عام 1994 وخلال افتتاح أول برلمان لجنوب إفريقيا بعد انتهاء نظام الفصل العنصري كشف الزعيم نيلسون مانديلا عن الدور النضالي للمرأة في بلاده، رابطًا حينها بين حقوقها كاملة وحرية الدولة، معتبرًا أن حرمانها من حقوقها في حقيقته سلب لحريتها، قائلًا جملته الشهيرة: “لا يمكن تحقيق الحرية إلا إذا تحررت النساء من جميع أشكال القمع”.
وفي كتابه “طريق طويل إلى الحرية” الذي يسرد فيه سيرته الذاتية، استعرض مانديلا الدور الحاسم الذي لعبته الرابطة النسائية للمؤتمر الوطني الإفريقي (الحزب الحاكم في الوقت الحاليّ) في حركة المقاومة الشعبية لنظام الفصل العنصري، وكيف قدمت المرأة في جنوب إفريقيا أروع المثل في التحمل والجلد ومؤازرة الرجال وتحمل المسؤولية.
لم يقف دور المرأة في هذا البلد الإفريقي على النضال من أجل الحرية فقط، بل تجاوز ذلك إلى النضال من أجل الحياة، حيث العمل لتوفير مقومات العيش وهربًا من الموت، فما يقرب من 38% من الأسر في جنوب إفريقيا تعتمد على المرأة بشكل أساسي لإعالتها في ظل غياب العائل الذكوري.
وبلغة الأرقام فإن هناك 6.1 مليون بيت في جنوب إفريقيا تنفق النساء عليه من الألف إلى الياء، حيث تتكفل بكل نفقات الحياة والتعليم والزواج، وتتعمق تلك المأساة مع الواقع المعيشي المتدني الذي تحياه معظم نساء البلد، خاصة في المناطق النائية بالأرياف وعلى الحدود.
الغريب أنه وفي خضم تلك المعركة الشريفة التي تخوضها المرأة في جنوب إفريقيا، فإن الأضواء عليها تنحصر عن دوائر البحث والدراسة والاهتمام، الأمر الذي جعل ما تقدمه من انتصارت عظيمة في مضمار الحياة خارج دائرة التعاطي الرسمي أو الشعبي. ولذا نسعى في تلك الإطلالة إلى إلقاء الضوء على تلك النماذج الإيجابية للمرأة المعيلة في واحدة من بلدان القارة الإفريقية.
الحاجة أم الاختراع
لم تملك المرأة في جنوب إفريقيا رفاهية الاختيار في رسم مستقبلها المعيشي، إذ وجدت نفسها مرغمة على تحمل المسؤولية والقيام بكل أمور حياتها بنفسها، فالظروف الصعبة التي تحياها أجبرتها على هذا الخيار الذي فُرض عليها قهرًا وليس رغبة كما يتوقع البعض.
تراوحت أعمار عينة الدراسة بين 20 إلى 55 عامًا، وهن ينتمين إلى العديد من الجماعات الإثنية
العديد من الدراسات الاستقصائية التي أجريت على نماذج نسوية عاملة في البلاد توصلت إلى أن معظمهن غير راضيات على واقعهن المعاش، وأنه لو كانت لديهن فرصة الرفض لرفضن، غير أن الأوضاع لا تقبل غير المجاهدة والمشقة لتحمل كلفة الحياة الباهظة.
البروفيسورة بيانكا باري، خبيرة علم النفس، والبروفيسور بولينج، رئيس قسم الأبحاث والدراسات العليا بجامعة جنوب إفريقيا، أجريا دراسة على عينة من النساء المعيلات في البلاد، من خلال لقاءات مباشرة معهن، استطلعا فيها أبرز ملامح حياتهن ومؤشرات تجاربهن في الإعالة والإنفاق على الأسر.
تراوحت أعمار عينة الدراسة بين 20 إلى 55 عامًا، وهن ينتمين إلى العديد من الجماعات الإثنية والثقافات والخلفيات الاجتماعية والاقتصادية، كما تم اختيارهن من مقاطعتين تمثلان المجتمع الجنوب إفريقي، بشقيه الحضري والريفي، هما: جوتنج وهي المركز الاقتصادي الحضري في البلاد، ومبومالانجا وهي منطقة ريفية شرق جنوب إفريقيا، تعيش على الزراعة والسياحة.
