عودنا مهرجان الجونة السينمائي الدولي، منذ انطلاقته لأول مرة قبل 4 أعوام، بشراكةٍ بين رجال الأعمال الأقباط المقربين من النظام المصري آل ساويرس من ناحية، ووزارة الثقافة المصرية من ناحية أخرى، على أن يكون حدثًا ملتهبًا مليئًا بالمواقف المثيرة للجمهور، إعجابًا أو استهجانًا، شأنه في ذلك شأن معظم ملتقيات النجوم والفن والإعلام في العالم.
لكن الإثارة الخفيفة التي تحفل بها هذه اللقاءات عادةً، حيث لا يمتد أثرها الزمني إلى ما هو أكبر من “التريندات” العابرة التي تأخذ دورتها ثم تنتهي، بدأت تنحى مناحي سلبية خلال النسختين الأخيرتين، وبالأخص نسخة العام الحاليّ التي انقضت لتوها، لكن آثارها يبدو أنها ما زالت في طور التشكل، قيميًا وصحيًا.. فماذا حدث في هذه النسخة من المهرجان كي توصم بهذا الشكل؟
انفتاح وتطبيع
خلال المهرجان الذي استمر منذ الـ23 من أكتوبر/تشرين الأول حتى الـ31 من نفس الشهر، تعرض المشاركون في المهرجان إلى انتقادات واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، وبالأخص الفنانات، بسبب تركيزهن على الأزياء المكشوفة والاستعراض الذي رآه البعض مبتذلًا، مقابل غياب القيمة المعنوية أو الاهتمام بالمحتوى الفني الذي يعد موضوع المهرجان في الأساس.
فسر البعض هذا “السعار النسائي”، كما أسماه الجمهور أو عينة منه إذا أردنا الدقة، بأنه جزء من خصائص الطبقة العليا المصرية في هذا العصر، التي لا تعبأ وحسب، بل تستفز القيم المحافظة للسواد الأعظم من المجتمع، ضمن مقاربة ترى أن هناك علاقة طردية بين المستوى الطبقي والتحضر (الانفتاح)، فيما قلل آخرون من هذه الرؤية، معتبرين أن الأمر لا يعدو كونه حدثًا ترفيهيًا يأتي بعد فترة إغلاق شبه تام وجو نفسي قاتم خلال الموجة الأولى من أزمة كورونا.
وفي وقتٍ لاحق من فاعليات المهرجان، تعرض هؤلاء النسوة إلى مزيد من الانتقادات بسبب إساءة اختيارهن للأسلوب اللائق للتعبير عن مشاعرهن تجاه فترة الإغلاق، مستعيرات مضامين “داروينية” عند الحديث عما يجب على الإنسان فعله في مواجهة الوباء، فبينما استدلت إحدى الفنانات الشهيرات على وجوب صلابة الإنسان في وجه هذا المستجد الدخيل بنجاح أسلافه في هزيمة “الديناصورات” على حد قولها، قالت أخرى نصًا عن “كوفيد – 19”: “اللي ياخده ياخده، اللي يكمل يكمل، والبقاء للأقوى”.
وفي سقطة أخرى من منظمي الحدث، أصر القائمون على المهرجان على تكريم المخرج الفرنسي المناصر للصهيونية، جيرار ديبارديو، رغم التحذيرات الشعبية التي سبقت هذه الخطوة وتنديد المثقفين المصريين بهذا التكريم الذي اعتبروه مقصودًا بعد تكريم المخرج اللبناني زياد دويري، في حادثة مشابهة، خلال إحدى النسخ الماضية للمهرجان، وهو المخرج المعروف بمواقفه المؤيدة للتطبيع مع الاحتلال.
ومع ذلك، لم يرض القائمون على المهرجان بالوقوف في موقع المدافع الذي يتلقى الضربات، فاعتبروا هجوم المثقفين على تكريم المخرج الفرنسي متاجرة بالقضية الفلسطينية، يكشف رغبات انتقامية من أناس لهم سجل تاريخي في التعاطف مع رموز جماعة الإخوان، وهو ما عدته اتجاهات نقدية على مواقع التواصل الاجتماعي إصرارًا من إدارة المهرجان على تكريس الحدث كمحفل انعزالي، ينم عن الفجوة الثقافية والاجتماعية الكبيرة بين هذه الطبقة المحدودة وعموم الشعب.
كورونا
انتهى المهرجان نهاية أكتوبر، بعد استمراره أكثر من أسبوع، بملابسه المكشوفة وتصريحاته المثيرة، وظن الجميع أن الإثارة انتهت، لكن الحقيقة أنها كانت تبدأ فقط، تدريجيًا، بدأ بعض الفنانين المشاركين في المهرجان يعلنون إصابتهم بفيروس كورونا، ويطلبون ممن خالطوهم خلال الأيام الماضية الخضوع لحجر منزلي والاستعداد للعلاج، تحسبًا لانتشار العدوى على نطاق أوسع.
