لا حديث في وسائل الإعلام العالمية إلا عن إعادة ضخ النفط الليبي بقوة مفاجئة وغير متوقعة، فقد طغت التفاصيل النفطية بعد أن خف بريق عناوين الصراع بين الفرقاء، بعد جمود الموقف العسكري على الأرض عند ما سمي بالخط الأحمر المصري، لا سيما بعد أن غيرّت القوى الدولية بوصلة إستراتيجياتها وأصبحت تكثف جهودها في كيفية احتواء الشغف الليبي بزيادة أكبر عدد ممكن من براميل النفط التي وصلت إلى 800 ألف برميل يوميًا.
ماذا حدث؟
استثمارًا للاتفاق السياسي الجديد بين أطراف الصراع الليبية التي كانت على شفا حفرة من الاقتتال وفرض الأمر الواقع بالقوة المسلحة، تغيرت حسابات مؤسسة النفط الوطنية، فكثفت عملياتها في حقول وموانئ توقفت عن العمل في السابق بأمر من الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، قائد الجيش المتمركز في شرق البلاد.
كان خليفة قد خفض الإنتاج إلى 100 ألف برميل فقط في اليوم، لإصراره على حصول الشرق على حصة أكبر من عائدات النفط التي تجمعها حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا، وبحكم ذلك كانت وما زالت تحتكر الحق في توريد إيصالات النفط والغاز.
بحسب مصطفى صنع الله، رئيس المؤسسة الوطنية للنفط، تستهدف ليبيا الآن رفع معدلات إنتاج البلاد من النفط إلى 1.3 مليون برميل مع بداية عام 2021، ويوضح أن عودة الضخ بهذه القوة يعني أن هناك هدفًا إستراتيجيًا للبلاد وهو استرداد عافية ليبيا النفطية وإعادتها إلى ما كانت عليه قبل رحيل القذافي في 2011، حيث كان يبلغ إنتاج حقول النفط نحو 1.6 مليون برميل يوميًا.
تعد الاحتياطات النفطية الليبية الأكبر في إفريقيا، فضلًا عن كونها من أكبر عشرة احتياطات على مستوى العالم، وبخلاف ذلك فالبلاد منطقة نفطية جذابة للغاية للاستثمار، بسبب انخفاض سعر تكلفة إنتاج النفط فيها ـ دولار واحد للبرميل ـ كما يمتاز النفط الليبي بانخفاض كل من الكبريت وتكلفة النقل، إذ تعتبر الأقرب في المنطقة جغرافيًا للأسواق الأوروبية.
ولهذا كان النفط الليبي حتى عام 2010، ثالث أكبر مصدر للاتحاد الأوروبي بعد النرويج وروسيا، والمثير أن أغلب التقارير البحثية العالمية تؤكد أن معظم الحقول في البلاد لم تكتشف بعد، سواء بسبب العقوبات الدولية المستمرة أم للخلافات المعقدة مع شركات النفط الأجنبية.
أسباب أخرى
لم يكن الاتفاق السياسي وحده السبب في اللجوء إلى رفع إنتاج النفط بهذه الصورة، بل تدخلت عوامل أخرى في الكواليس، بدأت بخطوات دبلوماسية ثم انتهت بتهديدات مباشرة وواضحة لكل الأطراف، إذا استمرت سياسة العناد على حساب المصالح الدولية.
بدأت الأمم المتحدة مشوار الوساطة منذ 2014، وحاولت إقناع حكومتي ليبيا المتحاربتين في طبرق وطرابلس بالاتحاد معًا في قضية النفط بعيدًا عن الأزمة السياسية، وهي آلية تتسق مع نهج اتبعته الخارجية الأمريكية في حل القضايا الهامشية قبل التوصل إلى صفقات سياسية طويلة الأجل، بين الأطراف المتنازعة.
لكن خرجت الأمم المتحدة خالية الوفاض قبل أن تتدخل أمريكا مباشرة بدلًا من اللعب خلف الستار، ومارست ضغوطًا عدة على مصرف ليبيا المركزي بمعزل عن حكومة الوفاق التي تملك السيطرة الشكلية عليه دون أن تملك مفاتيح قراره بشكل حقيقي، لا سيما أن البنك كان يرفض تمامًا كشف ميزانيته العمومية من الاحتياطات الأجنبية سواء للحكومة أم للقوى الدولية.
بدأت أمريكا في اتباع أسلوب أشد قسوة بتتبع خطوط تهريب النفط، وبالفعل عاقبت وزارة الخزانة ستة من مهربي النفط الليبيين من رموز المليشيات التي كانت تهرب البنزين وتصدره بشكل غير قانوني إلى أوروبا.
رغم العصا الأمريكية التي كانت تشهر في وجه كل أطرف اللعبة، فإنها احتفظت أيضًا بهامش تفاوضي ووساطة بين الجانبين لإيجاد صيغة رسمية لاتفاق شرعي لإدارة أزمة النفط، وبالفعل ومع اتفاق الأطراف الدولية على التوقف في حدود الصراع عند الخط الأحمر، بدأ الجميع يتجه للملف المجمد منذ سنوات.
