قبل أكثر من 6 سنوات، بدأت الأزمة الليبية حيث شهدت البلاد – الغنية بالنفط – انقسامًا حادًا حتى في مؤسسات الدولة، فلكل مؤسسة أخرى موازية، وفي الأثناء طُرحت مبادرات عديدة لوضع حد لهذه الأزمة وإقرار السلام بين مختلف الفرقاء الليبيين لكن جميعها فشلت لأسباب عدة يطول شرحها.
في الفترة الأخيرة، تعالت بعض الأصوات خاصة في تونس – التي تحتضن الآن جولة من مفاوضات السلام الليبية – تنادي بضرورة أن يكون حل الأزمة ليبي-ليبي وألا يخرج إلا من ليبيا كونها المعنية الأولى والأخيرة بما يجري فوق أراضيها، وفق تصور أصحاب هذا الرأي، لكن هل يكفي التوافق الليبي لحل الأزمة هناك، خاصة إذا علمنا أن دولًا عديدةً لن ترضى بخسارة الامتيازات التي حصلت عليها بسهولة؟
حل ليبي-ليبي
أكبر الداعين لأن يكون الحل ليبي-ليبي هو الرئيس التونسي قيس سعيد، حيث جدد أمس الإثنين، لدى استضافة بلاده لفعاليات ملتقى الحوار السياسي الليبي المباشر تحت شعار “ليبيا أولًا”، حديثه عن رؤيته، ويشارك في هذا الملتقى 75 شخصية ليبية (تعهدوا بعدم المشاركة في الحكومة المرتقبة)، تحت رعاية الأمم المتحدة ومبعوثتها الأممية بالإنابة ستيفاني ويليامز.
الرئيس التونسي دائمًا ما يؤكد أن الحل فيما يتعلق بالمسألة الليبية، لا يمكن أن يكون إلا من الليبيين أنفسهم مهما تعقدت الأزمة واشتدت كل الصعوبات، فهم قادرون على “تجاوز كل الصعوبات وتخطي كل العراقيل”، بعيدًا عن البنادق أو أزيز الرصاص.
نفس الشيء بالنسبة إلى المقاربة المغربية، فالمغرب الذي احتضن الجولة الثانية من جلسات الحوار الليبي، يرى ضرورة دعم الليبيين دون فرض حلول مع التأكيد على أن أي تدخل خارجي في الشأن الليبي ينعكس على شمال إفريقيا والمغرب.
صحيح أن الظروف مواتية للوصول إلى حل للأزمة الليبية، لكن التوافق الليبي الليبي لحل الأزمة هناك لا يكفي
الجزائر التي غيرت معادلتها السياسية في الأزمة الليبية من الركون إلى التدخل الفعال، ترى أن حل الأزمة الليبية يقوم على ثلاثة مبادئ هي: الحل السلمي مع رفض الحل العسكري ووقف إطلاق النار والشروع في المفاوضات مع رفض كل التدخلات الخارجية.
وتحتضن تونس محادثات سياسية مباشرة، تندرج في إطار عملية متعددة المسارات تشمل المفاوضات العسكرية والاقتصادية، وترمي هذه المحادثات إلى توحيد البلاد تحت سلطة حكومة واحدة وتمهيد الطريق أمام إجراء انتخابات.
وقبل نحو شهر، وقع طرفا النزاع في ليبيا اتفاقًا دائمًا لوقف إطلاق النار بـ”مفعول فوري”، مهد الطريق أمام استئناف تصدير الإنتاج النفطي الليبي وشكل تقدمًا على خط إنهاء الأزمة السياسية المستمرة منذ سنوات.
ظروف مواتية للسلام
يرى الخبير في الشأن الليبي مختار غميض، أن الحل الليبي-الليبي يمكن أن ينجح، خاصة أن كل الظروف مواتية لذلك، فالحوار قد انطلق ولن يتراجع، وفق قوله، ومعسكر اللواء المتقاعد خليفة حفتر جاء منهزمًا ويلهث وراء الحوار على عكس المرات السابقة التي أخل فيها بكل اتفاقيات وقف إطلاق النار.
ليس هذا فحسب، يقول غميض لنون بوست، فـ”حلف الإمارات-مصر في وضع سيئ ولنقل ليس في أحسن حال، فقد تبخرت أموال الإمارات ضد الثورات الشعبية ولم تعد تقوى حتى على تمويل نظام السيسي وقد طالبته مؤخرًا بالتعويل على خلق مشاريع واستثمارات ولا يعول على الرز السخي”.
يرى محدثنا أن الغرب الليبي نسف كل جهود الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لتقسيم البلاد وبث الفوضى فيها، ويعتقد مختار غميض أنه إذا واصلت ألمانيا والدول التي تتسم بالحياد الإيجابي مجهوداتها الجدية، فسيحقق الأشقاء الليبيون تقدمًا كبيرًا نحو الحل الشامل”.
ويؤكد العديد من المتابعين للشأن الليبي أن تدهور الوضع الليبي يفرض على أبناء هذا البلد العربي أن يتركوا كل الخلافات بينهم وينظروا إلى النقاط المشتركة ويجلسوا إلى طاولة الحوار حتى يجدوا حلًا لأزمة بلادهم لما فيه مصلحة البلاد والشعب.
ويجزم هؤلاء أن قيام دولة ديمقراطية متطورة حديثة في بلادهم هي مصلحة المواطن الليبي، وهذه المصلحة لا يتوقعون أن يحققها لهم طرف خارجي، أي أن مصلحة المواطن الليبي ومصلحة ليبيا لا تتحقق إلا عبر الليبيين، عبر قيادة ومشروع وبرنامج وخطة وتخطيط للخروج من هذه المرحلة والدفع باتجاه الدولة الديمقراطية الحديثة.
