نشرت الحكومة الروسية، أمس الأربعاء 11 من نوفمبر/تشرين الثاني 2020 مسودة اتفاق مع الخرطوم، تكشف عزم موسكو تأسيس مركز لوجستي للبحرية التابعة لها في السودان يستوعب ما يصل إلى 300 جندي وموظف، وقادر على استيعاب ما لا يزيد على أربع سفن بما في ذلك السفن المزودة بتجهيزات نووية.
وجاء في المسودة التي نشرتها الحكومة على موقعها الرسمي أن القاعدة المزمع تأسيسها في السودان سيكون الهدف منها الحفاظ على السلام والاستقرار في المنطقة، وأنها لن تستخدم في أغراض دفاعية ضد الدول الأخرى، علاوة على إمكانية استخدامها في الإصلاحات وتجديد الإمدادات لأفراد طاقم السفن الروسية.
كما أقرت للجانب السوداني أحقيته في “استخدام منطقة الإرساء بالاتفاق مع الجهة المختصة من الجانب الروسي”، فيما نصت على إمكانية بقاء سفن حربية لا يتعدى عددها أربع سفن في القاعدة البحرية، بما فيها المزودة بنظام الدفع النووي، مع اشتراط مراعاة معايير السلامة البيئية والنووية.
وبموجب تلك الاتفاقية في حال إقرارها رسميًا تتبادل الخرطوم وموسكو المعلومات والآراء المتعلقة بالقضايا السياسية والعسكرية، بجانب تعزيز التعاون الأمني والثقة المتبادلة وتطوير العلاقات في مجال التدريب الهندسي وكل مجالات العلوم العسكرية من تاريخ وتضاريس وطب وهيدروغرافيا وخلافه.
وقد وافق رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين على المسودة المقدمة من وزارة الدفاع، كما وافقت وزارة الخارجية والمحكمة العليا ومكتب المدعي العام ولجنة التحقيق الفدرالية الروسية، ونُشرت على موقع الحكومة، فيما سيتم رفعها إلى الرئيس فلاديمير بوتين للتوقيع عليها.
تدشين قاعدة عسكرية في خاصرة مصر الجنوبية وعلى الحدود المتاخمة للسعودية وكلتاهما حليفة للسودان، رغم أنها ليست المرة الأولى التي يثار فيها إعلاميًا، فإنه تحرك يثير الكثير من التساؤلات، هذا بخلاف ما يمكن أن يحدثه من إثارة لحفيظة الولايات المتحدة التي باتت على بعد خطوات قليلة من رفع اسم السودان من قوائم الدول الراعية للإرهاب بعد سنوات طويلة من الانعزالية الدولية.. فماذا تريد موسكو والخرطوم من هذه القاعدة؟
اتفاق قديم
تدشين المركز اللوجستيي الروسي يأتي ضمن اتفاق قديم وقعه الرئيس المعزول عمر البشير في موسكو قبل 3 أعوام، وكان يتضمن إقامة علاقات عسكرية متطورة بين البلدين بجانب تعزيز العلاقات الاقتصادية، ومن ضمن بنوده كذلك تسلم السودان 300 دبابة روسية بعد عام من التوقيع.
ومن ثم فإن المسودة المشار إليها التي أعلنتها الحكومة الروسية هي مجرد استكمال لبنود الاتفاق القديم، وفق ما ذكر المحلل السياسي السوداني عصام دكين الذي يرى أن المكون العسكري في السلطة الحاليّة قرر المضي قدمًا في تنفيذ الاتفاق القديم الذي بدأت إرهاصاته الأولى تظهر عمليًا في أكتوبر الماضي حين أهدت موسكو سفينة تدريب عسكرية للقوات البحرية السودانية في الـ11 من الشهر.
ومن الممكن أن يتطور هذا المركز اللوجستي غير مكتمل المعالم حتى كتابة هذه السطور ليكون قاعدة بحرية عسكرية روسية في البحر الأحمر بالقرب من شرق السودان، وهو الموقع الإستراتيجي الذي يتحكم في حركة المرور البحرية في البحر الأحمر.
يذكر أنه في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 كان البشير قد عرض على فلاديمير بوتين في منتجع “سوتشي” الروسي إقامة قاعدة عسكرية روسية في البحر الأحمر بالسودان، يستخدمها الجنود الروس لحماية الخرطوم من أمريكا، وهو العرض الذي أثار الكثير من الجدل داخل الشارع السوداني في هذا الوقت بحسب الصحفي بكري الصائغ.
