عشرات التساؤلات والتحليلات تلتف حول الاقتصاد التركي بعد إقالة محافظ البنك المركزي، مراد أويصال، من منصبه الذي شغله لمدة 16 شهرًا، وتعيين ناجي آغبال، رئيس إدارة الإستراتيجية والموازنة، خلفًا له. وخصوصًا أن تبعته استقالة وزير المالية والخزانة، براءت ألبيراق من منصبه، في اليوم التالي، لأسباب تتعلق “بحالته الصحية” رغم أنه أحد أكثر مساعدي أردوغان الموثوق بهم، والذي تهيأ للبعض أنه سيكون وريث أردوغان السياسي.
ولساعاتٍ طويلة، ظل طلب الاستقالة معلقًا، إلى أن أعلنت الرئاسة التركية في اليوم التالي أن الرئيس رجب طيب أردوغان قبل استقالة صهره الذي تولى المنصب منذ عامين، واستعاض عنه بالوزير السابق لطفي ألوان، وذلك على عكس تكهنات البعض بأن أردوغان سيرفض طلب التنحي كما حدث مع وزير الداخلية التركي سليمان صويلو في وقت سابق من نفس العام.
آمال وتوقعات عالية
على خلفية تغيير مواقع وأسماء أحد أهم صانعي السياسة الاقتصادية التركية، كان من المتوقع أن يزيد هذا الوضع من الضغوط على الليرة التركية التي فقدت 30% من قيمتها منذ عام 2020، لكن حتى مع بقاء منصب وزير المالية شاغرًا لفترة من الوقت ارتفعت العملة المحلية بنسبة 6% مقابل الدولار الأمريكي، ليكون ذلك أفضل يوم لها منذ عامين، لكن سرعان ما تبددت آمال التعافي مع فقدان الليرة جزء كبير من مكاسبها التي حققتها بشكل آني.
وبعد مرور البلاد بسلسلة متتالية من الانخفاضات في سعر صرف الليرة واحتياطات العملات الأجنبية، شعر المستثمرون بالقلق من هذا الانخفاض وقدرة البنك المركزي على معالجة التضخم ذي الرقم المزدوج، حيث استقر معدله بالقرب من 12% طوال العام – أعلى بكثير من الهدف البالغ نحو 5% -.
لكن مع تعيين آغبال وألوان، رفع المحللون توقعاتهم بزيادة أسعار الفائدة التي يمكن أن تخفف الضغط على سعر الصرف، وبالتالي على التضخم والعجز التجاري الخارجي، الحالة التي دفعت إلى التساؤل عن مسارهم ومنهجيتهم الاقتصادية في السنوات المقبلة.
رئيس المركزي التركي الجديد
ولد الحاكم الجديد ناجي آغبال عام 1968 في ريف بايبورت، شمال شرق تركيا، ودرس الإدارة العامة في جامعة إسطنبول قبل حصوله على ماجستير إدارة الأعمال في جامعة إكستر بالمملكة المتحدة، وفي بداية التسعينيات، عمل بيروقراطيًا في وزارة المالية التركية وأصبح وكيل الوزارة ثم وزير المالية فيما بعد، دخل البرلمان تحت راية حزب العدالة والتنمية الحاكم عام 2015، وينظر إليه على أنه حليف وثيق للرئيس.
من غير الواضح ما إذا كان سيكون لديه مساحة سياسية للمناورة، وقد نحصل على إجابة حاسمة على ذلك في الاجتماع القادم لتحديد سعر الفائدة في 19 من نوفمبر/تشرين الثاني.
يحظى آغبال بعلاقة جيدة مع المستثمرين الأجانب، وكان معروفًا بالتزامه بالانضباط المالي، إذ وصفه أحد المتداولين بأنه “صديق للسوق”، ويُعرف أنه من أنصار عدم رفع سعر الفائدة والبحث عن أدوات مالية ونقدية أخرى ليوازن سعر الليرة التركية، كطرح سندات خزينة وزيادة الإنتاجية عبر التشجيع على خروج الإيداعات المصرفية من مخازن المصارف إلى الأسواق والاستثمار.
ومع ذلك، حتى إذا كان السيد آغبال يعرف ما يجب القيام به لتحقيق الاستقرار في الليرة، فلا يزال من غير الواضح ما إذا كان سيكون لديه مساحة سياسية للمناورة، وقد نحصل على إجابة حاسمة على ذلك في الاجتماع القادم لتحديد سعر الفائدة في 19 من نوفمبر/تشرين الثاني.