ومن أبرز الوظائف النسوية في البلاد، تنظيف المنازل وقيادة سيارات الأجرة والعمل في مشروعات التجميل والمطاعم، هذا بخلاف وظائف أسرية أخرى مثل رعاية أطفال الأقارب والجيران أو العمل كجليسات أطفال بأجر، وكلها في معظمها وظائف مؤقتة.
النتيجة الأبرز التي خرجت بها تلك الدراسة أن جميع النساء في عينة البحث، لم يخترن هذا الدور (الإنفاق على عائلتهن)، وإنما تم إجبارهن عليه بسبب الظروف، وأنه لو كانت الظروف أفضل نسبيًا لما اخترن هذا الطريق الشاق، الذي دفعهن لأن يتخلين عن بعض حقوقهن الحياتية.
الحرمان من الحقوق
ومن أجل الحقوق التي اضطرت المرأة المعيلة في جنوب إفريقيا أن تتخلى عنها حقها في الزواج، إذ بات الزواج بالنسبة لكثير منهن رفاهية أو مغامرة غير محسوبة العواقب، لا سيما أنها قد تفقد أسرتها عائلها الوحيد من جانب، وربما تتعرض لموجات عنف ضدها في ظل انتشار تلك الظاهرة في البلاد من جهة أخرى.
كثيرات من المعيلات هناك يفضلن البقاء دون زواج، فالزاوج بالنسبة لها ربما يمثل حملًا إضافيًا لا تقدر عليه، خاصة أن بعض الذكور لا يحبون العمل أساسًا وكثيرون ممن يلجأون للزواج من امرأة عاملة يكون باعثهم الأول الطمع في راتب الزوجة والعيش من خلاله.
من أبرز دوافع إحجام المرأة عن الزواج العنف الأسري الذي تتعرض له الذي يتحول إلى واحدة من أكثر الظواهر المجتمعية
وعليه فإن خوف كثير من النساء من هذه الظاهرة يدفعهن للبقاء في بيوتهن دون الإقدام على تجربة الزواج، لتفني المرأة حياتها كاملة في رعاية الصغار وتنشئتهم وتعليمهم، بل وقد يصل الأمر إلى زواجهم، لتبقى هي وحيدة دون عائل لها حتى تلقى حتفها.
هناك عقبة أخرى قد تزيد من معدلات العنوسة بين المعيلات لا سيما أصحاب الأعمال والمشروعات التجارية المربحة، تتعلق برفض الكثير من الرجال هناك الارتباط بامرأة ذات مال وفير، إيهامًا أنها بذلك قد تنافسه في قوامة المنزل وإدارته، وهو ما قد يكون عائقًا أمام الكثير من الزيجات على هذه الشاكلة.
ومن أبرز دوافع إحجام المرأة عن الزواج العنف الأسري الذي تتعرض له والذي تحول إلى واحدة من أكثر الظواهر المجتمعية في هذا المجتمع الذي ينظر إليه العالم نظرة تقدم ورقي، فالأرقام الصادرة من هناك تثير الهلع وتضع الكثير من علامات الاستفهام.
أرقام مرعبة
مؤسسة الإحصاءات الوطنية الرسمية في جنوب إفريقيا في تقريرها الصادر عام 2018 كشفت عن أرقام صادمة في نسب العنف في هذا البلد، حيث بلغت معدلات قتل النساء خمسة أضعاف المتوسط العالمي، فيما جاء الاغتصاب على رأس الجرائم التي تستهدف المرأة هناك، فمن بين كل 100 ألف سيدة تقع 250 منهن ضحية جرائم جنسية.