مجرد الاتفاق على إنشاء مركز لوجستي من شأنه أن يقود لقاعدة عسكرية روسية في البحر الأحمر هو تحقيق لحلم قديم طالما راود رؤساء الدولة الروسية على مدار عقود طويلة مضت، وذلك بعد فشل محاولاتهم السابقة كافة لإنشاء قاعدة لهم فوق أرض إفريقية
وفي يناير 2019 نقلت وكالة “سبوتنيك” الروسية عن رئيس لجنة الدفاع والأمن بالبرلمان السوداني، اللواء الهادي آدم، قوله: “موافقة روسيا على اتفاقية لتسهيل إجراءات دخول السفن الحربية الروسية والسودانية إلى موانئ البلدين، يمكن تطويرها مستقبلًا لبناء قاعدة روسية في المياه الإقليمية للسودان على البحر الأحمر”.
ويمثل هذا الاتفاق بحسب المسؤول السوداني خطوة “تصب في خانة بناء علاقات إستراتيجية بين السودان وروسيا”، لافتًا إلى أن إقامة قواعد عسكرية روسية فوق الأراضي السودانية حق أصيل للبلاد على غرار بعض الدول في الإقليم، قائلًا “نرى من حولنا عددًا من الدول في الإقليم، لها اتفاقيات مع دول أخرى وتوجد لديها قواعد عسكرية في تلك الدول، لكن نحن الآن في إطار التعاون وتبادل الزيارات للسفن الحربية”.
وعن اختيار روسيا على وجه التحديد لإقامة تلك القاعدة دون غيرها من دول المنطقة رغم العروض المقدمة من بعض القوى أشار رئيس لجنة الدفاع والأمن بالبرلمان السوداني قائلًا: “لا بد أن يكون لكل دولة حليف، والحليف الإستراتيجي، يمكن نقول عنه إنه هو (الصديق وقت الضيق)، متى تخلى عنك الآخرون، فالحليف الإستراتيجي لا يتخلى عنك، ونرى ذلك على سبيل المثال العلاقة الإستراتيجية بين روسيا وسوريا، لذلك تعتبر هذه الخطوة مهمة جدًا بالنسبة لنا”.
السودان: تنويع العلاقات الخارجية
تندرج تلك الخطوة في هذا التوقيت إلى سعي السلطة السودانية المؤقتة لا سيما المكون العسكري إلى تنويع علاقاتها مع مختلف الأطراف الفاعلة في المجتمع الدولي، فالتعويل على الولايات المتحدة والمعسكر الغربي فقط ربما يضع البلاد في مأزق حال توتر العلاقات بينهما.
وضع البيض في سلة واحدة إستراتيجية محفوفة المخاطر بالنسبة للخرطوم في هذه الوضعية الحرجة التي تحياها بسبب تداعيات أزمة كورونا ومأزقها الاقتصادي الحاد، بجانب التوترات السياسية والأمنية التي تعززت بقرار توقيع اتفاق التطبيع مع دولة الاحتلال.
ظلت الخرطوم لسنوات تضع أمريكا ودول الخليج قبلتيها في تحديد سياساتها الخارجية، الأمر الذي انعكس سلبًا على الثقل الإقليمي والدولي للبلد ذي الموقع الإستراتيجي المتميز، ولعل هذا ما دفع الجنرالات الجدد لإعادة لنظر في تلك الإستراتيجية القديمة التي لم يحصد السودان منها إلا المزيد من التقزيم والإفقار.
يذكر أن الحكومة السودانية المؤقتة بقيادة عبد الله حمدوك كانت قد وضعت ضمن أولوياتها إعادة النظر في خريطة تحالفات البلاد الخارجية، وأن تكون الكلمة في النهاية لمصالح السودان العليا بعيدًا عن أي معايير قديمة كان لها دور محوري في التأثير على استقلالية القرار السيادي للدولة الإفريقية.
روسيا: تعزيز النفوذ داخل إفريقيا
مجرد الاتفاق على إنشاء مركز لوجستي من شأنه أن يقود لقاعدة عسكرية روسية في البحر الأحمر هو تحقيق لحلم قديم طالما راود رؤساء الدولة الروسية على مدار عقود طويلة مضت، وذلك بعد فشل محاولاتهم السابقة كافة لإنشاء قاعدة لهم فوق أرض إفريقية تطل على ممر مائي بحجم وقيمة البحر الأحمر.
ففي ستينيات القرن الماضي، فشل الرئيس الروسي الراحل نيكيتا خروتشوف في إقناع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر بالحصول على أرض مصرية لبناء قاعدة روسية فوقها، رغم العلاقة القوية التي كانت تجمع الزعيمين والدعم العسكري الكبير الذي قدمته موسكو للقاهرة في ذلك الوقت.
وحين تولى ليونيد برينجنيف مقاليد الأمور بعد تنحي خروتشوف عن السلطة في أكتوبر/تشرين الأول 1964، لم يفقد الأمل في تحقيق الحلم القديم، فكثف محاولاته مع الرئيس محمد أنور السادات لإقامة قاعدة في أي من الحدود المصرية المترامية الأطراف، لكن جميعها باءت بالفشل.
