركيا خارج حدودها أن يصولوا ويجولوا في الدول الغربية”، ما جعل البعض يتساءل ما إذا كنا أمام فشل استخباراتي أم تواطؤ أمني؟
داعش تتبنى الهجوم
منفذ الهجوم الدامي، انطلق في حدود الساعة 20:00 (السابعة ليلًا بتوقيت غرينتش) من يوم الإثنين الماضي، وبدأ في إطلاق النار لمدة 9 دقائق في وسط فيينا، وفتح النار على الناس في الحانات والمطاعم في الساعات التي سبقت إغلاقها في ظل قيود فيروس كورونا الجديدة.
تنقل الجاني من مكان إلى مكان وهو يطلق النار، وقد بدأ في محيط معبد يهودي بقلب المدينة ووصل دار الأوبرا، ووفق شهود عيان فإنهم رأوا “شخصًا كان يطلق النار بوحشية بسلاح رشاش وإنه تم إطلاق ما لا يقل عن خمسين عيارًا ناريًا”. خلال الهجوم.
لم تعد وكالة الأمن تناقش فقط التهديدات الأمنية في المجتمع، بل تجاوزت اختصاصها وأصبحت تضع أجندة اجتماعية
عند إطلاق النار، سيطر الذهول في مطاعم الحي ومقاهيه، حيث طُلب من الزبائن البقاء في الداخل وأُطفئت الأنوار فيما كانت صفارات سيارات الإسعاف تدوي في الخارج. شمل الهجوم 6 أماكن متفرقة وانتهى عندما قتل المسلح بالرصاص، وقد نتج عن هذا العمل الإرهابي مقتل 6 أشخاص فيما جرح العشرات – بعضهم إصابتهم خطيرة – وقد تم نقلهم إلى المستشفيات.
في صباح اليوم التالي، أعلن تنظيم داعش مسؤوليته عن الهجوم الذي وقع في العاصمة النمساوية، فيينا، ونشر التنظيم الإرهابي بيانًا أرفقه بالصور، يُظهر، وفقًا لداعش، منفذ الهجوم، وادعى التنظيم أن المنفذ استخدم سلاحين، أحدهما رشاش والآخر سكين.
فشل استخباراتي
منفذ هجمات فيينا، تبين مؤخرًا، أن السلطات التركية قامت بإيقافه سابقًا خلال محاولة عبوره إلى سوريا للالتحاق بتنظيم “داعش” الإرهابي وقد زودت النمسا بوضعه الأمني عند ترحيله إليها، وفق بيان صادر عن المديرية العامة للأمن التركي.
تحريات الأمن التركي، أظهرت أن منفذ الهجوم – حامل الجنسية النمساوية المنتمي لـ”داعش” – دخل تركيا في الأول من سبتمبر/أيلول 2018 عبر مطار أتاتورك الدولي، وأوضحت أن شعبة الاستخبارات ومكافحة الإرهاب حصلت على معلومات لاحقًا تفيد باعتزام الشخص المذكور، العبور إلى سوريا للانخراط في صفوف تنظيم “داعش”، ما دفعها لتوقيفه في 18 من الشهر نفسه، بولاية هطاي جنوبي البلاد.
عقب توقيفه بيوم واحد، حكم القضاء التركي بترحيل الشخص المذكور إلى بلاده النمسا، وأشار البيان إلى أن السلطات التركية أبلغت نظيرتها النمساوية بالوضع الأمني للشخص المذكور، وأدرجت كل البيانات المتعلقة به في ملف خاص وسلمته لفيينا.
بحسب المعلومات التي تم كشفها عقب الهجوم، فإن المهاجم أبو دجانة الألباني – كما يُطلق عليه تنظيم داعش – سبق أن حكم عليه بالسجن 22 شهرًا في أبريل/نيسان 2019 لمحاولته التوجه إلى سوريا للانضمام لتنظيم الدولة، لكن تم إطلاق سراحه بعد ثمانية أشهر فقط، وزعم وزير الداخلية أنه خدع منظمي برنامج مكافحة التطرف، رغم أنهم نفوا ذلك.
كما تبين لاحقًا، أن المهاجم النمساوي من أصل مقدوني البالغ من العمر 20 عامًا أقام روابط في ألمانيا عندما حاول الانتقال إلى سوريا العام 2018، كما ظهر أنه تم إبلاغ النمساويين في يوليو/تموز أن المشتبه به حاول شراء ذخيرة في سلوفاكيا.
وبحسب وسائل إعلام ألمانية، سافر منفذ هجوم فيينا إلى سلوفاكيا المجاورة لشراء ذخيرة لبندقية كلاشينكوف هجومية من طراز AK-47، لكنه عاد خالي الوفاض، وقالت الشرطة السلوفاكية إنها أبلغت زملاءها النمساويين على الفور، إلا أن وكالة الاستخبارات المحلية النمساوية “بي في تي” أساءت التعامل مع القضية.