أبرز الفنانين الذين أعلنوا حملهم للعدوى حتى الآن بعد حضورهم المهرجان هم: آسر ياسين وبسمة وسلمى أبو ضيف وسارة عبد الرحمن وميس حمدان وعلا رشدي وزينب الغريب ويارا العشري وفايق عزب، مع عدد كبير من الأسماء التي نفت إصابتها، لأن الخبر إشاعة، إذ لم تظهر أي أعراض عليهم، بعد عودتهم من المهرجان، تستدعي عمل المسحة من جديد أصلًا أو لأن إعلاميين روجوا خبر إصابتهم بالمرض لمجرد خضوعهم للمسحة، ثبتت سلبيتها لاحقًا.
بالإضافة إلى إصابة عدد آخر من الفنانين بالفيروس إصابات مؤكدة، ممن تصادف وجودهم في نفس المدينة التي شهدت المهرجان، مثل “ويجز” أو تقاطعت إصابتهم زمنيًا مع زملائهم الفنانين الذين التقطوا العدوى في المهرجان مثل نشوى مصطفى، دون وجودهم في الحدث نفسه، فراجَ – خطأ – أنهم التقطوا العدوى في المهرجان.
عدد الإصابات المؤكدة بفيروس كورونا حتى الآن من الفنانين الذين حضروا المهرجان يبلغ 37 شخصًا، لكن ما يثير القلق، هو تكتم بعض الفنانين وحاضري المهرجان على خبر إصابتهم بالعدوى، لأسباب شخصية، كما أكدت الفنانة نهال عنبر، مسؤولة لجنة الصحة في نقابة المهن التمثيلية، وهو ما يعد جريمة أخلاقية تجاه المخالطين لهذه الحالات، قد تفتح الباب لزيادة أعداد المصابين في صفوف أشخاص غير حاضرين للمهرجان، على حد قول عنبر.
من المسؤول؟
من المفترض، في مثل هذه الظروف، وبعد تحول هذا التجمع إلى منطقة موبوءة، أن المسؤولية، بأثر رجعي، تكون مشتركة وملقاة على كاهل الأطراف الثلاث المشاركة في الحدث: منظمي المهرجان والحضور ووزارة الصحة المصرية، ولن يفيد ذلك في تغيير النتائج، لكنه قد يكون مفيدًا في محاسبة المقصرين والمساهمين في هذا الوضع، منعًا لتكراره، ومعرفة الأسباب الأقرب تفسيرًا لإصابة من ثبتت إصابتهم بما قد يساهم في منع تفاقم الوضع.
لكن ما حدث حقيقة أن جميع الأطراف المعنية بالموقف تنصلت منذ اللحظة الأولى للمهرجان من مسؤوليتها عن عواقب هذا التجمع، فإدارة المهرجان، ممثلة في سميح ساويرس، أبدت مخاوف واضحة، خلال الكلمة الافتتاحية، من احتمالية تفشي الفيروس بين الحضور، مشيرًا إلى أن وزارة الصحة تتحمل الوزر الأكبر من أي نتائج خارجة عن السيطرة بعد المهرجان، حيث قال نصًا: “لولا إن وزيرة الصحة وقفت معانا، وبعتت التيم بتاعها مع الدكتور مجاهد، إن هم ييجوا ويبقوا معانا طول الوقت، كان استحالة إننا هنقدر ننام الليل وإحنا خايفين تحصل أي مشكلة.. كده على الأقل أي مشكلة ممكن نبقى شركاء فيها مع وزارة الصحة!”.
بعد تفشي الفيروس في أوساط الفنانين خلال عودتهم من البحر الأحمر إلى القاهرة، حمّل انتشال التميمي، مدير المهرجان، الحاضرين مسؤولية انتشار الفيروس بينهم، فمن جهة، قال إنه لا يمكنه السيطرة على تحركاتهم في الأماكن المغلقة وشبه المغلقة كغرف الفنادق والمطاعم، ومن جهة أخرى، فإن الفحص الذي أجري على الأجانب من حاضري المهرجان، بعد انتهائه، أظهر إصابة يتيمة بالفيروس، تحولت إلى سلبية خلال الفحص الثاني، وهو ما يعني أن الإصابات متعلقة إلى حد كبير بسلوك الحاضرين، لا بالإجراءات الاحترازية التي حرصت إدارة المهرجان على اتخاذها على أكمل وجه، على حد قوله.
وهو نفس المضمون الذي أشارت إليه “الستايلست” ريم العدل، إحدى الحالات الإيجابية في المهرجان، التي عزت تفشي الفيروس إلى سلوك الحاضرين لا إلى تنظيم المهرجان، وهو ما أكدته أيضًا الفنانة بشرى، إحدى منظمات المهرجان، التي قالت إن نتيجة المسحة التي أجرتها بعد المهرجان سلبية، رغم حضورها معظم فاعليات المهرجان، وذلك نتيجة حفاظها على ارتداء الكمامة، في إشارة إلى عدم حرص المصابين على ارتدائها في المهرجان.
