يد ترفع شعارات الحرية وأخرى تسكت أصوات المعارضة.. الوجه الآخر لماكرون

في الوقت الذي انتفض فيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون دفاعًا عما أسماه “حرية التعبير” في بلاده تعليقًا على تداعيات الرسوم المسيئة للنبي عليه السلام، مبررًا موقفه هذا، بالانتصار لقيم الديمقراطية والحريات، يأتي في موقف آخر مناقضًا تمامًا للشعارات التي رفعها إبان تلك الأزمة.
فبينما يحاول تصدير صورة مشرقة بشأن ما تتمتع به بلاده من مساحات غير محدودة للحريات بشتى أنواعها، كونها بلاد النور والحرية، إذ به ينزعج من بعض المقالات المنشورة في عدد من الصحف التي تنتقد سياساته، فالرئيس الذي سعى إلى كسب التعاطف العالمي معه بزعم دعمه لقيم الديمقراطية وحقوق التعبير دون أي أبعاد سياسية أو دينية، لم يتحمل إرهاصات معارضة لسياساته من خلال مقالين وجها النقد له، الأمر الذي دفعه بصورة غير مباشرة إلى التدخل لمنعهما وحذفهما بعد ساعات قليلة من نشرهما.
التناقض الواضح والازدواجية الفجة التي يتعامل بها ماكرون مع شعارات الحرية أسقطت القناع عن مثالية الهدف ونزاهة التوجه، إذ بات يقينًا أن مثل هذه المواقف تهدف لخدمة أجندة سياسية محددة، فحين تكون الحرية في صالح الرئيس وسياساته فأهلًا بها ومرحبًا، لكن حين تتعارض معها فمصلحة الدولة أهم وأبقى من تلك الحريات التي تحولت إلى أداة سياسية في يد ماكرون ونظامه.
انتقادات سياسات ماكرون
الكاتب الصحفي البريطاني بيتر أوبورن، في تقرير نشره على موقع “ميدل إيست آي” استعرض إحدى الوقائع التي تكشف الوجه الآخر لماكرون، ذلك الديكتاتور الذي يرفض أي انتقادات توجه له، ويستغل نفوذه السياسي في إسكات الأصوات المعارضة له، رغم أنه يصدر نفسه “بطلًا للدفاع عن حرية التعبير”.
أوبورن استشهد في تقريره بمقالين منشورين في “بوليتيكو يوروب” و”فاينانشال تايمز، تطرقا إلى انتقادات لسياسات ماكرون فيما يتعلق بالتعامل مع ملف “الإسلام وأزمة الرسوم المسيئة”، الأول لأستاذ علم الاجتماع المتقاعد في كلية الدراسات المتقدمة في العلوم الاجتماعية بباريس، فرهاد خوسروخفار، والثاني لمرسلة “فاينانشال تايمز” في بروكسل، مهرين خان، وجاء تحت عنوان “حرب ماكرون على الانفصالية الإسلامية يزيد من الانقسام داخل فرنسا”.
المقالان جاءا تعقيبًا على اللقاء الذي أجراه ماكرون على قناة “الجزيرة” مبررًا موقفه، ومتراجعًا عن هجومه الشديد على الإسلام ووصفه بـ”الإرهاب الإسلامي”، لكن بعد ساعات قليلة من نشرهما على الموقعين، تم حذفهما بصورة مفاجئة، بحجة أنهما يتضمنان أخطاءً جوهريةً ومخالفات للسياسة التحررية.
لم يقتنع الصحفي البريطاني بتلك المبررات التي لا تستدعي على الإطلاق حذف المواد المنشورة، فعلى أقصى تقدير يتم تعديلهما، لكن الشك تعاظم بداخله أكثر حين وجد ردودًا رسمية على المقالين (المحذوفين أصلًا) أحدهما من المتحدث باسم الحكومة، أما الثاني فكان ماكرون نفسه هو من كتب الرد.
رغم حذف المقال، فإن الموقع نشر في الـ2 من نوفمبر/تشرين الثاني ردًا من الناطق باسم الحكومة الفرنسية، غابريل آتال، استنكر فيه مقال خوسروخفار الذي اتهمه بأنه حاول من خلاله “توجيه اللوم على تلك الأحداث المأساوية إلى علمانية فرنسا”
البداية كانت حين طلبت مؤسسة “بولتيكو يوروب” الإعلامية من خوسروخفار كتابة مقال ردًا على الهجمات التي وقعت مؤخرًا في فرنسا، وعلى الفور استجاب أستاذ علم الاجتماع للطلب وكتب مقالًا في 31 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تساءل فيه: لماذا تعاني فرنسا أكثر من غيرها من جيرانها الأوروبيين من هجمات المتعاطفين مع الجهاديين؟
وفي المقال رأى الكاتب أن السبب الحقيقي وراء تلك المعاناة الفرنسية يكمن في “نمط العلمانية المتطرف الذي تعتنقه فرنسا، وارتباطه الوثيق بالكفر، الأمر الذي يغذي التطرف داخل الأقلية المهمشة”، لكن ما هي إلا ساعات قليلة حتى رفع المقال من الصحيفة، ونشر في محله “ملاحظة من المحرر”، ستيفين بروان، جاء فيها أن المقال تم سحبه، لأنه “لا يتوافق مع معاييرنا التحريرية”.