تواطؤ أمني؟
يتبين من تلك المعطيات بأن منفذ الهجوم الذي ولد وترعرع في فيينا، لم يكن شخصًا غريبًا عن السلطات الأمنية النمساوية، لكنه تمكن من القيام بهجوم إرهابي هو الأعنف في النمسا في السنوات السبعة الأخيرة، ما يجعل فرضية “التواطؤ” موجودة، خاصة أن العملية وقعت في مدينة عادة ما تكون معدلات الجريمة فيها منخفضة جدًا.
كل هذه المعلومات التي كانت متوافرة عند الاستخبارات النمساوية، ومع ذلك تم إطلاق منفذ الهجوم قبل الوقت المحدد له، ليس هذا فقط، بل إن الشرطة النمساوية وفرق مكافحة الإرهاب لم تضعه تحت المراقبة بعد خروجه من السجن، ما جعلها تتفاجأ بالعملية الإرهابية الأخيرة.
لا يمكن استبعاد هذه الفرضية بسهولة، خاصة إذا علمنا أن السلطات الأمنية النمساوية كانت تجهز نفسها قبل الهجوم المسلح لحملة مداهمات وتفتيش متاجر ومنازل أشخاص يشتبه في حملهم لـ”فكر متطرف” كما تصفه وسائل الإعلام الغربية.
أصبحت النمسا في السنوات الأخيرة الماضية، تشتهر بسمعتها السيئة على خلفية الدعاية المعادية للمسلمين في سياساتها الحزبية
إلى جانب التقصير الاستخباراتي، يمكن أن تفسر هذه الهجمات الدامية بوجود تواطؤ من عند جهة ما مع منفذ العملية، واحتمال أن تكون هذه الجهة أمنية، وذلك لتحقيق أهداف عدة، خاصة أن الهجمات تزامنت مع هجمات مماثلة في فرنسا عقب الإساءة للنبي محمد صلى لله عليه وسلم.
وغالبًا ما تقتل عناصر الأمن الأوروبية منفذي الهجمات مباشرة، دون محاولة القبض عليهم، حتى تتفادى المعطيات التي سيقدمها الجاني، ما يجعل فرضية “التواطؤ” قوية، فهم يخشون أن يتكلم منفذو العملية ويفضح خططهم.
ما يزيد من قوة هذه الفرضية، دخول أجهزة الأمن النمساوية، لا سيما جهاز الأمن التابع لوزارة الداخلية، في السنوات الأخيرة، على خط الخطاب المعادي للمسلمين، فبعد تولي الائتلاف اليميني مقاليد الحكم، أغلق مكتب حماية الدستور (الاسم الرسمي لوكالة الأمن) التعاون مع منظمة “المجتمع الإسلامي في النمسا”، واعتمد أجندة اليمين لتجريم الأطراف المسلمة الفاعلة.
بعد هذا التحول، لم تعد وكالة الأمن تناقش فقط التهديدات الأمنية في المجتمع، بل تجاوزت اختصاصها وأصبحت تضع أجندة اجتماعية، وتدعي الوكالة أن المسلمين لديهم أجندة لإنشاء “مجتمع بديل”، ويبدو جليًا أن الوكالة الرسمية تتبع الآن خطة لجعل المسلمين كيانًا غير ملحوظ في المجتمع، أي دون أي ملامح تميزهم.
الضحية هو الإسلام والمسلمين
أيًا كان السبب، تقصيرًا أو تواطؤًا، فإن ضحية هذا الهجوم الإرهابي هو الإسلام والمسلمين، فقد سارع المسؤولون النمساويون والأوروبيون كعادتهم إلى إدانة الإسلام وربط الهجمات الدامية التي تتعرض لها بلدانهم بالإسلام، ووبالتالي تبرير استهدافهم المكثف للمسلمين في الدول الغربية، وتكثف حملات العنصرية والكراهية ضد معتنقي الدين الإسلامي هناك.
فقد أصبحت النمسا في السنوات الأخيرة الماضية، تشتهر بسمعتها السيئة على خلفية الدعاية المعادية للمسلمين في سياساتها الحزبية، في ظل الحكومة الائتلافية السابقة، رغم أنها كانت واحدة من أكثر الدول انفتاحًا واستيعابًا للمسلمين وممارستهم لشعائرهم الدينية، فقد كانت النمسا واحدة من الدول الغربية المعدودة التي اعترفت قانونًا بالإسلام دينًا.
ومع أن المسؤولين الغربيين يُدركون أن الإسلام بريء من الجماعات الإرهابية، إلا أنهم دائمًا ما يسارعون إلى اتهامه وتحميله مسؤولية هذه الهجمات، والهدف من ذلك تبرير المزيد من التضييق على المسلمين وسن المزيد من القوانين التي تتشدد في مراقبتهم ومراقبة مؤسساتهم.