ورغم إظهار معظم الصور القادمة من الجونة تجمعات الفنانين بلا أي إجراءات احترازية، تنصلت وزارة الصحة أيضًا من مسؤوليتها عما آلت إليه الأمور، حيث أكد خالد مجاهد المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة وممثل الوزيرة في المهرجان، أن الوزارة اتخذت احتياطاتها كافة لتوفير الحماية الوقائية اللازمة للحدث، ومن بينها منع دخول العائدين من الجونة إلى القاهرة قبل عمل مسحة حديثة لم يمر على إجرائها أكثر من 72 ساعة، وتوفير فريق بشري من الأطباء والتمريض والمسعفين يفوق عدده 100 شخص داخل نطاق المهرجان، مع مراجعة المستشفيات الحكومية والخاصة الواقعة في نطاق المهرجان، والتدخل، أحيانًا، لمنع بعض الأنشطة التي لم يلتزم منظموها بالإجراءات الوقائية.
وزارة الصحة
بعض المحللين في مصر ركزوا انتقاداتهم على وزارة الصحة، تحديدًا، أكثر من باقي الأطراف، بدعوى عدم ضرورية المخاطرة بإقامة هذا التجمع الترفيهي منذ البداية، في ظل المعلومات المتداولة على ألسنة المتخصصين عن قدوم الموجة الثانية من كورونا بشكل ربما يفوق الموجة الأولى في حدتها، ونية مصر عدم العودة إلى الإغلاق الجزئي، ومن ضمن هؤلاء المتخصصين وزيرة الصحة المصرية، هالة زايد، نفسها.
الاتجاهات الأكثر حدةً في هذا الصدد رأت أن وزيرة الصحة تتحمَل المسؤولية الكبرى من خطأ السماح بإقامة المهرجان في هذا الوقت، بالنظر إلى ما شهدته مصر في بداية أزمة كورونا، من عواقب التجمعات المغلقة وشبه المغلقة، على غرار ما حدث في باخرة “أسوان” السياحية، التي شهدت إصابة 45 حالة بالفيروس، من ضمن نحو 170 شخصًا، مصريًا وأجنبيًا، على متن الباخرة، نتيجة تأخر الإغلاق السياحي، حتى مطلع مارس/آذار الماضي.
كما سمحت زايد، حسب أنصار وجهة النظر هذه، بتجمعات كبيرة لمؤيدي السيسي، تشبه، نسبيًا، ما حدث في المهرجان، مطلع أكتوبر/تشرين الماضي، بالقرب من مدينة نصر، بالتزامن مع مظاهرات معارضة دعا إليها المقاول محمد علي، احتجاجًا على قانون التصالح على مخالفات البناء، وسمحت أيضًا بعقد عدد من المهرجانات المشابهة بعد مهرجان الجونة مثل مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط، في الـ7 من نوفمبر/تشرين الثاني الحاليّ بدورته الـ36، ومهرجان الموسيقى العربية بدورته الـ29، المقرر انتهاؤها غدًا الثلاثاء، وتخطط لعقد مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في نسخته الـ42 مطلع ديسمبر/كانون الأول القادم، في الوقت الذي عادت فيه بعض الدول المجاورة، مثل “إسرائيل” وفرنسا إلى الإغلاق شبه التام بسبب تفشي الفيروس في الموجة الثانية.
بينما رأى إعلاميون مقربون من النظام مثل محمد الباز المذيع بقناة المحور ورئيس تحرير جريدة الدستور، أن الكفل الأكبر من ذنب ما جرى في الجونة لا تتحمله زايد، وإنما يسأل عنه مندوبها في المهرجان الذي جرى تكريمه هناك، خالد مجاهد، مطالبًا بسحب التكريم منه بعد تحول المهرجان إلى بؤرة فيروسية، نتيجة غياب الإجراءات الاحترازية التي كان ينبغي عليه التشديد على تطبيقها، لكنه لم يفعل، كما تظهر الصور.
وفي كل الأحوال، لا يبدو أن تحقيقًا أو تقصيًا أجري أو سيجرى خلال الأيام القادمة، لبحث مدى وجاهة فكرة إقامة المهرجانات الفنية بشكل متزامن في هذا التوقيت أو للإجابة عن سؤال كيف تحول المهرجان إلى بؤرة فيروسية رغم اتباع الإجراءات الاحترازية أو لمحاسبة المقصرين، إن وجدوا، حيث خرجت، للمفارقة، وزيرة الصحة هالة زايد، في مؤتمر صحفي وعدد من اللقاءات التليفزيونية عبر الهاتف، أول أمس، يوم الأحد الماضي، تعلن فيها عن إجراءات الدولة لمواجهة الموجة الثانية من الفيروس، وقالت خلالها من ضمن ما قالت، إن سبب تفشي الفيروس في بعض المدن خلال الفترة الماضية، ليس الكثافة السكانية وحسب، بل سلوكيات المواطنين غير الملتزمين بالإجراءات الاحترازية.