إسكات صوت المعارضين
ورغم حذف المقال، فإن الموقع نشر في الـ2 من نوفمبر/تشرين الثاني ردًا من الناطق باسم الحكومة الفرنسية، غابريل آتال، استنكر فيه مقال خوسروخفار الذي اتهمه بأنه حاول من خلاله “توجيه اللوم على تلك الأحداث المأساوية إلى علمانية فرنسا”، وهو ما وصفه الوزير بأنه “إهانة لأولئك الذين ماتوا وتبديل لا يخطر بالبال للأدوار بين من شنوا الهجوم ومن كانوا ضحية له، ما دفع الكاتب لشن هجوم على الصحيفة متهمًا إياها بفرض رقابة على المطبوعات”.
المقال الثاني المنشور في فاينانشال تايمز جاء بعد مقال بولتيكو بأيام قليلة، حيث اتهمت فيه مراسلة الصحيفة في بروكسل حكومة ماكرون باختيار “إذكاء الهلع المعنوي حول الإسلام والمسلمين”، لافتة إلى أن الرئيس الفرنسي “اختار إستراتيجية تخدم اليمين المتطرف وطموحاته الانتخابية”.
وكحال المقال الأول جاء المقال الثاني، فبعد ساعات قليلة تم حذفه ليحل محله توضيح من الصحيفة يقول إن المقال تمت إزالته بعد أن تبين احتواؤه على أخطاء في المعلومات، وكانت الحجة أن خان كتبت “لم يحصل أن ارتكبت امرأة ترتدي غطاء الرأس هجومًا إرهابيًا في فرنسا”، إذ إن ذلك لم يكن صحيحًا، بجانب أنها نسبت إلى الرئيس عبارة “الانفصالية الإسلامية” بدلًا من “الانفصالية الإسلاموية”.
الوزير البرتغالي السابق لشؤون أوروبا والزميل في معهد هدسون حاليًّا، برونو ماكيس، أشار إلى أن مكتب الرئيس ماكرون “أجرى مكالمة هاتفية غاضبة مع فاينانشال تايمز”
وبدلًا من تصويب تلك الأخطاء التي لا يحتاج تعديلها لثوان معدودة تم حذفه بالكامل، ومع ذلك لم يكن من الغريب إزالة المقال من الصحيفة، لكن بعد يومين فقط من نشره فوجئ الجميع بتخصيص مساحة كبيرة في الصحيفة للرئيس الفرنسي ليتولى بنفسه حق الرد على مقال مهرين خان.
وبلغة يكسوها التعجرف والغرور، بحسب وصف الكاتب البريطاني، فقد استنكر ماكرون ما جاء في المقال المحذوف، لافتًا إلى أن كلامه جرى تحريفه، مضيفًا “اتهمني بوصم المسلمين الفرنسيين لأغراض انتخابية، وإشاعة مناخ من الخوف والريبة تجاههم”، فيما وجه كلامه للقراء: “دعونا لا نرعى الجهل من خلال تحريف كلمات رئيس دولة”.
وهنا تواصل أوبورن مع إدارة التحرير في الصحيفتين لاستطلاع رأيهما في أسباب حذف المقالين، غير أنهما أكدا له عدم تلقيهما أي تعليمات من الحكومة الفرنسية بشأنهما، وأن الحذف جاء بناء على مخالفات في السياسة التحريرية ومعلومات غير صحيحة، لكن ردود الحكومة والرئيس على المقالين بعد إزالتهما هو ما أثار الشك في نفس الكاتب البريطاني.
ويتوقع الكاتب أن تدخلًا حدث من الإليزيه لحذف المقالين بعدما تضمنا انتقادات حادة لماكرون وسياساته، وهو الرأي الذي عززه الوزير البرتغالي السابق لشؤون أوروبا والزميل في معهد هدسون حاليًّا، برونو ماكيس، الذي أشار إلى أن مكتب الرئيس ماكرون “أجرى مكالمة هاتفية غاضبة مع الفاينانشال تايمز”.
ومما رجح هذا الرأي الرد الذي كتبه ماكرون بنفسه في الصحيفة والمساحة الممنوحة له، حيث جاءت رسالته مليئة بالأخطاء التي لم تعلق الصحيفة عليها، ومن بينها وصفه “أحياء ترتدي فيها البنات بعمر ثلاث أو أربع سنين النقاب الذي يغطي الوجه كاملًا، واللواتي يتم فصلهن عن الصبيان، ويتم فصلهن من سن مبكرة جدًا عن باقي المجتمع، وتتم تنشئتهن على كراهية قيم فرنسا”.
