لم تعرف إيران انقسامات كبرى داخل أجنحة المؤسسة الدينية الحاكمة لإيران مثل التي تعرفها الآن، الأمر الذي يهدد مستقبل النظام السياسي برمته دون أدنى مبالغة، من خلافات نارية بين أقطاب الحكم إلى فجوات داخل الدولة بسبب الضغوط السياسية والاقتصادية، في ظل قبضة ثيوقراطية لا تلين لأي سبب كان حتى لو اشتعل الشارع وأحرق البلاد عن بكرة أبيها!
من السبب؟
يجد المتشددون في إيران، وخاصة الزمرة المقربة من المرشد الأعلى علي خامنئي ضالتهم في الهجوم الشرس على الرئيس حسن روحاني، يستهدفون ما يسمونه اعتداله المفرط، وسط الضغوط الشرسة التي تتعرض لها البلاد.
يطمح هذا اللوبي وخاصة كلما اقترب موعد الحسم في إيران خلال يونيو/حزيران القادم لاختيار رئيس يخلف روحاني، في هدم الرجل تمامًا، ويستندون إلى غضب شعبي عارم نتيجة الأداء الضعيف الذي تتحمله دائمًا السلطة التنفيذية بمعزل عن القادة الحقيقيين للبلاد.
يُحمّل رجال المرشد روحاني كل شيء، زيادة رقعة الفقر في المجتمع الإيراني الذي وصل إلى حدود 50% من السكان، وهبوط المزيد من الشرائح إلى ما تحت خط الفقر بسبب تواصل الغلاء وانهيار العملة الوطنية وارتفاع نسبة التضخم في ضوء العقوبات الأمريكية، وأخطر من كل هذه الصعوبات هو اليأس الذي ضرب صفوف الأمة، ولم يعد لها أي أمل في الإصلاح أو التغيير بنظام يحكم بالقمع المفرط ويطوّع نصوص الدين ويفرض تفسيراتها الخاصة به على رقاب الجميع.
انتقادات روحاني المستمرة بدأت من أكبر رؤوس النظام، رئيس البرلمان والمرشح الرئاسي السابق محمد باقر قاليباف الذي يشن هجومًا شرسًا بين الحين والآخر، يستهدف من خلاله تعرية إدارة روحاني، ويتهمها باللامبالاة والعبث باحتياجات الناس.
هذا الهجوم له ما يبرره عند قاليباف، فهو أحد أبرز قادة الحرس الثوري الإسلامي في التسعينيات وقائد الشرطة حتى عام 2005، ثم عمدة طهران عام 2017، وحاليًّا رئيس البرلمان الذي لم يتبق له إلا الرئاسة التي سعى إليها في ثلاث دورات رئاسية ولم يوفق، والآن أصبح الطريق معروفًا جيدًا، الضرب تحت الحزام في روحاني.
ما يلفت الانتباه إلى الحروب الداخلية بين أجنحة الدولة، إفراد المواقع التابعة للحرس الثوري مساحات واسعة لرئيس البرلمان، وتسليط الضوء على ما يسمونه دعم الفقراء والشعب في مواجهة الرئيس وتلميع أفكاره وبرامجه للمشاكل الاقتصادية الحاليّة، في محاولة لرفع أسهمه قبل الانتخابات القادمة.
المتابع لمفردات السياسية الإيرانية سيعلم جيدًا أن هناك احترافية في إستراتيجية إلقاء اللوم على الرئيس لتفادي مساءلة النظام الحاكم الحقيقي عن مشاكل البلاد، ومعروف أن صناع القرار في إيران ليس الرئيس ولا وزارته وأجهزة حكمه.
الحاكم الحقيقي هو خامنئي، وما يفعله الرئيس ليس أكثر من اتباع أهداف المرشد الأعلى فيما يتعلق بالاهتمامات الإقليمية والدولية والمحلية، وما يستطيع فعله، اللعب حسب قدراته السياسية والفكرية على إيجاد هامش من الاختلافات، حتى يقنع المواطن أنه من يدير وليس خامنئي الذي بيده سحب ستار المسرح على الجميع في الوقت والزمان الذي يحدده.
قضايا مستعصية
لا يدرك أصحاب هذه الحيل السياسية في إيران أن هناك قضايا أصبح يحفظها المواطن عن ظهر قلب، يعرف الإيراني جيدًا أن الرئيس لا دخل له بالسياسات العامة، فالانخفاض المستمر في قيمة العملة التي أصبحت واحدة من أقل العملات قيمة في العالم – ما يزيد على 268 ألف ريال إيراني مقابل الدولار الأمريكي الواحد – لا يتحمل مسؤوليتها روحاني بل خامنئي وأجنحة حكمه.
تعثر الحكومة في توفير السكن للشرائح المتوسطة والفقيرة، هو انعكاس للأوضاع الاقتصادية، وانخفاض معدلات الزواج وزيادة إحصاءات الطلاق والأزمات الاجتماعية، خلفها تلاشي اللحوم والدجاج ومنتجات الألبان من موائد الأسر الإيرانية، وفوق كل هذا ندرة الحريات والزيادات الهائلة في ضحايا الرأي بالسجون الإيرانية، كل هذا من صنع المرشد وليس الرئيس.