للدول الأجنبية الكلمة الفصل
صحيح أن الظروف مواتية للوصول إلى حل للأزمة الليبية، لكن التوافق الليبي-الليبي لحل الأزمة هناك لا يكفي، فأغلب القوى الإقليمية والدولية المتدخلة هناك تبتغي مصلحتها فقط حتى إن كلفها الأمر إبادة الشعب الليبي عن بكرة أبيه، في حال لم تحفظ مصالحها.
ويؤكد مختار غميض أن للدول الكبرى مصالح كثيرة في ليبيا، فروسيا لها مصالح كبرى متوارثة منذ عهد الاتحاد السوفيتي في المياه المتوسطية الدافئة، وسواحل شرق ليبيا المهمة، وقد مكنها حفتر من امتيازات كثيرة من الصعب أن تتنازل عنها بسهولة.
الغريم التركي الذي رجح كفة حكومة الوفاق الشرعية، بدوره يسعى للحفاظ على مصالحه الموقعة منذ عهد نظام معمر القذافي، إلا أن تركيا وفق حديث غميض، أقل الطامعين في ليبيا، فقد جاءت هناك بناء على طلب من الحكومة الشرعية لدعمها ضد المتمرد خليفة حفتر والأطراف الساعية لعسكرة الدولة الليبية وتقسيمها.
أمام كل هذه المعطيات من الصعب أن يصل الفرقاء الليبيون إلى حل لأزمة بلادهم المتواصلة منذ سنوات دون موافقة القوى الأجنبية المتدخلة هناك
فرنسا، حتى إن كانت في حالة ضعف وتراجع في الفترة الأخيرة داخليًا وخارجيًا، فمن الصعب أن تتخلى عن امتيازاتها في ليبيا وتترك الليبيين يقررون مصيرهم بأنفسهم، فباريس تسعى للنيل من الثروات الهائلة إما بالمحافظة على مكاسب شركاتها النفطية مثل توتال وإما توسيعها، حتى إنها تعتبر الجنوب الليبي الغني بالذهب تركةً استعماريةً لها لا يحق لأحد مد يده عليها حتى إن كان الليبيون أنفسهم.
إيطاليا بدورها ترى في ليبيا امتدادًا جغرافيًا لها، لذلك لا يُعقل أن تتخلى عنه وفق مسؤوليها، وهمها هناك فوز شركاتها على غرار “إيني” بعقود استثمار جديدة للذهب الأسود في ليبيا التي تمتلك احتياطات كبرى من النفط.
ويتضح من المبادرات الدبلوماسية السابقة التي احتضنتها باريس في مايو/أيار 2018، تحت شعار “الحوار الليبي”، وأيضًا مبادرة “حوار” إيطاليا في باليرمو في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، عدم رغبة تلك القوى في إيجاد حل للأزمة في ليبيا رغم ادعائهم العمل على ذلك.
حتى إن مؤتمر برلين الذي عقد بداية هذه السنة، كان الهدف منه عودة زمام الأمور في ليبيا وفي جنوب المتوسط ككل إلى أيدي الأوروبيين بعد أن خفت بريقهم هناك وضعفت مكانتهم لصالح قوى دولية وإقليمية جديدة على غرار تركيا وروسيا.
دخول تركيا ومن قبلها روسيا، بقوة على خط الأزمة الليبية المتفاقمة، أرجع الملف الليبي إلى دائرة الاهتمام الدولي، وأجبرتا، بانخراطهما فيه، الدول الأوروبية على أن يكون في أولى أولوياتها بعد أن كان الأوروبيون منشغلين بمشاكلهم الداخلية وبالصراع فيما بينهم.
نضيف إلى هذه الدول مصر والإمارات التي تسعى بدورها إلى ضرب الاستقرار الليبي وتقويض الدور التركي الحاسم لحلّ الأزمة الليبية، حيث تعمد القاهرة وأبو ظبي إلى استمرار النزاع ومحاولة إسقاط الشرعية في ليبيا، في مقابل دعم المتمرّد خليفة حفتر الساعي إلى عسكرة الدولة.
غالبية هذه الدول، لا ترى في ليبيا إلا قطعة حلوى يجب أن تتذوقها وتأخذ حصتها منها، فالجميع لديهم مصالح كبيرة مع دول شمال إفريقيا يسعون للحفاظ عليها، وهم يسعون للحصول على النصيب الأكبر من النفط الليبي، دون النظر إلى سيادة البلاد.
تسعى كل دولة إلى فرض حليفها وتمكينه من بسط نفوذه في ليبيا التي تعاني من التفكك منذ سنوات عدة، حتى تسيطر على البلاد، وتحتوي ليبيا على ثروات هائلة من النفط، حيث تقدر احتياطاتها بنحو 46.6 مليار برميل، وهي الأكبر في إفريقيا، ويعتبر النفط مصدر الدخل الأساسي للبلاد ومثل قبل اندلاع الثورة الليبية 95% من عائدات الصادرات الليبية.
أمام كل هذه المعطيات من الصعب أن يصل الفرقاء الليبيين إلى حل لأزمة بلادهم المتواصلة منذ سنوات دون موافقة القوى الأجنبية المتدخلة هناك، ما يجعلهم أمام موقف لا يحسدون عليه، لكن هذا لا يعني الاستسلام لهذه القوى وترك بلادهم لهم يتمتعون بخيراتها.