بعد نحو ستة أسابيع من المعارك في إقليم ناغورني قره باغ، وقع الجانبان الأرميني والأذربيجاني اتفاقًا لإنهاء الصراع ووقف إطلاق النار، وبالمقابل ستحتفظ أذربيجان بكل الأراضي التي سيطرت عليها في الفترة الماضية، وذلك بعد أن كانت تخضع لسيطرة الأرمن منذ عام 1994.
انتصار كان للأتراك فيه دور مهم وحاسم، حيث دعمت أنقرة باكو سياسيًا ودبلوماسيًا وعسكريًا، وهو ما سيمنحها مقعدًا ودورًا في أي مفاوضات قادمة في هذه المنطقة الإستراتيجية، فما طبيعة هذا الدور؟ وما أبرز المكاسب السياسية التي حققتها تركيا؟
انتصار لأنقرة
صحيح أن المنتصر الأول في هذا الاتفاق الذي جاء بعد تسارع وتيرة سيطرة القوات الأذربيجانية على أجزاء واسعة من إقليم ناغورني قره باغ واقترابها من عاصمته ستيباناكرت، هي أذربيجان، فقد نجحت في تحرير أراضيها المحتلة منذ عقود، إلا أنه يعد أيضًا انتصارًا كبيرًا لأنقرة.
ففي السابق لم تتمكن أذربيجان من كسر التحصينات الأرمينية الموجودة على أراضيها المحتلة، وتمكنت هذه المرة من تغيير موازين القوى في ظل الدعم التركي القوي لها، فقد شاركت تركيا أذربيجان في القتال طوال فترة الحرب، وتبادلت خبراتها العسكرية التي حققتها في السنوات الأخيرة مع باكو، ما مكن الأخيرة من تحقيق مكاسب ملموسة، لأول مرة منذ 26 عامًا.
من المنتظر أن يسمح إنشاء مركز المراقبة المشترك في إقليم قره باغ، بمراقبة الامتثال لوقف الأعمال العدائية في الإقليم
جدير بالذكر أن الجيش الأذري استعمل في حربه الأخيرة ضد الجيش الأرميني، أسلحة تركية من بينها طائرات “إف-16” وطائرات بيرقدار المسيرة في حربه الحاليّة، لكن هذه المعدات الحربية كلها تابعة له وسبق أن اشترتها باكو بأموالها في وقت سابق من تركيا.
يضاف إلى ما سبق، أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي سبق أن أشار إلى أن سكان البلدين يشكلون “شعبًا واحدًا”، وأن أنقرة تدعم جمهورية القوقاز بشكل كامل، عمل طوال فترة الحرب على تحييد جميع الضغوط السياسية الدولية على أذربيجان.
قوات حفظ سلام تركية
صحيح أن الاتفاق الأخير لم يأت فيه ذكر مباشر لدور تركي في تنفيذ وقف إطلاق النار، إلا أن أذربيجان تحرص على خلق توازن القوى عبر إشراك تركيا في عملية حفظ السلام وذلك من خلال البند الخامس المدرج في الاتفاق، الذي يقضي بتأسيس مركز المراقبة على وقف إطلاق النار.
وقبل يومين، أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن موسكو وأنقرة وقعتا مذكرة لإطلاق مركز مشترك لمراقبة وقف إطلاق النار في قره باغ، بالتزامن مع إعلان أردوغان تأسيس المركز الذي سيكون ضمن الأراضي الأذربيجانية التي تم تحريرها من الاحتلال الأرميني، لاتخاذ كل التدابير اللازمة لمنع أي انتهاك لوقف إطلاق النار.
من المنتظر أن يسمح إنشاء مركز المراقبة المشترك في إقليم قره باغ، بمراقبة الامتثال لوقف الأعمال العدائية في الإقليم، وكانت وزارة الدفاع التركية قد نشرت مقطع فيديو يتضمن مشاهد توقيع الوزير خلوصي أكار ونظيره الروسي شويغو، مذكرة التفاهم المتعلقة بتأسيس المركز التركي-الروسي المشترك لمراقبة وقف إطلاق النار في الإقليم الأذربيجاني.