تتوقع الأسواق المالية الآن ارتفاعًا يتراوح بين 200 و600 نقطة أساس في الاجتماع المقبل بشكل سريع لتحقيق الاستقرار في الليرة
في أول بيان له، كرئيس للبنك المركزي التركي، قال آغبال إنه عازم على مواصلة استخدام جميع أدوات السياسة النقدية تماشيًا مع الهدف الرئيسي لاستقرار الأسعار، وأضاف أنه سيتم تعزيز الاتصال في السياسة النقدية في إطار مبادئ الشفافية والمساءلة والقدرة على التنبؤ، وأوضح أنه يتم مراجعة الوضع الحاليّ ومتابعة التطورات عن كثب حتى تاريخ اجتماع لجنة السياسة النقدية في 19 من نوفمبر/تشرين الثاني الحاليّ، مشيرًا إلى أنه سيتم اتخاذ القرارات الضرورية في ضوء البيانات والتقييمات التي سيتم تشكيلها.
وبناءً على هذا التصريح، تتوقع الأسواق المالية الآن ارتفاعًا يتراوح بين 200 و600 نقطة أساس في الاجتماع المقبل بشكل سريع لتحقيق الاستقرار في الليرة، لأنه ربما لم يكن ليتولى المنصب من دون حرية اتباع السياسات التقليدية، ومع ذلك، لا يمكن الجزم بأي شيء الآن، فقد امتلك المحللون الماليون توقعات مشابهة نوعًا ما في الشهر الماضي إلا أن البنك المركزي التركي خالف التوقعات العامة وأبقى سعره الرئيسي ثابتًا عند 10.25%.
لكن إذا صدقت التوقعات، ورفع البنك المركزي معدل سعر الفائدة، فإن كيران كورتيس مدير المحفظة في “أبردين ستاندرد إنفستمنتس”، يقول إن تركيا أيضًا “ستواجه صعوبات بسرعة كبيرة إذا عادت إلى قواعد اللعبة الخاصة برفع الأسعار، ثم خفضها مرة أخرى بأسرع ما يمكن”، وقدر أن الأمر قد يستغرق تسعة أشهر لمعرفة إذا كانت الأمور قد تغيرت بالفعل، ما يعني أن الطريق سيكون طويلًا أمام آغبال ليخلق أي تحسن يذكر في الاقتصاد التركي.
وزير المالية الجديد: لطفي ألوان
ولد لطفي ألوان عام 1962 في مقاطعة إرمنيك في كرمان، وحصل على درجة البكالوريوس في التعدين من كلية المناجم بجامعة إسطنبول التقنية (ITÜ)، ودرجة الماجستير في عمليات التعدين والبحث من جامعة ليدز بالمملكة المتحدة، ودرجة الماجستير الثانية في الاقتصاد من جامعة ديلاوير الأمريكية.
عمل خبيرًا ورئيس دائرة ووكيل وزارة في مختلف المؤسسات العامة، وشغل منصب نائب رئيس مجموعة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، ورئيس مركز التعليم والشباب في الاتحاد الأوروبي، وعضوًا في لجنة مراقبة وتوجيه المفاوضات في الاتحاد الأوروبي.
بدأت حياة ألوان السياسية كمستشار للرئيس أردوغان في حزب العدالة والتنمية عام 2007، كما شغل مناصب عالية الشأن في حكومات سابقة، ومنها تعيينه في وزارة النقل التي تم إخلاؤها بعد ترشيح بن علي يلدريم لمنصب عمدة بلدية إزمير في الانتخابات المحلية لعام 2014.
استأنفت تركيا بشكل استباقي أنشطتها الاستكشافية في البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط واشترت أول سفينة حفر خلال فترة ولايته.
بعد انتخابات 7 من يونيو/حزيران 2015، عندما فقد حزب العدالة والتنمية أغلبيته في البرلمان، تولى منصب نائب رئيس الوزراء المسؤول عن الاستثمارات في الحكومة الانتخابية التي تأسست برئاسة أحمد داوود أوغلو، علمًا بأن ألوان كان أحد الأسماء المقربة جدًا من داوود أوغلو، حتى إن البعض يذهب لدرجة تشبيه به، من ناحية المواقف والأسلوب.
تولى ألوان منصب وزير التنمية في الحكومة الخامسة والستين التي تأسست في عهد رئاسة وزراء بن علي يلدريم، وقبل توليه المنصب الجديد، شغل منصب رئيس لجنة التخطيط والميزانية في البرلمان، وهو المنصب الذي أكسبه ثقة المستثمرين الأجانب الذين نظروا إلى تركيا بإيجابية من خلال جهوده في هذا القطاع.
أضاف مسؤول تنفيذي كبير في قطاع الأعمال التركي “إنه شخص جاد.. الثقة ستتحسن”.
تحت إشرافه، تم إعداد وتقديم سياسة الطاقة والتعدين الوطنية لتركيا التي تعتمد على ثلاثة مبادئ (التوطين والقدرة على التنبؤ وأمن الإمداد)، كما استأنفت تركيا بشكل استباقي أنشطتها الاستكشافية في البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط واشترت أول سفينة حفر خلال فترة ولايته.