كانت التقديرات الدولية تحديدًا – بنك جولدمان ساكس – وهو مؤسسة خدمات مالية واستثمارية متعددة الجنسيات، وتعد من أشهر المؤسسات المصرفية في الولايات المتحدة والعالم، وله خبرة كبيرة في صناعة السوق وصفقات الأسهم بالإضافة إلى كونه مُضاربًا رئيسيًا في سوق الأوراق المالية التابع للخزانة الأمريكية، يؤكد أن عودة الضخ المنتظم قد يصل بالإنتاج النفطي الليبي إلى 500 ألف برميل في اليوم بنهاية العام.
لكن الهمة الليبية فاقت التوقعات ووصلت إلى 800 ألف برميل في اليوم بحلول نوفمبر/تشرين الثاني الحاليّ، وكما أسلفنا تتوقع المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا، الوصول إلى معدل مليون برميل في اليوم في وقت لاحق من هذا الشهر و1.3 مليون برميل في اليوم بحلول يناير/كانون الثاني.
حسابات أوبك.. هل من تهديد؟
في أبريل/نيسان الماضي شهد العالم أزمة مكتومة بين السعودية وروسيا بسبب حرب الأسعار داخل منظمة أوبك، مع ضغوط خارجية عليها بعد أن خفضت إنتاجها من النفط بنحو مليوني برميل يوميًا، في ظل ضعف الطلب، ومع تصاعد الصراع حاول قادة البلدين الوصول إلى اتفاق بالفعل لمنع السوق من الانتكاس.
وصل الأطراف إلى اتفاقات مناسبة بعد أسابيع من الصدام والعناد، لكن الصعود المفاجئ الآن للنفط الليبيي، قد يؤدي إلى مخاطر حدوث فائض جديد، وبالتالي تداعيات عميقة على الدول الأعضاء، لا سيما أن التقديرات العالمية تربط عودة مستويات الطلب إلى ما كانت عليه قبل كورونا، بمدد زمنية لا تقل عن عامين بعد نهاية خطر الفيروس تمامًا، وهو أمر يحتاج إلى تقليص المخزون العالمي لتجنب تخمة أخرى وهبوط في الأسعار.
ما يؤكد مصداقية التوقعات البحثية لما سيحدث خلال الشهور القادمة، تراجع أسعار النفط العالمية بعد عودة ارتفاع حالات الإصابة بفيروس “كوفيد 19” بمعدل قياسي بلغ في يوم واحد فقط بأوروبا نصف مليون مصاب، ما دفع الحكومات في جميع أنحاء القارة العجوز إلى فرض قيود على التنقل مرة أخرى للحد من انتشار المرض.
هذه القيود تنعكس بالتبعية على الاستهلاك العالمي، الذي يتصادف مع عودة الإنتاج الليبي إلى الارتفاع بأقصى طاقة ممكنة، الأمر الذي يزيد أعباء أوبك ويجبرها على إعادة النظر في إنتاجها البالغ مليوني برميل يوميًا.
السعودية من جانبها تتحرك بأقصى سرعة ممكنة لمواجهة الأزمة، وتم تدوال العديد من المقترحات لكبار رجال النفط في المملكة وروسيا، الذين أجمعت تصوراتهم على الاستقرار على خفض إنتاج المجموعة بنحو 7.7 مليون برميل يوميًا في الوقت الحاليّ حتى العام المقبل، بغض النظر عن ارتفاع الإنتاج الليبي، وترجع ذلك إلى أهمية التعامل بعقلانية مع هدوء الطلب على النفط في أوروبا، وتعثره بشكل شبه تام في الولايات المتحدة الأمريكية.
أكد وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك هذه الفرضية، فقال إنه من السابق لأوانه الحديث عن إمكانية تعديل معايير اتفاق “أوبك” دون تقييم تطور أوضاع السوق خلال الأشهر المقبلة، وكان تصريحه أكثر جرأة من البلدان العربية وخاصة السعودية، مؤكدًا أن ليبيا لن تستثنى من عمليات التخفيض الخاصة بأوبك.
يزيد الدين العام للبلاد بشكل مضطرد، وليس منطقيًا أن تطلب ليبيا مساعدات في ظل وجود ثروة كفيلة بالدفع
ما يمكن قوله في كل هذه التفاصيل المتشعبة عن عودة النفط في ليبيا، إن هناك العديد من المخارج لاستمرار الضخ بكل قوته بغض النظر عن قرارات أوبك، فليبيا لها خصوصية مختلفة في السوق، إذ تنفرد إيطاليا بالاستحواذ على أغلب منتجاتها من النفط، فضلًا عن أن زيادة الإنتاج على هذا النحو سينعكس بشكل إيجابي على الاستهلاك المحلي.
يؤكد العديد من الخبراء أن ليبيا يمكنها عدم الالتزام بسقف إنتاج النفط المتفق عليه في أوبك، كما يمكنها الابتعاد عن الالتزام بضغوط تمارس عليها من السعودية وروسيا لأي سبب سواء كان اقتصاديًا أم سياسيًا، نظرًا للظروف التي كانت تمر بها وتوقف النفط بشكل نهائي وهو ما يتفهمه العالم جيدًا ويتعاطف معه.
يزيد الدين العام للبلاد بشكل مضطرد، وليس منطقيًا أن تطلب ليبيا مساعدات في ظل وجود ثروة كفيلة بالدفع، فضلًا عن أن المنشآت النفطية بحاجة إلى تمويل كامل، لتنفيذ الخطط التطويرية للبنية التحتية وتعزيز الصادرات ودعم الموازنة العامة وتخفيف الأعباء عن المواطن الليبي.