عقب ذلك، أكد وزير الدفاع التركي خلوصي أكار أن بلاده حاضرة ميدانيًا وسياسيًا في اتفاق قره باغ المبرم بين أذربيجان وأرمينيا قبل أيام، مؤكدًا في بيان له أنه لا يمكن لأحد أن يُخضع تركيا لسياسة الأمر الواقع في المنطقة، وأشار في هذا الإطار إلى أن وفدًا روسيًا كبيرًا سيزور تركيا، لبحث المسائل التقنية والتكتيكية بخصوص اتفاق وقف إطلاق النار في إقليم قره باغ الأذربيجاني.
فيما أكد وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو خلال مؤتمر صحافي في باكو نقلته قنوات التلفزة التركية، أن بلاده ستبحث في طريقة عمل المركز المشترك لمراقبة وقف إطلاق النار مع الوفد الروسي الذي يزور تركيا اليوم، مؤكدًا أن بلاده ستضطلع بالدور نفسه مع روسيا “في هذا المركز الذي سيكلف مراقبة خروقات محتملة لوقف إطلاق النار برًا وجوًا”.
طريق إستراتيجي
بالإضافة إلى المكاسب السياسية، تسعى تركيا من خلال هذا الاتفاق إلى الاستفادة من جيوب قره باغ التي انسحب منها الأرمن، ومن بينها الطريق إلى ناخيتشيفان، الإقليم الأذربيجاني الذي كانت تفصله أراضٍ أرمينية بالقرب من الحدود مع تركيا وإيران.
كان الوصول إلى إقليم ناخيتشيفان (نَخجَوان) قبل الاتفاق، يتطلب المرور إما عبر أذربيجان الغربية (مقاطعة إيرانية) وإما من خلال أرمينيا، لكن بعد استعادته، سيتيح إقليم ناخيتشيفان لأذربيجان الاتصال الجغرافي مع تركيا من خلال شريط حدودي فاصل بطول 23 كيلومترًا وبنافذة عرضها 8 كيلومترات.
يقع إقليم ناخيتشيفان الذي يتمتع بحكم ذاتي، بين أرمينيا وإيران وتركيا على الهضبة الواقعة جنوب منطقة القوقاز، عاصمته تحمل نفس الاسم وهي مدينة ناخيتشيفان، ويعد الإقليم من أكثر أجزاء الاتحاد السوفييتي السابق عزلة، ونادرًا ما يزوره السياح.
هذا الطريق له فوائد كثيرة لتركيا، خاصة أنه يحتوي على سكة حديدية قيد الإنشاء ستتيح إمكانية نقل أنواع مختلفة من البضائع الإستراتيجية إلى الإقليم المعزول، ويبلغ تعداد سكان الإقليم 450 ألف نسمة، أي أنه سوق مهمة للبضائع التركية.
انتصار أذربيجان في حربها مع أرمينيا، عززت من خلاله تركيا مكانتها في المنطقة وأثبتت أنها قوة لا يُستهان بها ويعمل لها ألف حساب هناك
في يوليو/تموز الماضي، طرحت شركة بوتاش التركية الحكومية للطاقة، مناقصة لإنشاء خط أنابيب غاز لتزويد طريق ناخيتشيفان الأذربيجاني، وسيؤدي طريق الإمداد الجديد إلى تهميش مبيعات الغاز الإيراني إلى أذربيجان.
وتدعو مناقصة بوتاش إلى تصميم خط أنابيب يمتد على بعد نحو 80 كيلومترًا من مدينة إغدير شرقي تركيا إلى الحدود مع ناخيتشيفان، ويكون الخط قادرًا على حمل ما يصل إلى ملياري متر مكعب من الغاز، وهو أكثر من أربعة أضعاف استهلاك الإقليم.
