يتصاعد زخم الاحتجاجات الرافضة لاتفاق السلام السوداني الإسرائيلي المتوقع إبرامه خلال الآونة القادمة مع اقتراب زيارة وفد إسرائيلي للخرطوم الأسبوع القادم في محاولة للضغط في اتجاه وقف أي خطوة للتطبيع والمطالبة بإلغاء ما تم من خطوات تقارب خلال الأسابيع القليلة الماضية.
وقد دشن نشطاء سودانيون حملات إلكترونية على منصات التواصل الاجتماعي لتعزيز حالة الرفض الشعبي، أبرزها حملة “مليون توقيع ضد التطبيع” التي أطلقتها تيارات سياسية رافضة للاتفاق، ولاقت استجابة كبيرة، تتوسع يومًا تلو الآخر، الأمر الذي يضع السلطة الانتقالية بمكونيها، المجلس السيادي والحكومة، في مأزق حقيقي أمام تعهداتها الخارجية.
التصعيد الشعبي الذي تتسع رقعته شيئًا فشيئًا نجح في خلق مزاج عام رافض للتقارب مع دولة الاحتلال قبل استرداد الشعب الفلسطيني على كامل حقوقه، التزامًا بالخط التاريخي للخرطوم، عاصمة اللاءات الثلاث (“لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض مع إسرائيل) كما جاء في قمة بيروت العربية 1967.
لكن ومع هذا التصاعد التزم الاحتجاج – حتى كتابة هذه السطور – بالسياق السلمي، غير أن إصرار السلطة الحاليّة على المضي قدمًا في تفعيل الاتفاق المزمع أثار الكثير من التخوفات من استدراج الحراك لمستنقع العنف في ظل النبرة القوية التي تبنتها بعض التيارات التي أعلنت مناهضتها للتطبيع منهج لا يتوقف.
وكان الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته، دونالد ترامب، قد أعلن في 23 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عن اتفاق السودان و”إسرائيل” على تطبيع كامل للعلاقات بينهما، وذلك عقب اتصال مشترك مع رئيسي الوزراء السوداني عبد الله حمدوك والإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ليصبح السودان الدولة العربية الخامسة التي تدخل حظيرة التطبيع رسميًا منذ نشأة الكيان المحتل، وذلك بعد الإمارات والبحرين هذا العام، والأردن 1994 ومن قبلهم مصر عام 1979.
تصاعد الرفض السياسي
تخيم على الأجواء حالة من الضبابية في ظل تصاعد حدة الانقسام بين مختلف التيارات بشأن الموقف من هذا التحرك الذي ألقى بظلاله القاتمة على خريطة البلاد السياسية فزاد من تقسيمها وتشرذمها، ففي الوقت الذي تدافع فيه السلطة عن خطوة التطبيع بدعوى الانتصار لمصالح السودان العليا تتصاعد يومًا بعد الآخر موجات الرفض بين الأحزاب والمكونات الأخرى.
إرهاصات الانقسام بدأت من داخل الائتلاف الحاكم، وعلى رأسه قوى “الحرية والتغيير” وهي التحالف الأكبر في تاريخ البلاد والمكون من عدد من الكيانات أبرزها “تجمع المهنيين” و”تحالف الإجماع الوطني” و”تحالف نداء السودان” و”تحالف التجمع الاتحادي والقوى المدنية” التي أعلنت رفضها لأي خطوات تطبيعية مع دولة الاحتلال.
وكانت أحزاب “الشيوعي” و”البعث العربي الاشتراكي” و”الناصري” المكونة لـ”تحالف الإجماع الوطني” أول من بادر بالرفض، كذلك أحزاب “الأمة القومي” و”المؤتمر السوداني” و”البعث السوداني” و”الجبهة الثورية” المنضوية تحت تحالف “نداء السودان”، فأشارت إلى أنه “ليس من حق سلطات الفترة الانتقالية التقرير في القضايا الخلافية الكبيرة التي هي من صميم عمل الحكومات المنتخبة”.
الانقسام السياسي تعزز بصورة أكبر مع الرفض الشعبي الذي يتصاعد بصورة كبيرة منذ اللقاء الأول الذي جمع بين رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان ونتنياهو في أوغندا فبراير/شباط الماضي، ما ساعد في النهاية على تدشين جبهة سياسية شعبية رافضة للتطبيع، نجحت في توسعة حضورها ودائرة نفوذها مع مرور الوقت.
رغم اتساع رقعة الكيان الرافض للتطبيع الذي يضم حتى الآن أكثر من 30 حزبًا وجماعة ومنظمة مجتمع مدني بعضها من داخل قوى الائتلاف الحاكم، فإن هناك حالة من التشكيك لدى الشارع في قدرة هذا الكيان على الضغط على السلطة الحاكمة
الخسائر أكبر
عزف أضلاع مثلث التطبيع في البلاد (البرهان – حمدوك – حميدتي) منذ إعلان ترامب عن اتفاق التطبيع على وتر المكاسب المتوقع تحقيقها من وراء تلك الخطوة التي حصروها في تعزيز التعاون الاقتصادي والاستثماري بين البلدين بعيدًا عن الأمور السياسية بما ينعكس سلبًا على القضية الفلسطينية.
