يبدو أن القارة الإفريقية التي كانت فيما مضى جسرًا لنهضة الغرب وتطورهم عبر استغلال ثرواتها وخيراتها، هي أيضًا طوق نجاتهم من الأزمة الاقتصادية العميقة التي باتت تُهدد كياناتهم ومكانتهم العالمية، وقد أدركت ذلك بعض القوى الصاعدة التي بدأت فعليًا التغلغل في الاقتصاد الإفريقي، فيما تبقى بعض الدول العربية الواقعة في شمال القارة عاجزةً على استغلال التحولات الإقليمية والسياسية وبنية العلاقات الدولية المتحركة.
صعود ورقة إفريقيا في بورصة الأسواق المفتوحة في العالم دفع الشركاء التقليديين (أوروبا) إلى محاولة إعادة إحياء الاهتمام وإثارة الأسئلة والشكوك عما إذا كانت الشراكة القائمة بين أوروبا (الاتحاد) وشمال إفريقيا قادرة على الوقوف أمام التمدد التركي والصيني في مجال نفوذهم التاريخي.
في هذا الاتجاه، تصاعدت الدعوات الغربية لإعادة رسم إستراتيجيات جديدة في المنطقة الإفريقية تراعي التحولات السياسية الحاصلة في تلك الدول وتغيرات موازين القوى العالمية وفي الخريطة الجيوسياسية، ومن أهم الدول الساعية إلى إحياء علاقاتها بالقارة الإفريقية، تبرز ألمانيا كأكثر الدول الحريصة على إقامة علاقات حيوية تكسر من خلالها جمود الاتفاقات الهشة السابقة كوثيقة برشلونة والجوار الأوروبي والاتحاد من أجل المتوسط.
العودة
الألمان كغيرهم من الدول الأوروبية أيقنوا مؤخرًا أن الأسواق العالمية المفتوحة للاستثمار تشهد منافسةً شرسةً بين القوى المصنعة والأخرى الصاعدة، وبالتالي فإن المحافظة على المكانة الدولية تتطلب تعزيز المكتسبات وتطوير الأداء الاستثماري عبر إرساء شراكات جديدة أو إحياء لأخرى قديمة.
ويبدو أن أصحاب القرار في ألمانيا تعزز لديهم الشك أن بلادهم غير قادرة بوضعها الحاليّ على مسايرة الصعود الهائل لمنافسيها التقليديين في إفريقيا، وهو ما تجلى في تصريحات الخبراء والسياسيين بشكل واضح، مثل عالم الاجتماع الألماني تروتز فون تروتا الذي كان من بين الأوائل المنادين بانفتاح بلادهم على القارة السمراء من خلال عبارته الشهيرة “مستقبل ألمانيا يوجد أيضًا في إفريقيا”.
ووزير التنمية جيرد مولر الذي أكد سابقًا أن “إفريقيا هي سوق النمو للغد.. الصين وتركيا وروسيا أقروا بذلك بالفعل”، وأشار إلى أن “شمال إفريقيا بصفة خاصة يعد جديرًا بالاهتمام بالنسبة للأوروبيين، يمكننا أن نوقظ تطورًا هناك يضاهي التوسع الشرقي للاتحاد الأوروبي قبل 25 عامًا”.
وازدادت أهمية القارة الإفريقية بالنسبة لألمانيا خاصة وأوروبا عامة بعد تغلغل القوى الاقتصادية الصاعدة في المنطقة كالصين وروسيا والتمدد التركي الناعم، وذلك نتيجة التحولات الرئيسية المهمة التي لعبت دورًا في صعود القارة على رأس أولويات أجندة السياسة للغرب والشرق على حد سواء.
التحولات
يُمكن القول إن التحولات السياسية (الثورات العربية) التي عرفتها المنطقة المغاربية التي تُعد البوابة الأولى لقارة إفريقيا أرض الفرص الواعدة للاستثمار، دفعت الساسة الألمان إلى تحويل أنظارهم إلى الشطر الجنوبي للمتوسط وإحياء رغبتهم في بناء نفوذ سياسي واقتصادي في القارة الإفريقية، والتموقع كقوة دافعة للسياسة الأوروبية في تلك المنطقة من خلال دعمها للانتقال السياسي في تونس وحل الأزمة الليبية.