الإحصاءات كشفت عن قتل امرأة كل 3 ساعات، وأن هناك 2930 امرأة بالغة قد تعرضت للقتل خلال عام واحد فقط، بجانب أن ما يقرب من 80% من الجرائم الجنسية المبلغ عنها في عامي 2016 و2017 كانت اغتصابًا، وهي المعدلات التي تعد الأكبر في قارة إفريقيا بأكملها رغم التطور التشريعي الذي يجرم مثل تلك الجرائم.
الناشطة النسوية والمديرة الإستراتيجية في مؤسسة رايث، فاطمة شهاب الدين، ترى أنه رغم الأطر العامة لحقوق الإنسان التي وضعها الدستور الجنوب إفريقي الذي تعتبره الأكثر تقدمًا في العالم وليس في القارة فقط، فإن العنف ضد المرأة في هذا البلد أعلى بخمسة أضعاف من المتوسط العالمي، بحسب منظمة الصحة العالمية.
وأضافت أن حركات حقوق المرأة هناك حصلت على العديد من الانتصارات القانونية والتشريعية التي تحفظ للمرأة حقوقها وتشدد على تمتعها بكل القيم التقديمة النسوية، بل إنها كانت مثار إعجاب الكثير من المؤسسات الإقليمية والدولية، غير أن ما يمارس على أرض الواقع بعيد تمامًا عما يتضمنه الدستور واللوائح.
كلمة السر
في أغسطس/آب من كل عام تحتفل جنوب إفريقيا بـ”شهر المرأة” تقديرًا لآلاف النساء اللائي نظمن مسيرات إلى مباني الاتحاد (مقر الحكومة والرئاسة) في بريتوريا عام 1956، احتجاجًا على تمديد “قوانين الاجتياز” للنساء التي شرعها المستعمر البريطاني لفصل السكان والحد من حركة السود.
بين مطرقة الواقع المعيشي الصعب وسندان المطالبة بالحياة الكريمة تحت مظلة حقوقية جيدة، تقبع 6 ملايين امرأة جنوب إفريقيا في انتظار مصيرها
ورغم أن المسيرة كانت تستهدف قوانين الفصل العنصرية، فإنها كانت رمزية سياسية واجتماعية عن واقع المرأة المعاش وآمالها المعقودة على النظام الجديد الذي يعيد لها حقوقها المسلوبة من المجتمع الذكوري الذي كان يسيطر على المشهد في هذا الوقت.
واستطاعت المرأة على مدار السنوات الماضية أن تكون كلمة السر في حركة النهضة الجنوب إفريقية، فكان لها السبق في دفع قاطرة التقدم في هذا البلد للأمام، وذلك بحسب شهادات الكثير من الساسة والمسؤولين، سواء داخل البلاد أم خارجها، توثيقًا لما قدمته المرأة من خدمات للنهوض بأمتها وشعبها.
وتشير الأرقام إلى أن المرأة ضلع أساسي في بناء الدولة الإفريقية، إذ تشكل قرابة 3.6% من الرؤساء التنفيذيين للشركات داخل البلد، إلى جانب 5.5% من رؤساء الشركات، كما أن أكثر من 21.4% من المديرين التنفيذيين من النساء، وذلك بحسب إحصاءات 2014 فيما تذهب المؤشرات إلى أن الوضع الآن تطور بصورة أكبر.
ورغم سيطرة النساء على 50% من الحقائب الوزارية في الحكومة الحاليّة وهي النسبة الأعلى في تاريخ البلاد، فإن بعض الحقوقيات يطمعن في أكثر من ذلك، لافتين إلى أن لذلك دلالة كبيرة على إيمان الدولة بالمرأة ودورها الريادي والقيادي الذي لا يقل أبدًا عن الرجل.
موقف لا تحسد عليه شريحة كبيرة من النساء في هذا البلد الذي مزقته العنصرية قديمًا وبات قبلة التيارات الحقوقية المتشعبة حاليًّا، فبين مطرقة الواقع المعيشي الصعب وسندان المطالبة بالحياة الكريمة تحت مظلة حقوقية جيدة، تقبع 6 ملايين امرأة جنوب إفريقية في انتظار مصيرها، لتقدم واحدة من أروع نماذج التحدي والمقاومة داخل إفريقيا وخارجها.