ابتلاع ميزانية الدولة
البحث في خلفية الأزمات داخل إيران يؤكد أن المحرك الحقيقي لها هو الحرس الثوري ومكتب خامنئي، فالمؤسستان لهما سيطرة كبيرة على اقتصاد الدولة وهيمنة واسعة على أجزاء كبيرة من ميزانية البلاد، حيث يحتكر الحرس الاقتصاد الإيراني بنسبة تزيد على الربع، من خلال شركات ومؤسسات دينية، بينما يبلغ نصيبهما معًا نحو 60% من الثروة الحكومية، بحسب تقديرات معارضين للحكومة.
يقتحم الحرس الثوري مختلف القطاعات الاقتصادية، ويهمين على صناعات الاتصالات والغاز والنفط وشركات الطيران التجارية، فخامنئي وحده يمتلك منظمة ستاد إجرايي فرمان التي تدير أصول أموال طائلة جلبت على المرشد ثروة بلغت نحو مئتي مليار دولار بحسب السفارة الأمريكية في العراق.
طال الفساد المالي الجميع، المتعدلين والمتشددين، وسقط روحاني في فخاخ قبضة هذه القوى بعد تصريحه الشهير بأنه سيقضي على الفساد بالنظامين الإداري والاقتصادي للبلاد، طالت أحاديثه الكثير من هذه المحاور التي شملت كثيرًا إشارات واضحة لإساءة استخدام الأموال العامة، وهو السبب الرئيسي للهزال المستمر في قيمة العملة الإيرانية منذ تولى روحاني منصبه عام 2013.
ابتكر النظام الإيراني للتغطية على هذه الانتهاكات نظامًا مصرفيًا عجيبًا يبيح تسريب الأموال الضخمة لأنصاره عبر توفير شرائح مكاسب بمعدلات فائدة هي الأعلى في العالم، تصل أحيانًا إلى 20%، وكل ذلك لإبقاء عملاء النظام في الداخل والخارج ومساعدتهم في تكوين ثروات متراكمة بالبنوك الحكومية في وقت لا يستطيع الفقراء الإنفاق على الطعام والشراب.
فقد مئات الآلاف من الإيرانيين أموالهم ومدخراتهم قربانًا لفشل المؤسسات المالية، وبسبب تفاقم مشكلات وأزمات العمل المصرفي في البلاد، وهو ما أرجعه خبراء الاقتصاد في العالم، إلى الممارسات المصرفية المحفوفة بالمخاطر التي ترسخ الفساد الرسمي المتفشي في البلاد وتقوي من قبضته.
ميزانية بشار
رغم كل ذلك لا تجد مؤسسات الحكم الحقيقية أزمة في إنفاق ما تبقى على بشار الأسد الذي يتمتع بوضع خاص في الميزانية الإيرانية، إذ تخصص له مليارات طائلة من عائدات البلاد النفطية، فقط من أجل تثبيت سلطته على سوريا، عبر دعم المليشيات والجماعات المسلحة التي تحارب له بالوكالة بدلًا من تعزيز اقتصاد البلاد وإعادة توزيع الثروة.
تتبع إيران هذا النهج منذ اندلاع الحرب الأهلية في 2012، التي وجدتها السلطات فرصة تاريخية لزيادة نفوذها في سوريا، سواء لضمان استمرارية الممر البري من طهران إلى بيروت، أم للعمل على إستراتيجية مد الأذرع الشيعية التي تضمن لنظام خامنئي البقاء لأطول عمر ممكن في الحكم، وهذا لن يحدث وسط كل هذا العبث الداخلي إلا من خلال شبكات خارجية تدعم وجوده وتحتمي بمظلته.
إقدام النظام الدائم على تغيير جلده وهرس رجاله وتدويرهم في مقلب نفايات سياسية، لم يعد يقنع الشارع ولا حتى أنصار النظام الإسلامي نفسه
يمكن القول إن الغليان الدائم في البلاد الذي يثير أرق النظام الحاكم ويدفعه لاتخاذ مزيد من الإجراءات القمعية لإحكام قبضته على المجتمع بل وعلى المنطقة بأسرها، لتحجيم الغضب الاجتماعي الذي هزّ البلاد في يناير/كانون الثاني الماضي، خوفًا من شيوع التمرد والعصيان المدني لفئات مختلفة من الشعب الإيراني بما فيهم النساء، لا يعني أن الأيام القادمة لن تحمل المزيد من المفاجآت.
إقدام النظام الدائم على تغيير جلده وهرس رجاله وتدويرهم في مقلب نفايات سياسية، لم يعد يقنع الشارع ولا حتى أنصار النظام الإسلامي نفسه، بعدما خرجوا مؤخرًا يهتفون بسقوط المرشد ويرددون شعارات الموت لخامنئي الذي نجح في حرق روحاني، بعدما أجبره على التراجع عن الاعتراف بشرعيّة المطالب الشعبية، وحمل دولًا أجنبيةً تريد تخريب البلاد وحرقها مسؤولية الاحتجاجات، وكما فعل في روحاني سيفعل في كل نظام يتقلد الحكم ويجلس على سدته.