ومن المقرر أن تكتمل أعمال التصميم بحلول أوائل عام 2021، مما يعني أنه يمكن إنشاء الخط وتشغيله في وقت مبكر من عام 2022، وفق الشركة التركية، بذلك ينتهي اعتماد ناخيتشيفان على طهران للحصول على الغاز الطبيعي للتدفئة المنزلية وتوليد الطاقة.
قاعدة عسكرية تركية في ناخيتشيفان
لن يكتفي الأتراك بذلك، فهم يسعون أيضًا إلى استغلال هذا الطريق الإستراتيجي في نقل المعدات العسكرية التركية إلى الإقليم المنفصل جغرافيًا عن باقي أذربيجان، ما يسهل على أنقرة إقامة قاعدة عسكرية هناك.
وتحدثت وسائل إعلام أذربيجانية مؤخرًا، عن وجود محادثات ثنائية مشتركة بين أنقرة وباكو بخصوص إنشاء قاعدة عسكرية تركية في ناخيتشيفان، معقل أذربيجان المتاخم لتركيا، ومن المحتمل أن يكون الطرفان قد توصلا إلى نتيجة مشتركة في هذا الشأن.
وفي سبتمبر/أيلول الماضي، أجرت القوات التركية والأذربيجانية مناورات عسكرية واسعة في ناخيتشيفان بهدف تطوير التنسيق بينهما، شارك فيها 2600 جندي و200 دبابة ومدرعة و180 نظامًا صاروخيًا ومدفعية وقذائف هاون.
هذه المناورات التي استمرت يومًا واحدًا، شهدت مشاركة 18 مروحية وأكثر من 30 نظامًا للدفاع الجوي، لتحييد أهداف عدو مفترضة، في إطار هذه المناورات جرى تدمير الأهداف المحددة بالصواريخ وقذائف المدفعية، ثم نفذ الجنود عمليات هجومية.
كما شهد الإقليم في أواخر يوليو/تموز الماضي، إجراء مناورة جوية تكتيكية مع إطلاق النار بالذخيرة الحية استمرت حتى منتصف أغسطس/آب، وشاركت في المناورات طائرات هليكوبتر هجومية ومقاتلات تابعة للقوات الجوية التركية، ما يؤكد حجم التعاون بين البلدين والتحضير لما هو قادم.
حماية خطوط إمداد الطاقة
يمكن الاتفاق الأخير تركيا من حماية خطوط إمداد الطاقة، فمنطقة توفوز الأذرية التي شهدت هجمات أرمينية، تتمتع بموقع إستراتيجي حساس على خريطة أمن الطاقة، حيث يمر من تلك المنطقة خط أنابيب غاز عابر للأناضول.
بفضل خط أنابيب الغاز الطبيعي باكو – تبيليسي – أرضروم، بدأت أنقرة تقلل اعتمادها على موسكو وطهران، وقد ساهم النفط والغاز الأذربيجاني في تقليل فاتورة الطاقة التركية من الغاز الإيراني والروسي إلى حد ما، كما تمكنت تركيا من زيادة حجم الاستهلاك من هذه الموارد الحيوية.
إلى جانب ذلك، سيكون بمقدور تركيا التي وصلت نسبة اعتمادها على الغاز الأذربيجاني إلى 35%، إنهاء العقد طويل الأجل لاستخدام الغاز الروسي بحلول نهاية 2021، ومن المتوقع تراجع نسبة اعتماد تركيا على موارد الطاقة الروسية والإيرانية، بعد بدء “تاناب” العمل بالسعة الكاملة.
يعتبر خط “تاناب” الذي ينطلق من نقطة قرب ولاية أدرنة التركية (شمال غرب) لنقل الغاز إلى خط أنابيب الغاز الطبيعي عبر البحر الأدرياتيكي “تاب”، عبر اليونان وإيطاليا، طريقًا مهمًا في خريطة إمدادات الغاز الطبيعي في أوروبا.
انتصار أذربيجان في حربها مع أرمينيا، عززت من خلاله تركيا مكانتها في المنطقة وأثبتت أنها قوة لا يُستهان بها، فقد تمكنت من فرض رؤيتها هناك وتعزيز نفوذها بما يخدم توجهها الإقليمي.