ويبدو أن التوجه العالمي نحو إفريقيا، خلق ديناميكية سياسية في برلين تدعو للانفتاح والمشاركة على نطاق واسع بفعالية في الأزمات والتحديات في إفريقيا، بما يعزز من مكانتها ونفوذها الدوليين، لذلك فهي تعمل على تعزيز علاقاتها السياسية مع الدول الإفريقية، في ظل إدراكها المتزايد بمكانة القارة في النظام الدولي على الصعيد السياسي والاقتصادي.
التحولات السياسية للدبلوماسية الألمانية لها دوافع اقتصادية متمثلة في حاجة برلين إلى تنويع شركائها وتوسيع استثماراتها وتنمية تجارتها مع دول القارة، وتعتمد في مقاربتها على الربط بين البعدين الاقتصادي والسياسي المتمثل أساسًا في حل ظاهرة الهجرة غير الشرعية وارتفاع عدد المهاجرين الأفارقة القادمين إلى أوروبا، فهي من جهة تريد استغلال فرص الاستثمار ومن جهة أخرى إيقاف تدفقات المدنيين الأفارقة على المديين المتوسط والبعيد.
فرص اقتصادية
تحاول برلين أن تجد طريقها إلى السوق الإفريقية باعتبارها سوقًا يضمن فرصًا واعدةً للصادرات العالمية، والحصول على حصة كبيرة منها بتمهيد الطريق أمام الشركات الألمانية الكبرى إلى إفريقيا، من خلال التنافس في مجال التعاون الاقتصادي والاستثمار مع الدول الإفريقية مع الصين وبعض القوى الفاعلة الأخرى مثل روسيا.
كما تستهدف برلين تأمين الوصول إلى الطاقة (ليبيا والجزائر) والموارد المعدنية الإستراتيجية مثل الكوبالت الكونغولي والبلاتين في جنوب إفريقيا والطاقة في نيجيريا وأنجولا، من خلال وضع إستراتيجيات وسياسات ذات فاعلية تمكنها من تطوير علاقاتها مع البلدان الإفريقية، ورفع سقف استثماراتها الحاليّة المقدرة بـ9 مليارات دولار في إفريقيا سنويًا، وحجم تجارتها مع دول القارة نحو 50 مليار دولار.
وتعد جنوب إفريقيا ونيجيريا وغانا وكينيا وأنجولا أكبر خمسة شركاء اقتصاديين لألمانيا في القارة، حيث تنشط نحو 1000 شركة ألمانية تقوم بأعمال تجارية في إفريقيا، فيما تخطط 5% من الشركات الأخرى للاستثمار مستقبلًا في المنطقة، خاصة أن العلاقات الاقتصادية الألمانية الإفريقية لا ترتبط فقط بقطاع الطاقة بل تشمل السلع الاستهلاكية والخدمات اللوجستية وتطوير البنية التحتية والآلات والمواد الكيميائية والمنتجات الصناعية والزراعية وإدارة الأعمال.
وتعمل عدد من المؤسسات والشركات الألمانية في إفريقيا مثل مؤسسة أديناور Adenauer Foundations التي تنشط في الكونغو الديمقراطية والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة مثل شركة Mittelstand وشركة Hansgrohe AG ومجموعة Schwenk التي تعمل في مجال مواد البناء ونجحت في إنشاء مصنع للأسمنت في ناميبيا وشركة Siemens.
مبدأ رابح-رابح
تُعد تونس مثالًا حيًا على فشل المنوال أو التجربة الأوروبية المشتركة وتخاذل فرنسا في تفعيل ودعم سياسة الجوار الأوروبي في الاتجاه الصحيح خاصة أن الدولة العربية وجدت عسرًا في إنجاح مسارها الانتقالي السياسي والاقتصادي طيلة الـ10 سنوات الأخيرة، ما دفع ببعض الخبراء إلى المطالبة بمراجعة هذه السياسة برمتها وإبداء التحفظ المشروع إزاء مطالب الشريك الأوروبي بالمضي قدمًا في توسيع وتعميق التبادل الحر، وبضرورة تعديل الموازين وفق شراكة رابح-رابح.