ابتعد ألوان عن العناوين الرئيسية وأضواء التليفزيون خلال مسيرته الوزارية، لكن آراء المسؤولين والعاملين معه لم تغيب اسمه عنه الساحة، فقد اعتبره بعض زملائه السابقين في مجلس الوزراء “خيار لائق للعمل الجاد، فهو يدعم ما هو سليم وعقلاني”، وأضاف مسؤول تنفيذي كبير في قطاع الأعمال التركي “إنه شخص جاد.. الثقة ستتحسن”.
في تصريحاته الأولى، تعهد وزير الخزانة والمالية الجديد بتنفيذ تغييرات ملائمة للسوق وتحسين البيئة الاستثمارية لأصحاب المشاريع الدولية والمحلية مع استخدام جميع الأدوات لمعالجة التضخم، وأضاف بأنه سيتم الحفاظ على الانضباط المالي من خلال إدارة واقعية للمخاطر، واصفًا الفترة المقبلة بفترة “تعافٍ” تتمثل في السيطرة على آثار الوباء وزيادة النمو وفرص العمل.
كما أكد تركيزه على وضع وتطبيق سياسات تتماشى مع الأعراف الدولية وتتسم بالشفافية والقدرة على التنبؤ والمساءلة، ونوه أنه “سيتم اتخاذ الخطوات اللازمة بالتعاون مع الأطراف المعنية كافة، في مقدمتها المنظمات المدنية، من أجل تحسين الأجواء بالنسبة للمستثمرين المحليين والأجانب في النواحي كافة، عبر زيادة القدرة على التنبؤ في التشريعات وخاصة اللوائح الضريبية”، وشدد أيضًا على زيادة قدرات الإنتاج المحلي، عبر توجيه الاهتمام نحو التصدير والابتكار وتقليل الاعتماد على الاستيراد.
تفاؤل حذر
ثمة العديد من الإشارات التي تدل على أن إصلاح السياسات الاقتصادية قيد الإعداد. فوفقًا للعديد من المسؤولين المطلعين على الأمر، كان قرار إقالة أويصال من منصب رئيس البنك المركزي مدفوعًا بغضب أردوغان من استنفاد عشرات المليارات من الدولارات من الاحتياطات في محاولة فاشلة للدفاع عن العملة، الأمر الذي دفع رئيس البنك المركزي الجديد، آغبال، ببدء العمل بالفعل لاستبدال أعضاء لجنة السياسة النقدية.
ويعتقد أن لألوان علاقة عمل قوية مع رئيس البنك المركزي الجديد، وهي واحدة من الأمور التي تزيد من فرص تكثيف جهودهما المشتركة في الإصلاحات الهيكلية المنتظرة، ولا شك أنها من دوافع زيادة الثقة بأداء الاقتصاد التركي.
الأهم من ذلك، وهو المحرك الأكبر في هذه العملية، قرار أردوغان باتباع سياسة اقتصادية جديدة لبلاده تمنح فرصًا كبيرة للمستثمرين الأجانب، من خلال الاستناد إلى 3 ركائز أساسية هي، استقرار الأسعار، والاستقرار المالي، واستقرار الاقتصاد الكلي.
مؤكدًا على سعي بلاده إلى إنشاء هيكل نمو يخلق فرص عمل ولا يتسبب في حدوث تضخم أوعجز في الحساب الجاري للموازنة. ولفت النظر إلى أن الإدارة الاقتصادية لبلاده ستعمل بشكل أوثق مع المستثمرين المحليين والدوليين في المرحلة المقبلة.
والنقطة الأهم في هذا المحور تكمن في تعهد أردوغان بدعم الإدارة الجديدة في كل خطوة سوف تتخذها في الأيام القادمة، وذلك بقوله إن ألوان والمحافظ الجديد سيتبعان سياسات “شفافة ويمكن التنبؤ بها” لكبح التضخم، مضيفًا “سأقف إلى جانبهم في كل خطوة يتخذونها”.
عمومًا، السوق التركية حاليًّا في حالة تأهب، وكل الآمال مرهونة بتحركات صانعي السياسة الاقتصادية الجدد خلال الفترة المقبلة، فلا يمكن أخذ التعديلات الوزارية بالحسبان ما لم يركز البنك المركزي التركي على استقرار سعر صرف الليرة، وإعادة تشكيل السياسات النقدية وكل ما يرتبط بها.
وهي الخطة التي يمكن أن تؤدي إلى تحصين الاقتصاد التركي جزئيًا ضد الآثار السلبية لفيروس كورونا والأضرار المحتملة التي قد تسببها العقوبات الأمريكية، في حال عكس بايدن موقف ترامب وفرض عقوبات عليها في شهر مارس/آذار المقبل لحيازتها صواريخ إس 400 الروسية، لا سيما أن العلاقات الثنائية في عهد بادين ستكون أقل شخصية وودية وأكثر مؤسسية.