عاشت تونس ثلاث سنوات من التجاذب ما بين قوى الثورة والثورة المضادة، فتراوحت آليات التجاذب ما بين الانتخاب والاغتيال .. الديمقراطية والانقلاب .. التوافق والإرضاخ .. وأهم الدروس التي خرجت بها من هذه التجربة التي تابعت معالمها الكبرى من الخارج وعشت أصغر تفاصيلها من الداخل، هو أن الانتخابات التشريعية القادمة ورغم عظمة أهميتها على المدى البعيد .. لا قيمة لها حاليًا.
الهدف الأساسي من إقامة الانتخابات هو إقامة توازن سياسي يعطي كل ذي قدر قدره دون أن يبخس المنتصر أغلبيته ودون أن يعاقب المنهزم على قلة المصوتين له، فالانتخابات تعطي كل ذي قدر قدره، وهذا ما لم تعشه تونس بعد انتخابات أكتوبر 2011 ولن تعرفه بعد انتخابات أكتوبر 2014، فمهما كانت نتائج تشريعية 2014 سيعود المشهد السياسي إلى الانقسام من جديد – بعد إعلان النتائج بساعات – ما بين ثورة وثورة مضادة، لأن بقاء الثورة مرتبط بقصر قرطاج وفشلها مرتبط بقصر قرطاج وساكن هذا القصر سيتم انتخابه مباشرة بعد الانتخابات التشريعية.
بقاء الثورة أو “الانقلاب عليها” مرتبط برئاسة الجمهورية، ورغم كثرة المتنافسين في الجولة الأولى، فإن الجولة الثانية من انتخابات الرائاسة ستكون على الأرجح بين مرشح ينتمي بشكل مباشر أو غير مباشر للثورة ومرشح آخر ينتمي أو انتمى لنظام ما قبل الثورة، أو على الأقل مدعوم من قبله؛ وعندها ستقع المواجهة الحقيقية والصريحة بين المنتمين للثورة وغير المنتمين إليها ليس طمعًا في كرسي قرطاج الذي باتت صلاحيات صاحبه أقل من صلاحيات رئيس الوزراء، وإنما علمًا منهم بالدور الذي لعبه الرئيس التونسي الحالي “المنصف المرزوقي” خلال سنة الانقلابات الفاشلة.
ففي سنة 2013 كفرت المعارضة التونسية بالعملية السياسية برمتها، ودعت إلى اسقاط كل المنتخَبِين، واصطفّ مناصروها في الشوارع منتظرين لحظة مصرية وبيانًا عسكريًا يعلن عن انتهاء الثورة وبدء عصر الثورة على الثورة أي الانقلاب، ورغم إتمام قوى الثورة المضادة لكل وصفات “كتالوغ إعداد الانقلاب”، جاء قائد أركان الجيش التونسي، الجنرال محمد الحامدي، المعين حديثًا – آن ذاك – من قبل الرئيس المنصف المرزوقي وبتنسيق مع باقي الأحزاب المشاركة في الحكومة الائتلافية، ووقف هو والجيش “سدًا منيعًا” في وجه الانقلاب الذي شارك فيه – حسب تصريحات رسمية لرئاسة الجمهورية – قيادات عسكرية وقيادات أمنية وأحزاب ومؤسسات مجتمع مدني وقنوات تلفزية.
وكما تعلمنا أن تحييد الجيش هو أقصر الطرق وأوثقها لمنع الانقلابات، فإن الانقلابيين تعلموا أيضًا أن تعيين قيادة عسكرية موالية لهم أو غير معنية بحماية المسار الديمقراطي، هو حجر الأساس في مسار الإطاحة بالثورة، ولأن رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة وهو الوحيد الذي يمتلك صلاحية تعيين قائد أركان الجيش وإقالته، فإن كلا الطرفين باتا يسعيان للوصول إلى قصر قرطاج إما لحماية الثورة أو للإطاحة بها.
وأهم الخطوات المتخذة إلى حد الآن في هذا سياق، هي الخطوة التي اتخذتها حركة النهضة بالامتناع عن تقديم مرشح لرئاسة الجمهورية، وعبر هذه الخطوة ستنجح النهضة في تجنيب تونس مخاطر تحويل الصراع الانتخابي الرئاسي من صراع بين الثورة والثورة المضادة إلى صراع بين إسلاميين وعلمانيين، وتبقى الخطوة الثانية والأهم، وهي اصطفاف كل الأحزاب المؤمنة فعلاً بالديمقراطية والثورة خلف المرشح الثوري الذي سينجح في الوصول للجولة الثانية من الانتخابات، وكل تهاون في دعم هذا المرشح – مهما كان اسمه – سيكون بمثابة التواطئ مع المرشح الثاني الذي سيكون – كما هو واضح – مرشح القوى المعادية للثورة مهما كان اسمه.