الوضع الاقتصادي المتردي وتراجع القطاعات الحيوية في تونس يعود بالأساس إلى العلاقات والاتفاقات الاقتصادية غير المتكافئة خاصة مع فرنسا، التي أفرزت بدورها نتائج سلبية أخرى أشد وطأة تمثلت في اتساع رقعة البطالة وتدهور المقدرة الشرائية للمواطنين وهروب الآلاف من الشباب العاطل نحو قوارب الموت.
ويُمكن القول إن بوادر التحول في نمط تفكير النخب السياسية والاقتصادية المغاربية المرتبطة تاريخيًا بالنفوذ الفرنسي، يُمثل عودة الوعي لدى عدد من الدول المغاربية بالبعد الإفريقي في سياساتها، وهي أيضًا قيمة مضافة قد تحقق فوائد ومصالح كبيرة، على اعتبار أن القارة السمراء قادرة على منح المغاربة عنصر التوازن الإستراتيجي في علاقتها مع الغرب في حال وظفت موقعها الجيو-إستراتيجي كحلقة وصل بين أوروبا وإفريقيا.
وعلى عكس فرنسا، تعد ألمانيا شريكًا يمتلك نوعًا من الأفضلية بالنسبة لإفريقيا، حيث إنها تحظى بالتقدير الدولي وتتمتع بسمعة طيبة على الصعيد الإفريقي فيما يتعلق بأخلاقيات العمل الألماني والدقة والموثوقية واحترام المعايير الاجتماعية ودعم التنمية المستدامة، ما يُمكن من زيادة الاستثمار وإحياء العلاقات الاقتصادية وتعزيز النمو في تلك الدول والاستفادة من كونها سوقًا ضخمةً.
مقومات النجاح
التقارب المغربي الألماني قد يفتح آفاقًا جديدةً للمنطقة التي تُعاني من عدم استقرار سياسي واقتصادي مزمن ناتج عن منوال اقتصادي تقليدي تتحكم فيه اتفاقات استعمارية تصب في صالح فرنسا صاحبة النفوذ التاريخي في المنطقة، وهو ما عبر عنه في وقت سابق وزير الخارجية الألماني هايكو ماس في مقال نشرته مجلة “فيرتشافتس فوخه” الاقتصادية الألمانية، بقوله “الدول المغاربية يمكن أن تصبح مصدرًا للطاقة وذات أهمية في المستقبل بفضل الطاقة الشمسية التي تتوافر عليها”.
كما يُمكن للدول المغاربية الاستثمار في مكانة ألمانيا كدولة ذات وزن كبير في الاتحاد الأوروبي وفي إمكاناتها الهائلة صناعيًا وتكنولوجيًا، وكذلك في النقاط التالية:
- الاستثمار في سعي برلين لموازنة الدور الفرنسي في القارة خاصة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
- الاهتمام الألماني بتنويع مصادر الطاقة والاستفادة من الموارد المعدنية والنفطية في إفريقيا، باعتبارها قضية أساسية لبرلين التي تعد واحدة من أكبر البلدان الصناعية في العالم.
- استثمار في سعي برلين نحو تعزيز صادراتها في قطاع الطاقة من خلال تقديم التكنولوجيا إلى الشركات الإفريقية.
- يمكن للمغاربة الاستفادة من مبدأ “رابح-رابح” مع ألمانيا التي تبحث عن القبول الإفريقي لوجودها في المنطقة (الاستثمارات).
- الاستفادة من النموذج الألماني في قطاع التصنيع ومن خبرات النجاح في التكنولوجيا قصد نقلها.
- الاستفادة من موقع ألمانيا في الاتحاد الأوروبي على اعتبار أنها محرك القاطرة من أجل صياغة توجه أوروبي جديد تجاه إفريقيا في ظل التغيرات الديناميكية.
- الاستثمار في المخاوف الأوروبية من الهجرة وتعزيز المكتسبات (مقاربة تنموية).