وعلى الفور طلب موقع “ميدل إيست آي” من الإليزيه والفاينانشال تايمز دليلًا واحدًا على مزاعم ماكرون تلك، لكنه لم يتلق أي رد من أي منهما، ليرد الموقع بتصريح لأحد المشاركين في تأسيس منتدى المسلمين ويدعى “مروان محمد” الذي قال فيه:
“لقد تنقلت بشكل مكثف في كل أرجاء فرنسا، وزرت المئات من التجمعات المحلية للمسلمين، ولم أشهد بتاتًا ما وصفه الرئيس ماكرون، أحياء ترتدي فيها البنات بعمر ثلاث سنين النقاب، وتعشن منفصلات عن أشقائهن، كما أن مثل هذا التوصيف لم يرد في أي دراسة اجتماعية أو ميدانية”، وهو الرد الذي كشف زيف أخبار ماكرون وكذبها وأن الهدف لم يكن مطلقًا تصحيح معلومات قدر ما هو غضب لتعرضه للانتقاد.
ازوداجية في المعايير
الإعلام الفرنسي خاصة والغربي على وجه العموم بدأ يفطن لتلك الازدواجية التي يتبعها ماكرون فيما تعامله مع ملف الحريات بصفة عامة، فها هي “الفايننشال تايمز” في تقرير سابق لها تتهم فرنسا بتناقض قيم الحرية، في الحرب التي تتبناها على ما يسمى “الانعزالية الإسلامية”.
الصحيفة ترى أن مشروع القانون المقدم من ماكرون الذي روج له بصورة مكثفة، والزاعم بأنه ينتصر لعلمانية الدولة الفرنسية، يستند على فرضيتين، الأولى أن “إرهاب المتشددين الإسلاميين يتغذى من انتشار التيار السلفي في الأحياء الفرنسية الفقيرة، والثاني أن محاربته تقتضي تعزيز أو فرض قيم الجمهورية”.
وفي قراءة للفرضين يلاحظ أن الهدف منهما لا سيما الأول هو استهداف “الانعزالية” الإسلامية وحدها، دون المجموعات الدينية الأخرى أو المجموعات الانفصالية والعلمانية مثل القومية الكورسيكية، وفي التفاصيل تمنع فرنسا الدول الإسلامية من إرسال دعاة إليها، مكتفية بما لديها ومن يتخرجون تحت أعينها.
وتتساءل الصحيفة “ما العلاقة بين التيارات الإسلامية والعنف الإرهابي؟ وما القيم الجمهورية التي تريد الحكومة حمايتها وتعزيزها؟”، إلا أنها استندت في الإجابة إلى إحدى الدراسات التي أجريت على خريطة الجرائم العنصرية في البلاد، حيث توصلت إلى أن معتنقي التطرف في فرنسا لم يعتنقوه على يد السلفيين في المساجد والمدارس القرآنية الموجودة في الأحياء الفقيرة كما تقول الحكومة الفرنسية، مرجعة تطرفهم إلى مجموعات صغيرة وضيقة من الأصدقاء كان لهم تأثيرهم القوي، بجانب الارتماء في بعض النصوص ذات التأويل المتطرف من خلال البحث على مواقع الإنترنت والسوشيال ميديا.
رغم أن ماكرون لا ينكر اللقاء الذي جمعه ومسؤول حزب الله، فإنه اعترض على النشر، ضاربًا بشعارات حرية التعبير التي لا يرفعها إلا في وجه الهجوم على الإسلام أو لخدمة أجنداته السياسية وبما يرسخ نظام حكمه الهش، عرض الحائط.
صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية ألقت الضوء على إحدى الوقائع التي تكشف زيف ادعاءات ماكرون، وذلك حين تداول نشطاء مقطعًا مصورًا له خلال لقائه برئيس الكتلة البرلمانية لحزب الله “محمّد رعد”، في أثناء زيارته إلى لبنان مطلع سبتمبر الماضي.
المقطع أوضح كيف وبخ ماكرون الصحفي الذي نشر هذا المقطع، قائلًا له “نشر الخبر يعتبر لا مبالاة بحساسية الموضوع، وعدم مسؤولية تجاه فرنسا والسياسيين اللبنانيين، كما أنه يتعارض مع أخلاق العمل الصحفي”، بل تجاوز إدانة الصحفي إلى إدانة الصحيفة برمتها موجهًا خطابه لها بقوله: “أحدّثكم بصراحة، ما فعلتموه خطير وغير مهني ووضيع”.
ورغم أن ماكرون لا ينكر اللقاء الذي جمعه ومسؤول حزب الله، فإنه اعترض على النشر بزعم تهديد ذلك لمصالح بلاده، ضاربًا بشعارات حرية التعبير التي لا يرفعها إلا في وجه الهجوم على الإسلام أو لخدمة أجنداته السياسية وبما يرسخ نظام حكمه الهش، عرض الحائط.
شيئًا فشيئًا يسقط القناع، وتنكشف الحقائق، لتؤكد أن عراب الحريات في أوروبا ليس سوى ميكافيللي التوجه لا يهمه إلا مصالحه الشخصية ومستقبله السياسي، أما ادعاءات حريات التعبير التي يدغدغ بها مشاعر الأوروبيين فليست إلا شعارات ذات هدف سياسي بحت لاعلاقة لها بما يتبناه من هتافات بين الحين والآخر.