السودانيون يبحثون منذ الإطاحة بنظام عمر البشير أبريل/نيسان 2019 على إيجاد مخرج لأزماتهم الاقتصادية، لكن يبدو أن هذه المرة سيكون عبر بوابة دولة الاحتلال، وفي الوقت الذي يعدد فيه خبراء جملة المكاسب المتوقع تحقيقها من هذه الخطوة، هناك من يؤكد أن الخسائر ستكون أكبر وأن “إسرائيل” الرابح الوحيد.
سودانيًا.. من المتوقع حال إبرام الاتفاق الاستفادة من التقنيات الحديثة لـ”إسرائيل” في مجال الزراعة، التي من شأنها أن تساهم في تحقيق طفرة إنتاجية كبرى بالسودان، هذا بجانب التوليد الكهربائي والاتصالات والمجالات البحثية، لكن خبراء يعتبرون أن الاستفادة الاقتصادية والأمنية القصوى، ستكون لصالح دولة الاحتلال، حيث النفوذ الإفريقي المتسع، بجانب قطع أي إمدادات متوقعة للمقاومة الفلسطينية في غزة عن طريق السودان كما كانت من قبل.
الشارع على خط الأزمة
رغم اتساع رقعة الكيان الرافض للتطبيع الذي يضم حتى الآن أكثر من 30 حزبًا وجماعة ومنظمة مجتمع مدني بعضها من داخل قوى الائتلاف الحاكم، فإن هناك حالة من التشكيك لدى الشارع في قدرة هذا الكيان على الضغط على السلطة الحاكمة لإثنائها عن خطوات التطبيع مع المحتل.
خبراء يقللون من قدرة الأحزاب المنضوية تحت ائتلاف “قوى التغيير” على إحداث أي حراك شعبي، لافتين إلى اكتفائها بالبيانات النظرية فقط، مستبعدين فكرة الانضمام لأي احتجاجات أو تظاهرات ميدانية، فليس من مصلحتها تصعيد الأمور أكبر من السقف الموضوع، لافتين إلى أنه لو هناك نية حقيقية للتصعيد من تلك الأحزاب لانسحبت من الحكومة.
تدحرج كرة الثلج من الأحزاب إلى الشارع تحمل معها الكثير من المخاوف بشأن تجاوز الحراك لإطاره السلمي نحو مستنقع العنف
وعليه فإن الأمل المعقود من الكيان التنسيقي المناهض للتطبيع يعتمد بشكل أساسي على الشارع وليس الأحزاب، وهو ما بدأ يلوح في الأفق مؤخرًا من خلال العديد من التظاهرات والاحتجاجات التي خرجت في بعض المدن للتنديد باتفاق التطبيع والضغط على السلطة لعدم التوقيع والتراجع عن هذه الخطوة التي وصفوها بأنها “سبة في جبين البلاد”.
ويسعى الرافضون لتلك الاتفاقية إلى تكوين حراك شعبي داخلي يكون نواة لتشكيل جبهة وطنية عريضة، يليه جبهة عروبية أكثر اتساعًا لتشمل بعض الدول العربية، ومنها إلى الحصول على دعم الأحرار في دول أمريكا وآسيا وبعض الدول الإسلامية الأخرى لتدشين كيان دولي قوي مناهض للتطبيع دون حصول الفلسطينيين على كامل حقوقهم.
مخاوف العنف تتصاعد
تدحرج كرة الثلج من الأحزاب إلى الشارع تحمل معها الكثير من المخاوف بشأن تجاوز الحراك لإطاره السلمي نحو مستنقع العنف، وهو ما أشار إليه الأمين العام لحزب المسار الوطني لؤي عبد المنعم، الذي أبدى تخوفه من انتهاج بعض الجماعات المتطرفة العنف لوقف قطار التطبيع.
ومما يعزز تلك المخاوف أن أكثر المنضوين تحت جبهة مناهضة التطبيع التيارات الإسلامية والأحزاب العقائدية “الشيوعي والبعث” وهي التيارات المعروف عنها التشبث بمواقفها والدفاع عنها مهما كان الثمن، الأمر الذي ربما يتسبب في أزمة حقيقية حال إصرار السلطة على المضي قدمًا في طريقها.
ويتوقع الأمين العام لحزب المسار الوطني في تصريحاته لـ”الجزيرة” أن تشهد البلاد مظاهرات عارمة حال فتح سفارة إسرائيلية في الخرطوم، قد تصل إلى استهدافها بهجمات مسلحة من جماعات متطرفة وجهادية، وهو ما قد يدخل الحكومة في ورطة ويضع مستقبل الاستقرار السياسي والأمني على المحك.
وعليه يميل عبد المنعم إلى مماطلة الحكومة السودانية في افتتاح سفارة لـ”إسرائيل” في البلاد رغم زيارة الوفد العبري المزمع الأسبوع المقبل للاتفاق على تفاصيل خطوات التطبيع، خوفًا من فشلها في حماية الدبلوماسيين الإسرائيليين وأسرهم، إذ إنهم سيقابلون برفض شعبي كبير وأن الشارع لن يتقبلهم وهو ما قد ينجم عنه ممارسات تسعى الخرطوم وتل أبيب لتجنبها في الوقت الراهن.
حالة من القلق تفرض نفسها هذه الأيام على الشارع السوداني الذي يعاني من أعراض انسلاخ شبه كامل من مرتكزاته العروبية القديمة، فيما يحبس الملايين من أبناء الدولة الإفريقية أنفاسهم ترقبًا لما يمكن أن تتمخض عنه زيارة الوفد الإسرائيلي للخرطوم، مع تصاعد مخاوف انجرار البلاد إلى مستنقع العنف.