عوائق التقارب
يصطدم التقارب المغاربي الألماني بعدد من العوائق والعراقيل التي يُمكن حصرها في العوامل السياسية بالمقام الأول، فغياب الاستقرار في ليبيا نتيجة الحرب تسبب في تراجع صادرات ألمانيا نحو ليبيا إلى أدنى مستوياتها، كما تتعرض وارداتها من الطاقة الليبية إلى اضطرابات متأتية من المخاطر المتواصلة.
كما يبدو سقف برامج التنمية والتعاون الاقتصادي مع تونس والمغرب، محدودًا ومحاصرًا بمشاكل بيروقراطية يتسبب فيها عادة المسؤولين الذين تربطهم بفرنسا علاقات كبيرة وكذلك النخب المؤثرة التي ترتبط عضويًا بباريس وتعمل على إبقاء الوضع على ما هو عليه، بل يسعون إلى تعزيز التبعية وإعاقة أي جهود لمراجعة الاتفاقات التاريخية.
أما التعاون الألماني مع الجزائر فيتركز في مجال الطاقة وبدرجة ثانية مبيعات الأسلحة، حيث تتحكم النخب الفرنكوفونية المرتبطة هي الأخرى بباريس بالقطاعات الحيوية كالتجارة والاستثمار والتصنيع، كما يعد انتشار الفساد في معظم الأوساط الإفريقية، فضلًا عن غياب الشفافية السياسية، من أهم العوامل التي تُثير قلق المستثمرين الألمان.
فرنسا الخبيثة لم تخرج من شمال إفريقيا إلى يوم فيها اذيالها و عملائها وخدامها لعنة الله عليكم جميعا اهكذا يرد جميل الشهداء الأبرار
— Khalis (@Khaliss09741871) November 7, 2020
وفي السياق ذاته، فإن الخلافات بشأن ملف الهجرة تشكل إحدى العوائق الرئيسية التي تحول دون تحقيق تقارب مغاربي ألماني، فدول شمال إفريقيا لم تستطع إلى الآن التخلص من المقاربة الأمنية التي تفرضها فرنسا لحل إشكال الهجرة غير الشرعية، ولم تطرح بديلًا قادرًا على استثماره في المفاوضات على غرار النموذج التركي.
لم يفهم المغاربة أن الألمان بعكس الفرنسيين تمامًا، لا يهرولون إلى البلدان الإفريقية ولا يشجعون الانقلابات ولا يستثمرون في الحكام الطغاة، لكنهم ينتظرون من يتقدم إليهم بمشاريع وبرامج تنموية تُقنعهم وتُغريهم على الاستثمار وإقامة الشراكات، لذلك فإن سياسة برلين المترددة تجاه التقارب مع المغاربة يمكن إرجاعها إلى الاضطراب السياسي وضبابية المشهد في كل من تونس والجزائر وانسداد عملية الاندماج بين بلدن الاتحاد المغاربي لأسباب سياسية.
فألمانيا كانت قد استثمرت خلال السنوات الأخيرة الكثير من المال والدعم السياسي والأمني من أجل ترسيخ عملية الانتقال الديمقراطي في البلد العربي الوحيد الناجي من تداعيات “الربيع العربي”، وحاولت تنفيذ برامج تعاون واعدة ليس للتنمية في تونس فقط، بل أيضًا في أفق فتح فرص للشباب في القارة الإفريقية، إلا أن الديمقراطية الناشئة في تونس ما زالت نتائجها الاقتصادية لم تترجم في الواقع، كما أنها تبدو محاطة بمحيط إقليمي مضطرب، مما يحد من فرص تحول الشراكة التونسية الألمانية إلى قاعدة في العمق الإفريقي.
بالنهاية، التحول في السياسة الألمانية الخارجية نحو القارة الإفريقية عمومًا والمنطقة المغاربية بشكل خاص يأتي في وقت يشهد فيه الاتحاد الأوروبي حالة تجاذبات على المستوى الداخلي وضعف كبير على الصعيد الخارجي، الأمر الذي أفسح المجال لقوى إقليمية وعالمية أخرى للعب أدوار أكثر فعالية، وهو أمر يتخوف منه الأوروبيون بشدة، فيما لم يبد المغاربة أي رد فعل إلى الآن ولم يحركوا ساكنًا رغم أن الحرب الاقتصادية قائمة على أرضهم.