الأمر ذاته حدث مع الرئيس السابق هواري بومدين الذي كان صديقًا للاتحاد السوفيتي في سنوات الستينيات، ومع ذلك رفض كل الإغراءات التي قدمها له الروس، لتتغير القبلة إلى ليبيا، حيث عُرض على الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي إقامة قاعدة روسية على البحر المتوسط لكنه رفض لأسباب عدة في مقدمتها الخوف من إثارة غضب الأمريكان وقتها.
التعويل على الدعم الأمريكي فقط ربما لم يعد الخيار الأمثل للسودانيين، خاصة أن ملف شطب اسم السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب لا يزال أمامه شوط لإقراره من الكونغرس
المحاولات ذاتها فشلت مع حكومات إفريقية معروف عن خطها السياسي تماشيه مع الفكر الاشتراكي ولها علاقات قوية مع موسكو، وعلى رأسها أنغولا الشعبية وموزمبيق وجمهورية الكونغو الديمقراطية، غير أن الفشل كان النتيجة الوحيدة لتلك المحاولات لتخرج موسكو خاوية الوفاض من القارة الإفريقية، إلى أن أعادها البشير مرة أخرى وفق الاتفاق المزمع توقيعه.
تمثل إفريقيا بالنسبة لروسيا سوقًا مهمًا ومحطةً إستراتيجيةً بالغة الخطورة، حيث يتطلع الروس لتعزيز نفوذهم داخل القارة في محاولة للسيطرة على ثرواتها المعدنية ومصادر الطاقة، بجانب أن الكثير من دول القارة يمكن أن تنعش تجارة الأسلحة الروسية التي تدر مئات المليارات إلى الخزانة الروسية.
إقامة قاعدة عسكرية روسية في السودان جزء من إستراتيجية معدة سلفًا تستهف تعظيم النفوذ العسكري الروسي في القارة السمراء لمزاحمة النفوذ الأمريكي والصيني الذي يتصاعد يومًا تلو الآخر، علمًا بأن السودان ليس القبلة الوحيدة لموسكو في هذا المضمار، فهناك عدة دول أخرى على رأسها إريتريا وجيبوتي.
ماذا عن الحلفاء (أمريكا – السعودية – مصر)؟
تحرك كهذا من شأنه أن يثير غضب الحلفاء، خاصة أنها ليست المرة الأولى التي يثار فيها هذا الموضوع الذي تتحفظ عليه القاهرة على وجه التحديد ويمثل لها تهديدًا لأمنها القومي من الناحية الجنوبية وحركة الملاحة في قناة السويس، وهو ما تحاول الخرطوم التقليل من تأثيره من خلال تقاربها الدبلوماسي مع الجارة الشمالية خلال الآونة الأخيرة.
تستغل الخرطوم العلاقة الوطيدة التي تربط بين النظام المصري ونظيره الروسي خلال السنوات الماضية في تحركها الأخير، لكن من الصعب أن تقبل القاهرة بمثل هذه القاعدة من غير ضمانات حقيقية تحول دون تهديدها لأمنها، ولعل هذا ما سيحاول جنرالات السودان تطمين الجانب المصري من خلاله.
الأمر ذاته مع الجانب السعودي الذي تشكل تلك القاعدة تهديدًا لمصالحه في اليمن وعلى الممر المائي من الخليج العربي، لكن التعاطي السوداني مع الملف اليمني ومساعي التقارب الأخيرة بين جنرالات السودان الجدد ونظام ولي العهد محمد بن سلمان، ربما تكون عاملًا مؤثرًا في تخفيف حدة الغضب، هذا بخلاف ما يمثله هذا الملف من ورقة بأيدي جنرالات السودان الجدد لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب الخليجية.
أما فيما يتعلق بالموقف الأمريكي، فربما هو الأكثر تهديدًا لنفوذ الولايات المتحدة الإفريقي في ظل حرب النفوذ بينها وبين الصين ورسيا، لكن التعويل على الدعم الأمريكي فقط ربما لم يعد الخيار الأمثل للسودانيين، خاصة أن ملف شطب اسم السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب لا يزال أمامه شوط لإقراره من الكونغرس، وربما تتغير الإدارة برمتها بعد قدوم جو بايدن حال إقرار فوزه بشكل رسمي، فمن الممكن أن يكون هذا الاتفاق ورقة ضغط جيدة على الأمريكان للإسراع بشطب السودان من قوائم الإرهاب وإنهاء عزلته الدولية التي استمرت لعقود طويلة.
من السابق لأوانه تقييم هذا الاتفاق الذي لا يعرف أحد متى سيدخل حيز التنفيذ بصورة عملية، إلا أنه بلا شك سيثير الكثير من التساؤلات المفترض الإجابة عنها في أسرع وقت بالنسبة لعدد من الأطراف الإقليمية والدولية، وكما أنه من المتوقع أن يُحدث حالة من السيولة السياسية في المنطقة خلال الفترة المقبلة.